تصویر الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب
الرابع من الوجوه المحرّرة لردّ دعوی شیخنا البهائی ما سلکـه أساطین العلم ، آخذین بنیانه من الشیخ الأکبر کاشف الغطاء ؛ وإن کان لبّه موجوداً فی کلمات المحقّق الثانی قدس سره ، وقد بالغ مشاهیر العصر فی الفحص والتحقیق حوله ، وکلٌّ أوضحه ببیان خاصّ إلاّ أنّ مغزی الغالب یرجع إلی ما أفاده السیّد المجدّد الشیرازی ، ونقّحه بعده تلمیذه الجلیل السیّد المحقّق الفشارکی ، وأوضحه وفصّله بعض أعاظم العصر بترتیب مقدّمات وذکـر اُمـور ، ونحـن نذکر تلک المقدّمـات مع ما فیها من الأنظار :
المقدّمة الاُولی :
أنّ المحذور إنّما ینشأ من إیجاب الجمع بین الضدّین المستلزم للتکلیف بما لا یطاق ، ولابدّ لرفع هذا المحذور من سقوط ما هو موجب له لاغیر ، فإذا کان الخطابان طولیین لایلزم منه ذلک ، کما سیأتی .
فحینئذٍ : یقع الکلام فی أنّ الموجب لذلک هل هو نفس الخطابین حتّی یسقطا ، أو إطلاقهما حتّی یسقط إطلاق خطاب المهمّ فقط ، ویصیر مشروطـاً بعصیان الأهمّ .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 447 ثمّ قال : والعجب من الشیخ الأنصاری مع إنکاره الترتّب ذهب فی تعارض الخبرین علی السببیة إلی ما یلزم منه الالتزام بخطابین مترتّب کلّ منهما علی عدم امتثال الآخر ، فلیت شعری لو امتنع ترتّب أحد الخطابین علی عدم امتثال الآخر ، فهل ضمّ ترتّب إلی مثله یوجب ارتفاع المحذور ؟ إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطین غیر عزیز .
أقول : هذه المقدّمة سیقت لبیان محطّ البحث ، ولا إشکال فیها من هذه الجهة ، إلاّ أنّ رمی الشیخ الأعظم قدس سره بالترتّب من الجانبین ، واستظهار ذلک من عبارته من الغرائب جدّاً ، نشأ ذلک من قلّة التأمّل فی عبارته . وإلیک نصّ عبارته :
قال قدس سره ـ بعد إیراد شبهة فی وجوب الأخذ بأحد المتعارضین بناء علی السببیة ـ : إنّ الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة وعدم تساقطهما لیس لأجل شمول اللفظ لأحدهما علی البدل ؛ من حیث هذا المفهوم المنتزع ؛ لأنّ ذلک غیر ممکن ، کما تقدّم وجهه فی بیان الشبهة .
لکن لمّا کان امتثال التکلیف بکلّ منهما کسائر التکالیف الشرعیة والعرفیة مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ کلاًّ منهما مقدور فی حال ترک الآخر وغیر مقدور مع إیجاد الآخر فکلّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه ویتعیّن فعله ، ومع إیجاد الآخر یجوز ترکه ولایعاقب علیه .
فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب الامتثال ، والعمل بکلّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا یحکم به بدیهة العقل ، انتهی .
وأنت خبیر : بأنّه أجنبی عن الترتّب ؛ فضلاً عن الترتّبین اللذین یحکم العقل
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 448 بامتناعهما ؛ للزوم تقدّم الشیء علی نفسه ؛ إذ الترتّب ـ باعتبار أنّه عبارة عن تقیید أمر المهمّ بعصیان الأهمّ ـ تقیید فی مقام التکلیف وعلاج فی مقام الأمر ولکن التقیید بعدم الإتیان علاج فی مقام الامتثال والإطاعة ؛ بمعنی حکم العقل بصرف القدرة فی واحد منهما علی القول بالسببیة ؛ وهو تصرّف فی مقام الامتثال بلا تصرّف فی نفس الأدلّة ، کما عرفت تفصیله منّا والتقیید فی هذا المقام لحکم عقلی لیس للشارع تصرّف فیه وتعبّد بالنسبة إلیه وأین هذا من الترتّب المتقوّم باشتراط التکلیف بعصیان الآخر فی مقام الجعل ؟ !
أضف إلی ذلک : أنّا سلّمنا کون کلامه ناظراً إلی التصرّف فی نفس الأدلّة ، إلاّ أنّ الترتّب متقوّم باشتراط التکلیف بعصیان الآخر ، وما ذکره الشیخ الأعظم متقوّم بتقیید کلّ واحد من الدلیلین بعدم إتیان الآخر ، وکم فرق بینهما ؛ لأنّ الأوّل مناط الترتّب ؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمهمّ یتأخّر عن شرطه ، وهو یتأخّر عن نفس الأمر المتعلّق بالأهمّ ، والثانی مناط التخییر ونتیجته ، کما لایخفی .
والعجب : أنّه خلط بینهما ، إلاّ أنّ الاشتباه من الأعاظم غیر عزیز ، فافهم .
المقدّمة الثانیة :
أنّ الواجب المشروط لایخرج عمّا هو علیه بعد حصول شرطه ؛ لأنّ شرائط التکلیف کلّها ترجع إلی قیود الموضوع ، والحکم المجعول علی موضوعه لاینقلب عمّا هو علیه ؛ إذ لایخرج الموضوع عن کونه موضوعاً .
والسرّ فیه : أنّ القضایا الشرعیة علی نهج القضایا الحقیقیة لا الخارجیة ، فالقائل بالانقلاب قوله مساوق للقول بأنّ الموضوع بعد وجوده ینسلخ عن موضوعیته .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 449 ولا یبعد أن یکون ذلک من جهة خلط موضوع الحکم بداعی الجعل وعلّة التشریع بتوهّم أنّ شرط التکلیف خارج من موضوعه ، بل هو من قبیل الداعی لجعل الحکم علی موضوعه ، فبعد وجوده یتعلّق الحکم بموضوعه ، ولا یبقی للاشتراط مجال .
وقد بیّنا أنّ کون شرط الحکم من قبیل دواعی الجعل یبتنی علی أن تکون القضایا المتکفّلة لبیان الأحکام الشرعیة من قبیل الإخبار من إنشاء تکالیف عدیدة ، یتعلّق کلّ واحد منها بمکلّف خاصّ عند تحقّق شرطه .
