الأمر الثانی فی الواضع وحقیقة الوضع
إنّ من العسیر جدّاً تحلیل اُصول الألسنة المتنوّعة المنتشرة فی أرجاء الدنیا وأطراف العالم ، والذی یمکن الاعتماد علیه ـ ویؤیّده العلم والتجربة ـ هو تکامل الإنسان قرناً بعد قرن فی شؤونه وأطواره فی عیشته وحیاته ، وفیما یرجع إلیه من النواحی الاجتماعیة والمدنیة ، بعد ما کان خلواً من هذه الجهات الحیویة .
ومن تلک النواحی تکثّر لسانه وتزاید أفراده ، بل توسّع لسان واحد علی حسب مرور الزمان ووقوفه أمام تنوّع الموجودات والمصنوعات ؛ فاللسان الواحد ـ کالعربی أو العبری ـ لم یکن فی بدء نشأته إلاّ عدّة لغات معدودة ، تکمّلت علی حسب وقوفهم علی الأشیاء ، مع احتیاجهم أو اشتیاقهم إلی إظهار ما فی ضمائرهم إلی أن بلغت حدّاً وافیاً ، کما هو المشاهَد من المخترعین وأهل الصنعة فی هذه الأ یّام .
نعم ، تنوّع أفراده إنّما هو لأجل تباعد الملل وعدم الروابط السهلة بین الطوائف البشریة ؛ فاحتاج کلّ فی إفهام مقاصده إلی وضع ألفاظ وتعیین لغات .
وعلیه : فلیس الواضع شخصاً واحداً معیّناً ، بل اُناس کثیرة وشِرذِمة غیر
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 21 قلیلة ، علی اختلافهم فی العصور وتباعدهم فی الزمان .
وما عن بعضهم من أنّ الواضع هو الله تعالی ، وقد ألهم بها أنبیائه وأولیائه ؛ مستدلاًّ بلزوم العلاقة بین الألفاظ ومعانیها ؛ دفعاً للترجیح بلا مرجّح ، وامتناع إحاطة البشر علی خصوصیات غیر متناهیة .
غیر مسموع ؛ إذ المرجّح لاینحصر فی الرابطة بین اللفظ والمعنی ، بل قد یحصل الترجیح باُمور اُخر ، کسهولة أدائه أو حسن ترکیبه أو غیر ذلک ، علی أنّ الامتناع مسلّم لو کان الواضع شخصاً معیّناً محدوداً عمره ووقته .
ثمّ إنّ دعوی وجود المناسبة الذاتیة بین الألفاظ ومعانیها ـ کافّة ـ قبل الوضع ممّا یبطله البرهان المؤیّد بالوجدان ؛ إذ الذات البحت البسیط الذی له عدّة أسماء متخالفة من لغة واحدة أو لغات : إمّا أن یکون لجمیعها الربط به ، أو لبعضها دون بعض ، أو لا ذا ولا ذاک ؛ فالأوّل یوجب ترکّب الذات وخروجه من البساطة المفروضة ، والأخیران یهدمان أساس الدعوی .
والتمسّک بأنّه لولا العلاقة یلزم الترجیح بغیر المرجّح قد عرفت جوابه ؛ وأنّ الترجیح قد یحصل بغیر الربط . وأمّا حصوله بعد الوضع فواضح البطلان ؛ لأنّ تعیین لفظٍ لمعنی لایصیر علّة لحصول علاقة واقعیة تکوینیة ؛ إذ الاعتبار لایصیر منشأً لحصول أمر واقعی حقیقی ، والانتقال إلی المعنی إمّا لأجل بناء المستعملین علی کون استعمالهم علی طبق الوضع ، أو لجهة الاُنس الحاصل من الاستعمال .
وما ربّما یقال : من أنّ حقیقة الوضع لو کانت اعتباریة ودائرة مدار الاعتبار یلزم انعدام هذه العُلقة بعد انقراض المعتبرین وهلاک الواضعین والمستعملین ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 22 فلا ضیر فی الالتزام به ؛ إذ هذا هو الفرق بین القوانین الحقیقیة الفنّیة ـ کقانون الجاذبة وسیر النور وأوزان الأجسام ـ وبین الاعتباریة ـ کقانون الازدواج والنظام ـ فإنّ الاُولی ثابتة محقّقة ؛ کشفت أو لا ، لوحظ خلافها أم لم یلحظ ، بخلاف الثانیة ؛ فإنّ سیرها وأمَد عمرها مربوط بامتداد الاعتبار .
فاللغات المتروکة البائد أهلها ، المقبورة ذواتها وکتبها مسلوبة الدلالة ، معدومة العُلقة ، کقوانینها الاعتباریة .
وأمّا حقیقة الوضع : فهی ـ علی ما یظهر من تعاریفها ـ عبارة عن جعل اللفظ للمعنی وتعیینه للدلالة علیه ، وما یری فی کلمات المحقّقین من التعبیر بالاختصاص أو التعهّد فهو من آثار الوضع ونتائجه ، لانفسه .
وأمّا ما اُقیم علیه من البرهان : من أنّه لایعقل جعل العلاقة بین أمرین لا علاقة بینهما ، وإنّما المعقول هو تعهّد الواضع والتزامه بأنّه متی أراد إفهام المعنی الفلانی تکلّم بلفظ کذا ؛ فهو حقّ لو کان الوضع إیجاد العلاقة التکوینیة ، وأمّا علی ما حقّقناه من أنّه تعیین اللفظ للمعنی فهو بمکان من الإمکان .
بل ربّما یکون الواضع غافلاً عن هذا التعهّد ، کما یتّفق أن یکون الواضع غیر المستعمل ؛ بأن یضع اللفظ لأجل أن یستعمله الغیر .
وبه یتّضح : بطلان تقسیمه إلی التعیینی والتعیّنی ؛ لأنّ الجعل والتعیین الذی هو مداره مفقود فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 23
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 24