بیان الشیخ الأعظم لترجیح رجوع القید إلی المادّة
نعم ، نقل عن الشیخ الأعظم هنا وجهان لترجیح إرجاعه إلی المادّة ، وإلیک البیان :
الأوّل : أنّ إطلاق الهیئة شمولی کالعامّ وإطلاق المادّة بدلی ، وتقیید الثانی أولی . وقرّر وجه الأولویة بعض الأعاظم بأنّ تقدیم الإطلاق البدلی یقتضی رفع الید عن الإطلاق الشمولی فی بعض مدلوله ، بخلاف تقدیم الشمولی ؛ فإنّه لایقتضی رفع الید عن الإطلاق البدلی ؛ فإنّ المفروض أنّه الواحد علی البدل ، وهو محفوظ . غایة الأمر : أنّ دائرته کانت وسیعة ، فصارت ضیّقه .
وببیان آخر : أنّ البدلی یحتاج ـ زائداً علی کون المولی فی مقام البیان ـ إلی إحراز تساوی الأفراد فی الوفاء بالغرض حتّی یحکم العقل بالتخییر ، بخلاف الإطلاق الشمولی ؛ فإنّه لایحتاج إلی أزید من ورود النهی علی الطبیعة غیر المقیّدة ، فیسری الحکم إلی الأفراد قهراً . فمع الإطلاق الشمولی لایحرز تساوی الأفراد ، فیکون الشمولی حاکماً علی البدلی ، انتهی ملخّصاً .
قلت : سیوافیک فی مبحث المطلق والمقیّد أنّ تقسیم الإطلاق إلی الشمولی والبدلی غیر صحیح ؛ لأنّ دلالة المطلق علی الإطلاق لیس دلالة لفظیة بل دلالة عقلیة ، بخلاف العامّ ؛ فإنّ دلالته علی العموم لفظیة لاعقلیة . فالعامّ یکون شمولیاً وبدلیاً ، لا المطلق وإطلاقه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 337 وتوضیحه حسب ما یناسب المقام : أنّک قد عرفت أنّ اللفظ إذا وضع لمعنی لا یدلّ إلاّ علی نفس ما وضع له ، ولا یمکن التجاوز به عنه إلی غیره ، فلو کان اللفظ موضوعاً للطبیعة لایعقل ـ حینئذٍ ـ دلالته علی الخصوصیات والأفراد والحالات ، بل لابدّ فی الدلالة علیها من دالّ لفظی آخر .
وأمّا الإطلاق المستفاد من مقدّمات الحکمة فلیس دلیلاً لفظیاً ، بل دلیل عقلی ، وهو لایجعل غیر الدالّ دالاًّ وغیر الحاکی حاکیاً ؛ لأنّ معنی الإطلاق هو أنّ ما وقع تحت دائرة الحکم تمام الموضوع للحکم ، من غیر دخالة قید أو شرط .
وعلیه فالدالّ علی ذلک هو العقل ؛ حیث یستکشف من عدم ذکر القید فی الکلام ـ مع کونه فی مقام البیان ـ أنّ تمام الموضوع هو ما وقع تحت دائرة الحکم .
یرشدک إلی هذا الإطلاق الموجود فی کلام ربّ العزّة « أَحَلَّ الله ُ البَیْعَ » ؛ حیث یدلّ علی أنّ تمام الموضوع للحلّیة هو نفس طبیعة البیع لا أفرادها ، کما أنّ معنی الإطلاق فی قول القائل «أکرم عالماً» هو أنّ تمام الموضوع لوجوب الإکرام هو العالم فقط ، لا هو مع قید آخر .
وبالجملة : الذی یستفاد من الإطلاق لیس إلاّ کون الواقع موضوعاً للحکم تمام العلّة لثبوته ، وأمّا الشمول والبدلیة بمعنی کون الحکم شاملاً لجمیع الأفراد أو فرد منها ، أو بمعنی أنّ الطلب هل یسقط بإیجاد فرد منها أو بإیجاد کلّها فغیر مربوط بالإطلاق ، بل لابدّ فی استفادة أیّ واحد من الشمول والبدل من التماس دلیل آخر غیر الإطلاق .
فظهر ممّا ذکرناه : أنّ تقسیمه إلی الشمولی والبدلی باطل من رأسه ، فلا وجود لهما فی الإطلاق حتّی نبحث عن وجود المرجّحات .
نعم ، لو جعلا من أقسام العموم الذی یدور دلالته مدار اللفظ لکان لهذا
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 338 التقسیم معنی محصّل ؛ لأنّ الدالّ علی العموم الشمولی فی الألفاظ هو لفظ «کلّ» و«اللام» وما أشبههما ، وما یدلّ علی العموم البدلی هو «أیّ» الاستفهامیة وغیره .
وقس علیه قولنا «أکرم عالماً» فالدالّ علی وجوب واحد غیر معیّن من الأفراد هو «التنوین» ، کما أنّ الدالّ علی إجزاء کلّ واحد من الأفراد وتساویها فی الحکم ، وأنّ الفقاهة ـ مثلاً ـ لا خصوصیة لها هو الإطلاق .