والمحقّق الخراسانی ـ مع اعترافه برجوع الشرط إلی الموضوع ـ ذهب فی جملة من الموارد إلی کون الشرط من علل التشریع ، وهذا الخلط وقع فی جملة من المباحث ؛ منها هذا المقام ؛ فإنّه توهّم فیه أنّه بعد عصیان الأمر بالأهمّ یکون الأمر بالمهمّ مطلقاً ، انتهی بتلخیص .
قلت وفیه أمّا أوّلاً : فإنّ بقاء الواجب المشروط علی ما هو علیه بعد حصول شرطه لایحتاج إلی ما أتعب به نفسه الشریفة ؛ لأنّک قد عرفت أنّ القیود بحسب نفس الأمر علی قسمین :
قسم یرجع إلی المادّة والمتعلّق ؛ بحیث لایعقل إرجاعه إلی الحکم والإرادة ، کما إذا تعلّق بالصلاة فی المسجد غرض مطلق ، فالوجوب المطلق توجّه إلی الصلاة فی المسجد ، فیجب علی العبد بناء المسجد والصلاة فیه .
وقسم یرجع إلی الوجوب والحکم ، ولا یعقل عکسه ، کما إذا لم یتعلّق بإکرام
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 450 الضیف غرض معتدّ به ، بل ربّما یبغض الضیف ؛ فضلاً عن إکرامه ، إلاّ أنّه إذا ألمّ به ونزل فی بیته یتعلّق به الغرض ، ویحکم علی عبیده بأن یکرموه إذا نزل .
فالقید ـ حینئذٍ ـ قید لنفس التکلیف ، لایعقل إرجاعه إلی المادّة ؛ لأنّه یستلزم أن یتعلّق بإکرامه إرادة مطلقة ، فیجب علیهم تحصیل الضیف وإنزال الضیف فی بیته ، وقد فصّلنا ذلک فی محلّه .
فحینئذٍ : فالقائل بصیرورة الحکم المشروط مطلقاً إمّا أن یقول بتبدّل الإرادة إلی اُخری ، وذلک مستحیل فی حقّه تعالی ؛ لاستلزامه التغیّر فی ذاته ، سبحانه تعالی عن وصمة الحدوث والتغیّر ، بل یمتنع فی حقّ غیره ؛ لأنّها بسیطة والبسائط لایمکن أن یدخلها التبدّل .
و إمّا أن یقول بتعلّق إرادة جدیدة بالحکم رأساً ، وهو أیضاً مستحیل ؛ لامتناع تجدّد الأحوال فیه تعالی ، مع أنّه خروج من الفرض ـ أعنی صیرورة المشروط مطلقاً ـ لأنّه تجدّد إرادة لاصیرورة إرادة مشروطة إرادة مطلقة .
وإمّا أن یقول بتبدّل إرادة التشریع بالاُخری ، وذلک أیضاً مستحیل ؛ لما ذکر ولانتهاء أمد التشریع بتحقّقه . فلا یبقی إرادة تشریعیة حتّی تتبدّل ، لو فرض جواز هذه الاُمور فی حقّه تعالی .
وتوهّم : أنّ معنی الصیرورة هو تبدّل الحکم المنشأ علی نحو المشروط إلی الإطلاق باطل ؛ لأنّ ما شرّع وإن کان أمراً اعتباریاً إلاّ أنّه لاینقلب عمّا هـو علیه إلاّ باعتبار جـدید ؛ وهـو إنشاء حکم آخـر مطلق بعد حصول المشروط ، لکنّـه خلاف المفروض .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 451 وبالجملة : خروج الحکم المجعول عمّا هو علیه لا معنی معقول له . نعم قبل تحقّق الشرط لم یأن آن امتثاله ، وبعده یحضر وقت امتثاله ویصیر حجّة علی العبد مع کونه مشروطاً .
فظهر : أنّ ما ذکره قدس سره من إرجاع شرائط الحکم إلی الموضوع تبعید للمسافة ، بلا توقّف للمطلوب علیه .
وثانیاً : أنّ إرجاع جمیع الشروط إلی الموضوع یستلزم إلغاء ما هو الدائر بین العقلاء ؛ من إنشاء الحکم علی قسمین ، بل ظهور الإرادة علی ضربین ، وقد عرفت أنّ اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبّی واقعی ثبوتی ، فلا یجوز الإرجاع بعد کون کلّ واحد معتبراً لدی العرف ، بل بینهما اختلاف فی الآثار المطلوبة منهما فی باب الأحکام .
فعلی ما ذکره یتفاوت الرأی فی بقاء الموضوع وعدمه علی القول بشرطیة بقاء الموضوع فی جریان الاستصحاب ؛ وإن کان ما ذکروا فی ذلک المقام من شرطیة بقائه خلاف التحقیق عندنا کما سیوافیک بإذنه تعالی ؛ لأنّ إرجاع الشرط إلی الموضوع وجعله من قیوده یوجب التفاوت فی بقاء الموضوع ، بخلاف ما إذا قلنا بعدم إرجاع الشرط إلی الموضوع وجعلناه من قیود الحکم ، فیختلف الأنظار فی جریانه وعدمه ، وسیوافیک أنّ القیود الدخیلة فی جعل الحکم کلّیاً کلّها من مقوّمات الموضوع لا من حالاته ، فارتقب .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 452 فإن قلت : إنّ لازم ذلک کون کلّ من السبب والشرط أمراً تکوینیاً مؤثّراً فی المسبّب والمشروط تکویناً ، وعلیه فیخرج زمام أمرهما من ید الشارع ، وهو واضح الفساد .
قلت : إنّ جعل السببیة والشرطیة تشریعاً لشیء ، وإن شئت قلت : إنّ اعتبار السببیة والشرطیة لشیء لایوجب انقلاب التشریع إلی التکوین ، ولا خروج الأمر من ید الجاعل ، کما هو واضح ؛ لأنّ الاعتبار وضعه ورفعه ونسخه وإبقاؤه فی یده .
نعم ، لو اعتبر الشیء سبباً أو شرطاً لایجوز له التخلّف عمّا جعل ، وإلاّ یلزم اللغویة فی الاعتبار . اللهمّ إذا أراد نسخه ، وهو خلاف المفروض .
والحاصل : أنّه لا وجه لرفع الید عن الظواهر بغیر دلیل ، هذا بناءً علی جعل السببیة والشرطیة ، وأمّا بناءً علی جعل الحکم مترتّباً علی شیء فالأمر أوضح .
وثالثاً : أنّ ما ذکره من توهّم الخلط بین موضوع الحکم وبین داعی الجعل وعلّة التشریع ؛ بتوهّم أنّ شرائط التکلیف من قبیل الداعی لجعل الحکم واضح البطلان ؛ لأنّ الأمر لیس منحصراً فی کون الشیء من قیود الموضوع ؛ أعنی المکلّف البالغ العاقل ، أو من دواعی الجعل التی هی غایات التشریع وجعل الحکم .
بل هنا أمر ثالث ؛ أعنی کون الشیء من قیود المتعلّق ؛ أعنی نفس الصلاة ، کما مثّلناه من إیجاب الصلاة فی المسجد علی عبیده .
وأمر رابع ؛ وهو أن یکون من شروط الحکم والمجعول ، کما فی المثال الثانی «إذا جاءک الضیف أکرمه» .
والحاصل : أنّ شرائط التکلیف غیر قیود الموضوع وغیر دواعی الجعل ، ولیست من قیود المتعلّق بل من شرائط المجعول ، وهو رحمه الله خلط بین شرائط المجعول ودواعی الجعل ، مع أنّهما مفترقان ؛ لأنّ دواعی الجعل هی غایات جعل
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 453 الأحکام ـ وضعیة کانت أو تکلیفیة ، مطلقة کانت أو مشروطة ـ وشرائط التکلیف ـ أی المجعول الاعتباری ـ ما یکون الحکم معلّقاً علیه ومنوطاً به ، وهی غیر مربوطة بقیود الموضوع ودواعی الجعل وقیود المتعلّق ، بل إرجاع الشرائط إلی قیود الموضوع یرجع إلی إنکار الواجب المشروط .
ثمّ إنّ کون القضایا حقیقیة لا خارجیة أجنبی عن المطلب ، کما أنّ القول بالانقلاب أجنبی عن انسلاخ الموضوع عن الموضوعیة ، کما یظهر بالتأمّل ، والتطویل موجب للملال .
المقدّمة الثالثة :
التی هی أهمّ المقدّمات عندنا فی استنباط الترتّب ، وعلیها یدور رحاه ـ وإن ظنّ القائل أنّها غیر مهمّة ـ وهی أنّ المضیّق علی قسمین :
قسم اُخذ فیه الشیء شرطاً للتکلیف بلحاظ حال الانقضاء ، کالقصاص والحدود ؛ فإنّ القصاص مترتّب علی مضی القتل وانقضائه ؛ ولو آناً ما .
وقسم اُخذ فیه الشیء شرطاً بلحاظ حال وجوده ، فیثبت التکلیف مقارناً لوجود الشرط ، ولا یتوقّف ثبوته علی انقضائه ، بل یتّحد زمان وجود الشرط وزمان التکلیف وزمان الامتثال ، کأغلب الواجبات المضیّقة ، کالصوم .
ففی مثله یستحیل تخلّف التکلیف عن الشرط ـ ولو آناً ما ـ لما عرفت من رجوع کلّ شرط إلی الموضوع . ونسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ؛ فلازم التخلّف إمّا عدم موضوعیة ما فرض موضوعاً للحکم ، أو تخلّف الحکم عن موضوعه .
وکذا یستحیل تخلّف زمان الامتثال عن التکلیف ؛ لأنّ التکلیف یقتضی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 454 الامتثال . فنسبة اقتضاء التکلیف للحرکة کنسبة اقتضاء حرکة الید لحرکة المفتاح . نعم الفرق بین المقام والعلل التکوینیة هو دخل العلم والإرادة فی الامتثال ، دون العلل التکوینیة .
وبالجملة : مقتضی البرهان : هو أن لایتخلّف التکلیف عن الشرط ولا الامتثال عن التکلیف زماناً ، بل یتقارنان فی الزمان ؛ وإن کان بینهما تقدّم وتأخّر رتبی .
إلی أن قال : إذا عرفت ذلک ظهر لک دفع بعض الإشکالات فی المقام :
منها : أنّه یتوقّف صحّة الخطاب الترتّبی علی صحّة الواجب المعلّق .
وأجاب عنه : بأنّ ذلک مبنی علی مبنی فاسد ؛ وهو لزوم تأخّر زمان الامتثال عن الأمر ، وقد عرفت فساده .
ومنها : أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ لزم خروج المقام عن الترتّب ، ولو کان مشروطاً بعنوان انتزاعی ؛ أی کون المکلّف ممّن یعصی یلزم الأمر بالجمع بین الضدّین ، وهو محال .
وأجاب عنه : بأنّا نختار الشقّ الأوّل ، وتوهّم استلزامه تأخّر طلب المهمّ عن عصیان الأمر بالأهمّ زماناً إنّما یتمّ علی القول بلزوم تأخّر الخطاب عن شرطـه ، وأمّا علی ما حقّقناه من مقارنة الخطاب بوجود شرطه فلابدّ من فعلیة خطاب المهمّ فی زمان عصیان خطاب الأهمّ ، بلا تقدّم وتأخّر بینهما خارجاً .
ونختار الشقّ الثانی ، ولایلزم منه طلب الجمع بین الضدّین ؛ بداهة أنّ عنوان التعقّب بالمعصیة إنّما ینتزع من المکلّف بلحاظ تحقّق عصیانه فی ظرفه المتأخّر ، فإذا فرض وجود المعصیة فی ظرفها وکون التعقب بها شرطاً لخطاب المهمّ فیکون الحال فیه بعینه الحال فی فرض کون نفس العصیان شرطاً لطلب المهمّ .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 455 وبالجملة : فرض تحقّق امتثال طلب الأهمّ فی ظرفه هادم لشرط خطاب المهمّ ، فکیف یمکن أن یکون المهمّ مطلوباً فی ظرف وجود الأهمّ لیرجع الأمر إلی طلب الجمع بین الضدّین ؟ انتهی .
أقول : ما ذکره قدس سره من عدم تأخّر الحکم عن شرطه زماناً متین جدّاً ؛ سواء جعلت الشرائط من قیود الموضوع أم لا ، ولو فرضنا صحّة مدّعاه الثانی أیضاً ـ وهی عدم إمکان تخلّف البعث عن اقتضاء الانبعاث زماناً ـ وأنکرنا الواجب التعلیقی لما کان یجدیه أصلاً ، لأنّ ما أجاب به عن الإشکال الواقع فی کلامـه من أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ لزم خروج المقام عن الترتّب . . . إلی آخره لایخلو عن خلط .
وتوضیحه : أنّ کلّ شرط إنّما یتقدّم رتبة علی مشروطه فی ظرف تحقّقه لا حال عدمه .