فتلخّص : أنّ ما یستفاد من دوالّ آخر لایجوز أن یجعل من مدالیل الإطلاق . وظهر أنّ معنی الإطلاق فی قوله تعالی : « أَحَلَّ الله ُ البَیْعَ » هو کون البیع وحده ـ لا مع قید آخر ـ تمام الموضوع فقط ، وأمّا الشمول لو ثبت فیه فیحتاج إلی دالّ آخر غیر الإطلاق . وقس علیه باب النواهی ممیّزاً مدلول الإطلاق عن مدلول غیره .
ثمّ إنّه لو سلّمنا وجود البدلی والشمولی فی الإطلاق ، لکن لا وجه لتقدیم أحدهما علی الآخر .
وما تقدّم عن بعض الأعاظم من أنّ تقیید الشمولی تصرّف فی الدلیل دون البدلی ، فإنّه باقٍ علی مفاده ؛ وإن رجع إلیه القید ، غایة الأمر : صارت دائرته مضیّقة ، من غرائب الکلام ؛ فإنّ التضییق لایصار إلیها إلاّ بعد التقیید ، وهو عین التصرّف فی الدلیل المساوق مع رفع الید عنه .
وبالجملة : إرجاع القید إلی کلّ واحد یستلزم التصرّف فیه ـ ولو بالتضییق ـ ومعه کیف یصحّ أن یقال بأنّه لو رجع إلی المادّة لایرفع الید عن الدلیل ؟
وأغرب منه ما ادّعاه ثانیاً فی ترجیح التقیید البدلی من أنّه یحتاج إلی أمر زائد علی مقدّمات الحکمة لإثبات تساوی الأفراد بخلاف الشمولی ؛ فإنّ نفس تعلّق النهی یکفی فی السرایة .
قلت : وفی کلا الادّعائین نظر ـ لو لم نقل : إنّ الأمر علی عکسه ـ فإنّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 339 تساوی الأفراد فی موضوعیتها للحکم إنّما یستفاد من نفس الإطلاق ، لا بمعنی کون الأفراد موضوعاً له ، بل إنّ الإطلاق یفید کون العالم فی «أکرم عالماً» تمام الموضوع ، ولیس لشیء آخر دخل فیه ، وهو عین تساوی الأفراد فی الحکم ؛ لکون تمام الموضوع متحقّقاً فی کلّ واحد .
فنفس تعلّق الحکم کافٍ فی إثبات الإطلاق البدلی ، ولکن نفس تعلّق الحکم لایکفی فی السرایة والشمول ؛ ولو بعد مقدّمات الحکمة ، فإنّ الظاهر أنّ المراد من السرایة هو سرایة الحکم إلی الأفراد بخصوصیاتها ، والمفروض أنّ الحکم لایتجاوز عن موضوعه الذی هو نفس الطبیعة لا الأفراد ، إلاّ أن یکون الموضوع لفظ «کلّ» و«لام» التعریف .
فبان : أنّ ما یثبت بإطلاق کون الطبیعة تمام الموضوع ، وأمّا أنّ الحکم لکلّ واحد بنحو الشمول فیحتاج إلی دلیل آخر غیر الإطلاق .
هذا کلّه فی البدلی والشمولی فی غیر المقام .
وأمّا فی المقام : فلا نتصوّر لهما معنی محصّلاً ، فلو فرضنا أنّ إطلاق الهیئة شمولی والمادّة بدلی ، ولکن الشمول فی الهیئة یوجب کون إطلاق المادّة شمولیاً أیضاً ؛ لأنّ معنی الشمول فی الهیئة هو البعث علی کلّ تقدیر ، وتعلّق الإرادة علی کلّ فرض ، وبعبارة ثانیة : البعث علی جمیع التقادیر ؛ بحیث یکون فی کلّ تقدیر إیجاب ووجوب ، ومعه کیف یمکن أن یکون إطلاق المادّة بدلیاً ؟ إذ کیف تتعلّق إرادات وإیجابات فی عرض واحد علی فردٍ ما ؟
والحاصل : أنّه یستکشف من تنظیر المقام بالعامّ أنّ معنی الشمول هو البعث علی کلّ التقادیر ، ومعه لایحتفظ بدلیة المادّة ؛ لعدم إمکان تعلّق الإرادات بنحو العرضیة علی فردٍ ما ، بلا تکثّر فی المتعلّق .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 340 فإن قلت : إنّ معنی الشمولی هو أنّ البعث واحد غیر مقیّد ، والمراد من وجوبه علی کلّ تقدیر أنّه لایتعلّق الوجوب بتقدیر خاصّ ، لا أنّ لکلّ عدد من التقادیر بعث خاصّ .
قلت : إنّ هذا رجوع عن الإطلاق الشمولی ؛ فإنّ المادّة أیضاً بهذا المعنی لها إطلاق شمولی .