وبعبارة اُخری : أنّ الشرط بوجوده یتقدّم علی المشروط ؛ تقدّماً رتبیاً ، فقبل وجود الشرط لایمکن تحقّق المشروط بالضرورة . فحینئذٍ یلاحظ : فإن کان الشرط أمراً زمانیاً فلابدّ من تحقّقه فی زمانه حتّی یتحقّق بعده مشروطه بلا فترة بینهما ، وکذا لو کان غیر زمانی .
فإذا فرضنا واجبین مضیّقین أحدهما أهمّ ، کإنقاذ الابن فی أوّل الزوال ، وإنقاذ العمّ فی أوّله أیضاً ، ویکون ظرف إنقاذ کلّ منهما ساعة بلا نقیصة ولا زیادة ، فمع أمر المولی بإنقاذ الابن مطلقاً لایعقل تعلّق أمره بإنقاذ العمّ ؛ مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ ؛ لأنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به بلا عذر فی مقدار من الوقت
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 456 یتعذّر علیه الإتیان بعد ، ولا محالة یکون ذلک فی زمان ، ولا یعقل أن یکون الترک فی غیر الزمان محقّقاً للمعصیة ؛ لعدم تحقّق الفوت به .
ففوت الأهمّ المحقّق لشرط المهمّ لایتحقّق إلاّ بمضیّ زمان لایتمکّن المکلّف بعده من إطاعة أمره ، ومضیّ هذا الزمان کما أنّه محقّق فوت الأهمّ محقّق فوت المهمّ أیضاً . فلا یعقل تعلّق الأمر بالمهمّ فی ظرف فوته ؛ ولو فرض الإتیان به قبل عصیان الأهمّ یکون بلا أمر ، وهو خلاف مقصود القائل بالترتّب .
وبالجملة : قد وقع الخلط فی کلامه بین عدم تخلّف الشرط عن التکلیف وعدم تخلّف التکلیف عن اقتضاء الانبعاث ، وبین لزوم کون الشرط بوجوده مقدّماً علی المشروط وظنّ أنّ التقدّم الرتبی یدفع الإشکال غفلة عن أنّ العصیان ما لم یتحقّق لایعقل تعلّق الأمر بالمهمّ ؛ لامتناع تحقّق المشروط قبل شرطه ، وبتحقّقه یفوت وقتی الأهمّ والمهمّ فی المضیّقین . ولو فرض زمان إطاعة المهمّ بعد زمان عصیان الأهمّ یخرج عن فرض الترتّب .
والعجب : أنّه تنبّه للإشکال وتخیّل أنّ التأخّر الرتبی یدفعه ، مع أنّه لایندفع إلاّ بصیرورة العصیان غیر زمانی . علی أنّه لا معنی للعصیان الرتبی ؛ لأنّ ترک المأمور به إلی أن یفوته ویتعذّر علیه لایکون إلاّ فی الزمان ، ویعدّ من الاُمور الزمانیة لا الرتب العقلیة ، کما هو واضح .
وبذلک ظهر لک ما أوعزنا إلیه : من أنّ إصلاح هذه المقدّمة من أهمّ المقدّمات ، وإن ظنّه المستدلّ غیر مهمّ ، وإلاّ فما ذکرنا من الإشکال یهدم أساس الترتّب ؛ سواء کان الواجبان مضیّقین أم مضیّقاً وموسّعاً :
أمّا الأوّل فقد عرفت ، وأمّا الثانی فبعین ما ذکرناه ؛ لأنّه إذا فرض کون أحدهما موسّعاً لکن یکون أوّل زمانه أوّل الزوال الذی هو ظرف إتیان المضیّق .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 457 فحینئذٍ لا یعقل تعلّق الأمر بالموسّع أوّل الزوال مشروطاً بعصیان المضیّق ؛ لما عرفت من أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به فی مقدار من الزمان الذی یفوت بمضیّه الأهمّ ، فلابدّ من تعلّق الأمر بالموسّع بعد مضیّ زمان یتحقّق به العصیان ، وهو یهدم أساس الترتّب .
وکذا الحال لو فرض أنّ العصیان آنی الوجود ؛ لأنّه قبل مضیّ هذا الآن لا یتحقّق شرط المهمّ ، فیکون ظرف تحقّق أمر الأهمّ فقط ، وبتحقّق هذا الآن سقط أمر الأهمّ بحصول العصیان ومضیّ أمد اقتضائه ، ولایعقل بقاؤه علی فعلیته بعد عصیانه ومضیّ وقته .
فظهر : أنّ تفویت متعلّق الأهمّ فی آنٍ متقدّم علی تعلّق أمر المهمّ ، ولکن سقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ فی رتبة واحدة أو آنٍ واحد ، فأین اجتماعهما ؟
وإن شئت قلت : إنّ اجتماعهما مستلزم لتقدّم المشروط علی شرطه ، أو بقاء فعلیة الأمر بعد عصیانه ومضیّ وقته ، وکلاهما باطلان . هذا کلّه إذا کان العصیان بوجوده الخارجی شرطاً ، کما أصرّ به المستدلّ .
وأمّا إذا کان العنوان الانتزاعی کـ ـ الذی یعصی ـ شرطاً فلا إشکال فی لزوم مفسدة طلب الجمع ؛ لأنّ العنوان الانتزاعی ثابت للمکلّف من أوّل الأمر . فأوّل زمان ظرف الامتثال یکون أمر المهمّ فعلیاً لحصول شرطه ، ولایکون أمر الأهمّ ساقطاً ؛ لعدم الامتثال وعدم مضیّ وقته .
فلا محالة یتوجّه إلی المکلّف أمران فعلیان : أحدهما بعنوان «الذی یعصی» ، فیأمره بإنقاذ العمّ فی أوّل الزوال ، وثانیهما بعنوان آخر ، فیأمره بإنقاذ الابن فیه .
ومجرّد أخذ العنوان الانتزاعی من العاصی بلحاظ ظرف العصیان لایدفع التضادّ ؛ لأنّ ملاک دفع التضادّ بین أمر المهمّ المشروط بالعصیان وأمر الأهمّ لیس إلاّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 458 عدم اجتماعهما فی آنٍ واحد ، لاکونهما فی رتبتین کما زعمه المستدلّ . وسیأتی فساده فی المقدّمة التالیة ، وعند التعرّض لبعض أمثلة الترتّب ، فارتقب .
المقدّمة الرابعة :
وقد عدّها المستدلّ من أهمّ المقدّمات ، وذکر أنّه علیها یبتنی أساس الترتّب ، وسیتّضح عدم دخالتها فی رفع الإشکال .
ومحصّلها : أنّ انحفاظ کلّ خطاب بالنسبة إلی ما یتصوّر من التقادیر علی أنحاء :
الأوّل : ما یکون انحفاظه بالإطلاق والتقیید اللحاظی ، وذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یمکن لحاظه عند الخطاب ؛ وهی التقادیر المتصوّرة فی المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب ، کقیام زید وقعوده ؛ حیث یکون الأمر بالصلاة محفوظاً عنده بالإطلاق اللحاظی ، وکالوقت حیث یکون الأمر محفوظاً معه بالتقیید اللحاظی .
الثانی : أن یکون الانحفاظ بنتیجة الإطلاق والتقیید ، کالتقادیر التی تلحق المتعلّق بعد تعلّق الخطاب به ، کالجهل والعلم بالخطاب ، فلا یمکن فیها الإطلاق والتقیید اللحاظی ، بل لابدّ : إمّا من نتیجة الإطلاق ، کما فی العلم والجهل بالحکم بعد قیام الضرورة والأدلّة علی اشتراک العالم والجاهل بالأحکام وامتناع الإهمال الثبوتی . وإمّا أن یکون الملاک محفوظاً فی تقدیر خاصّ ، فلابدّ من نتیجة التقیید .
الثالث : ما کان انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق والتقیید اللحاظی ولا بنتیجة الإطلاق والتقیید ، وذلک فی التقدیر الذی یقتضیه نفس الخطاب ؛ وهو الفعل والترک ؛ حیث یکون انحفاظ الخطاب فی حالتی الفعل والترک بنفسه لا بإطلاقه ـ لحاظاً أو نتیجةً ـ إذ لا یعقل الإطلاق والتقیید بالنسبة إلیهما ، بل یؤخذ المتعلّق معرّی عن
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 459 حیثیتهما ؛ لأنّه مع التقیید بالفعل یلزم طلب الحاصل ، ومع التقیید بالترک یلزم طلب الجمع بین النقیضین ، ومع الإطلاق کلا المحذورین .
فلیس فی الخطاب بالنسبـة إلیهما إطلاق وتقیید مطلقاً ، ولکـن مع ذلک یکون الخطاب محفوظاً بالاقتضاء الذاتی فی کلتا الحالتین ما لم یتحقّق العصیان والطاعة .
والفرق بین هذا القسم والسابقین من وجهین :
الأوّل : أنّ نسبـة تلک التقادیر السابقة إلی الخطاب نسبة العلّة إلی المعلول ؛ لمکان رجوعهـا إلی قیود الموضوع ؛ وهـی تتقدّم علی الحکم تقدّم العلّـة علی المعلول . والإطلاق أیضاً یجـری مجری العلّة ؛ مـن حیث إنّ الإطلاق والتقیید فـی رتبة واحـدة ، فالإطلاق فی رتبـة علّة الحکم . وهـذا بخلاف تقدیری فعل المتعلّق وترکـه ؛ فإنّ هـذا التقدیر معلول الخطاب ؛ لأنّ الخطـاب یقتضی فعل المتعلّق ویمنع ترکه .
الثانی : أنّ الخطاب فی التقادیر السابقة یکون متعرّضاً لبیان أمر آخر غیر تلک التقادیر ، غایته أنّه تعرّض عند وجودها ، وهذا بخلاف تقدیری الفعل والترک ؛ فإنّ الخطاب بنفسه متکفّل لبیان هذا التقدیر ؛ حیث إنّه یقتضی فعل المتعلّق وعدم ترکه .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّـه یترتّب علی مـا ذکرنا طولیة الخطابین ؛ وذلک لأنّ خطاب الأهمّ یکون متعرّضاً لموضوع خطاب المهمّ ومقتضیاً لهدمه ورفعه تشریعاً ؛ لأنّ موضـوع خطاب المهمّ هـو عصیان خطاب الأهمّ . فالأهـمّ یقتضی طـرد موضوع المهمّ ، والمهمّ لایتعرّض لموضوعـه ، ولیس بینهما مطاردة ، ولیسا فی رتبة واحـدة ، بل خطاب الأهـمّ مقدّم علی خطاب المهمّ برتبتین أو ثلاث ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 460 ومـع هـذا الاختلاف فی الرتبـة لایعقل عرضیتهما ، انتهی .
أقول : لایذهب علیک أنّ فی هذه المقدّمة مواقع للنظر ، نذکر مهمّاتها :
الأوّل : أنّ تقسیم الإطلاق والتقیید إلی اللحاظی وما هو نتیجتهما ، والفرق بینهما بأنّ نتیجة الإطلاق لابدّ فی إثباتها من دلیل آخر ممّا لا طائل تحته ، غیر أنّه تکثیر فی التقسیم والاصطلاح ، وتشویش للأذهان ؛ إذ الإطلاق ـ کما فی اللغة والعرف ـ هو المسترسل من القید مقابل التقیید ، وفی الاصطلاح جعل طبیعة ـ مثلاً ـ متعلّقاً أو موضوعاً للحکم ، من غیر تقییدها بقید ، وهو لایتقوّم باللحاظ أو بإرسال الطبیعة ساریة فی المصادیق ، بل یتقوّم بجعلها موضوعاً للحکم بلا قید .
وبذلک یبطل تقسیمه إلی ما یمکن لحاظه عند الخطاب وإلی مالا یمکن ؛ إذ قد عرفت أنّ اللحاظ وإمکانه أمر زائد علی الإطلاق ؛ لأنّ محور الاحتجاج بین الموالی والعبید هو جعل الشیء موضوعاً للحکم بلا قید ، من غیر توجّه إلی أنّ المقنّن أو الحاکم أرسل الموضوع فی المصادیق ولاحظه بالنسبة إلی التقادیر المتصوّرة فی المتعلّق ، مع قطع النظر عن الخطاب أولا ، بل لحاظ الإرسال والتقادیر ـ علی فرض إمکانه ـ مضرّ بالإطلاق .
فالحکم فی الإطلاق لیس إلاّ علی نفس الطبیعة بلا قید ، ولایکون الحاکم ناظراً إلاّ إلی موضوع حکمه ، فلحاظ التقادیر لو أمکن یهدم أساس الإطلاق .
وبعبارة اُخری : إذا قال القائل یجب علی المظاهر عتق رقبة ، ولم یقیّدها بشیء یحکم العقلاء بأنّ تمام الموضوع للوجوب عتق الرقبـة ، مـن غیر دخالـة شـیء ، ویقال : إنّ الظهار سبب لوجوب العتق مـن غیر قید ، فملاک الاحتجاج هـو
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 461 أخـذ شیء سبباً أو متعلّقاً أو موضـوعاً بلا قید .