ولعمر الحقّ ! أنّک إذا تأمّلت فیما ذکرنا وفیما سیوافیک توضیحه فی محلّـه ، لعلمت : أنّ الإطلاق الشمولی والبدلی ممّا لا محصّل لهما ، ولو فرض لهما معنی معقول ففیما نحن فیه غیر معقول ، ومع فرض تعقّلهما لا وجه لتقدیم أحدهما علی الآخر عند التقیید .
الوجه الثانی : أنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة ؛ لأنّها ـ لا محالة ـ لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة بخلاف تقیید المادّة ؛ فإنّ محلّ الحاجة إلی إطلاق الهیئة علی حاله ، فیمکن الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید وعدمه ، وکلّما دار الأمـر بین تقییدین کذلک کان التقیید الذی لایوجب بطلان الآخـر أولی .
وفیه : أنّک بعد ما عرفت أنّ القیود بحسب الواقع مختلفة بالذات لایختلف ولایختلط بعضها ببعض فحینئذٍ إن أراد من قوله إنّ إرجاعه إلی الهیئة یوجب إبطال محلّ الإطلاق فی المادّة ، أنّ القید بحسب نفس الأمر یرجع إلی المادّة فقد عرفت بطلانه ، وأنّ التمیّز بین القیدین واقعی لا اعتباری .
وإن أراد أنّ تقیید الهیئة یوجب نحو تضییق فی صاحبتها وإبطالاً لمحلّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 341 إطلاقها ـ کما هو ظاهره ـ ففیه أنّ العکس أیضاً کذلک ، فإنّه إذا قلنا «أکرم زیداً إن جاءک» وفرضنا أنّ القید راجع إلی البعث فکما أنّ الهیئة مقیّدة دون المادّة ـ أی یجب علی فرض مجیئه نفس طبیعة الإکرام بلا قید ـ لکن یوجب ذلک تضییقاً قهریاً فی نفس الإکرام أیضاً ، لا بمعنی التقیید ، بل بمعنی إبطال محلّ الإطلاق فیها ، فکذلک إذا ورد القید علی المادّة فقط فإنّ الهیئة ـ حینئذٍ ـ تتضیق قهراً ولا تدعوا إلاّ إلی المقیّد .
وإن شئت فاستوضح ذلک بمثالین فیما إذا قلنا «أکرم زیداً» وما إذا قلنا «أکرم زیداً ، إکراماً مقیّداً بمجیئه» ، فإنّا نجد مع کون البعث فی الثانی أیضاً مطلقاً ـ ولو من جهة تحقّق المجیء ولا تحقّقه کالمثال الأوّل ـ إلاّ أنّ دائرة الطلب فی الأوّل أوسع من الثانی ؛ لأنّه یدعوا إلی نفس الإکرام ـ قارن بالمجیء أو لا ـ وذاک لا یدعوا إلاّ إلی المقیّد من الإکرام دون مطلقه ، وهذا معنی التضییق فی الهیئة إذا رجع إلی المادّة ، کما عرفت عکسه .
وبذلک یظهر ما فی قوله ـ فی بیان بقاء محلّ الإطلاق فی طرف الهیئة ـ من إمکان الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید وعدمه ؛ وذلک لأنّ الحکم فی الواجب المعلّق وإن کان مطلقاً من حیث تحقّق القید وعدمه إلاّ أنّه لایبعث إلاّ إلی ناحیة المقیّد ولا یحرّک إلی غیر المقیّد ، وهذا الضیق مکتسب من جانب مادّتها المقیّدة . فحینئذٍ هی بالنسبة إلی غیر محلّ القید یبطل محلّ إطلاقها ؛ وإن لم تصر مقیّدة ، ولا منافاة بین عدم بعثه إلی غیر المقیّد وبعثه قبل وجوده .
فتلخّص : أنّه لا فرق بین تقیید المادّة والهیئة ؛ لا من جهة أنّ تقیید کلٍّ لایوجب تقیید الآخر ، ولا من جهة أنّ تقییده یوجب إبطال محلّ إطلاقه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 342 وما فی تقریرات بعض أهل التحقیق من أنّ تقیید المادّة معلوم تفصیلاً ؛ لأنّها إمّا مقیّدة ذاتاً أو تبعاً ، وتقیید الهیئة مشکوک فیه ؛ فیصحّ التمسّک بإطلاقها لرفع الشکّ ، غیر واضح المراد ؛ لأنّ المادّة کیف یکون تقییدها متیقّناً ؛ وقد تقدّم أنّ إرجاع القید إلی الهیئة لایوجب تقیید المادّة ـ ولو تبعاً ـ وإن کان یوجب بطلان محلّ الإطلاق فیها . وکم فرق بین التقیید وإبطال محلّ الإطلاق ؟
ثمّ أیّ دلیل ـ بعد تسلیمه فی المقام ـ علی الترجیح المذکور ؟ فتدبّر فی أطراف ما ذکرنا .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 343