وبه یظهر : أنّ الاحتجاج به لیس لأجل أنّه من الدلالات اللفظیة ، بل لأجل أنّ المتکلّم بما أنّ بیده زمام البیان ، وهو عاقل مختار فی وضع ما یطلبه ورفع ما لایطلبه لابدّ أن یکشف عن مقصوده ویصرّح به ویجمع ما له دخل من قیوده ؛ فلو کان قید دخیلاً فی غرضه لأتی به وبیّنه ؛ إمّا فی ضمن هذا الدلیل أو بدلیل منفصل ؛ وحیث لم یأت به ـ لا فی ضمن هذا الدلیل ولا بدلیل آخر ـ یحکم العقل بأنّ ما وقع موضوعاً تمام المطلوب لا بعضه ، فیصیر من الدلالات العقلیة ، وسیجیء فی المطلق والمقیّد زیادة توضیح لذلک .
بل لو سلّم عدم إمکان التقیید بما یتأخّر عن الحکم فی هذا الحکم لایضرّ ذلک بجواز التمسّک بالإطلاق ، بعد إمکان بیان القید بدلیل آخر ، فلا نحتاج فی تسویة العالم والجاهل فی الأحکام إلی التمسّک بالإجماع ، بل التمسّک بإطلاق الأدلّة کافٍ فی إثبات المطلوب ، ولیس الشرط إمکان بیانه فی الخطاب الأوّل ، بل تمکّن المولی من بیانه بأیّ خطاب شاء .
لایقال : فرق بین ما یمکن التقیید به فی اللفظ وبین غیره ؛ بأنّ الأوّل إطلاق لفظی والآخر حالی .
لأنّا نقول : کأنّک غفلت عن أنّ الإطلاق لیس من المفاهیم التی یدلّ علیها اللفظ حتّی نجعله قسمین . أضف إلی ذلک : أنّه لایضرّ بالمطلوب ؛ لجواز التمسّک بالإطلاق الحالی لرفع احتمال القید .
ثمّ إنّک لو أحطت خبراً بما قدّمناه فی عدّة مواضع ـ خصوصاً فی تقیید مفاد الهیئة الذی یعدّ من المعانی الحرفیة ؛ حیث ذکرنا فیها : أنّ امتناع التقیید فیها ممنوع ، وعلی فرض تسلیمه إنّما هو فی النظرة الاُولی ، وأمّا إذا کان بنظر مستأنف ، کما هو
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 462 الحال فی غالب القیود فلا بأس به ـ تعلم هنا أنّه لا إشکال فی إمکان النظر المستأنف فی الحکم المجعول فی الکلام وتقییده بالعلم والجهل ؛ إذ لافرق فی قوله «اعتق رقبة مؤمنة» و«اعتق رقبة معلومة الحکم» فی جواز التقیید بالنظر المستأنف .
نعم ، مالایمکن التقیید فیه مطلقاً لایجوز التمسّک فیه بالإطلاق ؛ لأنّ التمسّک لرفع القید المحتمل وهو مع امتناعه غیر محتمل ، لا لأجل ما توهّم المستدلّ من أنّ الإطلاق مستلزم لفساد التقیّدین ـ یعنی فساد التقیید بالفعل والتقیید بالترک ، وفسادهما عبارة عن طلب الحاصل وطلب الجمع بین النقیضین ـ ضرورة أنّ الإطلاق لیس الجمع بین التقییدین حتّی یلزم ما ذکر ، بل عبارة عن عدم التقیید ؛ أمکن ذلک أولا .
غایة الأمر : ما هو موضوع البحث فی باب الإطلاق والتقیید وموضوع احتجاج العقلاء هو الإطلاق الذی یمکن تقییده ؛ ولو منفصلاً ، وبین الإطلاق والتقیید الکذائیین شبیه العدم والملکة ، وهذا لاینافی أن یکون هنا إطلاق یکون النسبة بینه وبین التقیید تقابل الإیجاب والسلب ، فتبصّر .
الثانی : أنّ ما تخیّله فی رفع غائلة إیجاب الجمع مـن کـون أمـر الأهـمّ والمهمّ فی رتبتین غیر مجدٍ أصلاً ؛ إذ لو کفی تأخّر خطاب المهمّ عـن الأهمّ رتبـةً فی رفع الغائلة مع اتّحاد زمان فعلیتهما لوجب أن یکفی مع اشتراط المهمّ بالإطاعة ؛ فإنّها ـ کالعصیان ـ من طوارئ أمر الأهمّ ، ولو جعلت شرطاً لصار قیداً للموضوع ویتقدّم علی أمـر المهمّ تقدّم الموضوع علی حکمه ، مع أنّـه لا إشکال فی أنّه یقتضی الجمع .
فظهر : أنّ ما هو الدافع للغائلة هو سقوط أمر الأهمّ بعصیانه ومضیّ وقته ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 463 وعدم ثبوت أمر المهمّ إلاّ بعد سقوط الأهمّ ، لا ما تخیّلوه من ترتّب الأمرین . هذا ، وللمقال تتمّة سیوافیک عن قریب .
الثالث : أنّ العصیان لایکون متأخّراً رتبة عن الأمر ؛ لعدم ملاک التأخّر الرتبی فیه ؛ فإنّ التأخّر الرتبی إمّا من ناحیة العلّیة والمعلولیة ، أو کون شیء جزءً للعلّة أو جزءً للماهیة أو شرطاً للتأثیر أو التأثّر وأمثال ذلک ، وکلّها مفقودة بالنسبة إلی العصیان .
فإن قلت : یمکن تقریب تأخّر العصیان عن الأمر بوجهین :
الأوّل : أنّ الإطاعة من العوارض أو الحالات اللاحقة للأمر ، فتتأخّر عنه بداهة ؛ لأنّها عبارة عن الانبعاث عن البعث ، ولا إشکال فی تأخّر الانبعاث عن البعث تأخّر المعلول عن علّته أو جزئها بناءً علی أنّ الأمر لیس علّة تامّة للانبعاث ، بل العلّة هو مشارکاً مع ملکات آخر من الخوف والطمع .
وعلیه : فالعصیان وإن لم یکن نقیضاً للإطاعة ـ لأنّ نقیض کلّ شیء رفعه ـ إلاّ أنّه لازم للنقیض أو مصداق له ؛ إذ نقیض الإطاعة والامتثال هو عدم الإطاعة والامتثال ، وهو یتحقّق فی ضمن العصیان الذی هو عبارة عن ترک الامتثال بلا عذر .
وحینئذٍ : فالنقیضان ـ أعنی الإطاعة وعدمها ـ فی رتبة واحدة ، والعصیان مصداق للنقیض ، والماهیة ومصداقها لیستا فی رتبتین ؛ لمکان اتّحادهما الذاتی .
فیستنتج : أنّ العصیان فی رتبة نقیض الإطاعة ، ونقیض الإطاعة فی رتبتها ، والإطاعة ونقیضها متأخّران رتبة عن الأمر ، فهکذا العصیان ؛ لأنّ ما مع المتأخّر رتبة متأخّر کذلک .
الثانی : أنّ الأمر بالأهمّ مستلزم للنهی عن ضدّه العامّ ، فالأمر به متقدّم علی النهی عن ترک الأهمّ ، والنهی متقدّم علی عصیانه ، والعصیان متقدّم علی أمر المهمّ ؛
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 464 تقدّم الموضوع علی حکمه . فظهر تأخّر أمر المهمّ عن أمر الأهمّ بثلاث مراتب .
وإن شئت قلت : الأمر بالأهمّ دافع للعصیان وعلّة لرفعه ، وعلّة الشیء متقدّمة علیه ، والعصیان ورفعه فی رتبة واحدة ؛ لکونهما نقیضین ، وما مع المعلول مؤخّر عن العلّة .
قلت : کلا الوجهین لا یخلو من خلط ، وما قدّمناه فی إبطال کون ترک أحد الضدّین مقدّمة علی الآخر کافٍ فی إبطالهما ، ونشیر إلیه هنا إجمالاً ؛ وهو أنّ التقدّم والتأخّر الرتبیین لیسا من الاعتبارات المحضة من دون واقعیة لهما فی نفس الأمر . کیف ، وحکم العقل بأنّه وجد هذا فوجد ذاک بنحو تخلّل الفاء لیس إلاّ لاستشعاره أمراً واقعیاً وشیئاً ثبوتیاً .
فحینئذٍ : فإثبات أمر واقعی للشیء ـ کالتأخّر الرتبی ـ فرع کون الشیء الموصوف ذا تقرّر فی ظرفه وذا حظٍّ من الوجود .
وظرف النسبة والاتّصاف بعینه ظرف الطرفین ؛ فلو کانت واقعیاً فلا محالة یتّصف الطرفان بالواقعیة ، مع أنّ الواقعیة مفقودة فی النقیض ومصداقه ؛ لأنّهما أعدام لیس حقیقتهما سوی أنّهما لا واقعیة لهما ، وقد تقدّم أنّ کون الملکات والاستعدادات من مراتب الوجود لایلازم کون أعدامهما کذلک .
مع أنّ الوجه الثانی مبنی علی اقتضاء الأمر للنهی عن ترکه ، وهو باطل مبنی علی باطل آخر .
والحاصل : أنّ کون النقیضین فی رتبة واحدة ممنوع تقدّم الکلام فیه ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 465 وکون ما مع المتأخّر رتبة متأخّراً رتبة ممنوع أیضاً ؛ لأنّ قیاس المساواة لو صحّ فإنّما هو فی المسائل الهندسیة ، لا فی الأحکام العقلیة التی تدور مدار وجود المناط ، وقد عرفت أنّ مناط التأخّر الرتبی هو ما قدّمناه ، ومع فقدانه لا وجه للتأخّر ، وقیاس التأخّر الرتبی الذی یدرکه العقل لأجل بعض المناطات بالتأخّر الزمانی قیاس مع الفارق .
نعم ، العصیان یتأخّر عن الأمر زماناً علی مسامحة ، وهو غیر التأخّر الرتبی .
وبالجملة : أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به بلا عذر ، وهو معنی عدمی لا یمکن أن یتّصف بحیثیة وجودیة مطلقاً ، وقد تکرّر منّا أنّ القضایا الصادقة التی موضوعاتها اُمور عدمیة لابدّ وأن تکون من السالبة المحصّلة أو ترجع إلیها ، والموجبات مطلقاً لا تصدق فی الأعدام إلاّ بتأوّل ، کما فی بعض القضایا غیر المعتبرة ، کقولنا «العدم عدم» ، فالعصیان بما أنّه أمر عدمی لایمکن أن یتأخّر عن شیء أو یتقدّم علی شیء ، ولایکون موضوعاً لحکم ولا شرطاً لشیء أو مانعاً .
وبذلک یظهر : أنّ أخذ أمر عدمی لایؤثّر ولا یتأثّر ولایوجب مصلحة ولا مفسدة فی الموضوع لایجتمع مع ما علیه العدلیة من کون الأحکام تابعاً لمصالح أو مفاسد یقتضیها موضوعاتها ، والعدم لا اقتضاء فیه ، إلاّ أن یرجع إلی مانعیة الوجود ، وهو غیر مجدٍ أصلاً فی المقام .
لا یقال : قولک لایکون العصیان شرطاً لحکم ولا موضوعاً مصادرة جدّاً ؛ ضرورة أنّا نری حکم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصیة ، فکیف حکم علی أمر باطل بالقبح والحرمة ؟ مع أنّه یمکن أن یقال : إنّ العصیان لیس أمراً عدمیاً ؛ وإن کان الأمر العدمی منطبقاً علیه ، إلاّ أنّ العصیان له حیثیة ثبوتیة یعبّر عنه بالطغیان تارة ، والتورّط فی الحمی اُخری ، وعدم الاعتناء بأوامر المولی ثالثة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 466 وحینئذٍ : فعدم الامتثال أمر عدمی یصدق فی غیر موارد العصیان ، کما فی العاجز والساهی ، والعصیان أخصّ منه ، ویقرب أن یکون أمراً وجودیاً .
لأنّا نقول : إن کان المراد أنّ ترک المأمور به بلا عذر بما هو ترک موصوف بصفة وجودیة بحسب الواقع فهو ضروری البطلان ؛ لأنّ ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له ، وإن کان المراد أنّ العقلاء یحکمون باستحقاق العبد التارک لأمر مولاه بلا عذر للعقوبة فهو حقّ ، لکن لایلزم أن یکون الترک موصوفاً بصفة وجودیة .
وأمّا دعوی کون العصیان عبارة عن نفس تلک العناوین النفسانیة ؛ أی حالة الطغیان والجرأة حتّی یکون وجودیاً فهو واضح الفساد .
وأمّا کون ترک الطاعة بلا عذر لأجل حصول ملکات فی النفس فلا یوجب أن یکون الترک العمدی أو بلا عذر من أنحاء الوجود الخارجی .
وبالجملة : أنّ حکم العقلاء باستحقاق العبد العاصی للعقوبة لایلزم منه کون العصیان فی الأوامر من الاُمور الوجودیة ، أو مع کونه عدمیاً متّصفاً بأمر وجودی .
وبعد ، لابدّ من التفکیک بین حکم العقل البرهانی وحکم العقلاء والعرف الاستحسانی ، فتدبّر .
وبما ذکرنا : ینهدم أساس الترتّب ؛ لأنّه مبنی علی التقدّم والتأخّر الرتبیین ، وهما تتحقّقان بین الأمر وإطاعته ، علی تأمّل فیه أیضاً ، ولا یحصل بین الأمر وعصیانه . اللهمّ إلاّ أن یجعل الموضوع من یترک المأمور به بلا عذر ، لکن مع ذلک لایکون التقدّم رتبیاً ، وسیجیء البحث عنه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 467
المقدّمة الخامسة :
الموضوع للحکم إمّا غیر قابل لتصرّف من الشارع کالعقل والبلوغ أو قابل له ، والثانی إمّا قابل للدفع والرفع أو قابل للدفع فقط ، وعلی التقدیرین إمّا أن یکون قابلاً للرفع الاختیاری أیضاً أو لا ، والرفع التشریعی إمّا أن یکون بنفس التکلیف أو بامتثاله .
ومحلّ البحث فی الأهمّ والمهمّ هو هذا الأخیر ، وهو ما إذا کان امتثال التکلیف رافعاً لموضوع الآخر ؛ حیث یتحقّق اجتماع کلّ من الخطابین فی الفعلیة ؛ لأنّه ما لم یتحقّق امتثال أحد الخطابین الذی فرضنا أنّه رافع لموضوع الآخر لایرتفع الخطاب الآخر ، فیجتمع الخطابان فی الزمان والفعلیة بتحقّق موضوعهما .
والتحقیق : أنّ اجتماع مثل هذین الخطابین لایوجب إیجاب الجمع ، ولابدّ أوّلاً من معرفة معنی الجمع وما یوجب إیجابه :
فنقول : أمّا الجمع فهو عبارة عن اجتماع کلّ منهما فی زمان امتثال الآخر ؛ بحیث یکون ظرف امتثالهما واحداً . وأمّا الذی یوجب الجمع فهو أحد أمرین : إمّا تقیید کلّ من المتعلّقین ، أو أحدهما بحال إتیان الآخـر ، و إمّا إطلاق کلّ من الخطابین کذلک .
والدلیل علی عدم إیجاب الجمع اُمور :
الأوّل : أنّه لو اقتضیا إیجاب الجمع والحال هذه یلزم المحال فی طرف المطلوب ؛ لأنّ مطلوبیة المهمّ إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهمّ ، فلو فرض وقوعه علی صفة المطلوبیة فی ظرف امتثاله ـ کما هو لازم إیجاب الجمع ـ یلزم الجمع بین النقیضین ؛ إذ یلزم أن لایکون مطلوباً قبل العصیان ، وأن یکون مطلوباً قبله .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 468 الثانی : أنّه یلزم المحال فی طرف الطلب ؛ لأنّ خطاب الأهمّ یکون من علل عدم خطاب المهمّ ؛ لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع الخطابان فی رتبة یلزم اجتماع الشیء مع علّة عدمه ، أو خروج العلّة عن العلّیة ، أو خروج العدم من کونه عدماً ، وکلّ ذلک خلف محال .
الثالث : أنّ البرهان المنطقی أیضاً یقتضی عدم إیجاب الجمع ؛ فإنّ الخطاب الترتّبی بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع فی النسبة الطلبیة فی جانب المهمّ ، والنسبة التلبّسیة فی جانب الأهمّ ، فصورة القضیة هکذا : إمّا أن یکون الشخص فاعلاً للأهمّ ، وإمّا أن یجب علیه المهمّ ، ومعه کیف یعقل إیجاب الجمع ؟ انتهی .
قلت : ما ذکره رحمه الله لایخلو من أنظار ، والأولی عطف عنان الکلام إلی توضیح ما یقتضی عدم الجمع من المناط ، فلابدّ من استقصاء العناوین التی یتصوّر أخذها شرطاً لخطاب المهمّ أو موضوعاً له حتّی یتّضح موارد اقتضاء الجمع عن موارد عدم الاقتضاء ، ویتبیّن المناط فیهما .
فنقول : الذی یمکن أن یقع شرطاً اُمور :
الأوّل : العصیان الخارجی أو ما یساوقه خارجاً ؛ أیّ عنوان کان ، وهو وإن لم یلزم منه إیجاب الجمع إلاّ أنّه یوجب الخروج من بحث الترتّب .
توضیحه : أنّه ما دام لم یتحقّق العصیان خارجاً لایکون أمر المهمّ فعلیاً ، وبتحقّق العصیان یسقط أمر الأهمّ ؛ لخروج متعلّقه من إمکان الإتیان به ؛ إذ مع إمکانه لایتحقّق العصیان ، ومع عدم إمکانه لایعقل بقاء الأمر الفعلی ، من غیر فرق بین کون العصیان تدریجی التحقّق أو دفعی التحقّق .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 469 ففی الثانی أیضاً قبل تحقّق آن المعصیة الظرف ظرف أمر الأهمّ فقط ، وبتحقّقه یتحقّق العصیان ویسقط أمر الأهمّ ، ویخلفه أمر المهمّ ، فأین اجتماعهما ؟
فلازم اجتماعهما فی الفعلیة : إمّا تخلّف المشروط عن شرطه بتقدّمه علیه ـ إن تعلّق أمر المهمّ بموضوعه قبل تحقّق المعصیة ـ أو بقاء أمر الأهمّ مع تحقّق المعصیة وعجز المکلّف عن الإتیان به ، وهما محالان .
وأمّا توهّم کـون العصیان فی الرتبة العقلیـة شرطاً فواضـح الفساد ؛ لأنّ العصیان ترک المأمـور به بلا عذر خارجاً ، ولا ربط له بالرتبة العقلیة ، وهذا الإشکال وارد أیضاً علی من جعل الشرط شیئاً یکون مساوقاً للعصیان خارجاً ، طابق النعل بالنعل .
الثانی : جعل الشرط التلبّس بالعصیان بمعنی الأخذ والشروع فیه .
ویرد علیه أوّلاً : أنّ العصیان فیما نحن فیه لیس من الاُمور الممتدّة أو المرکّبة ممّا یتصوّر فیه الأخذ والشروع ، بل إذا ترک المأمور به إلی حدّ سلب القدرة ینتزع منه العصیان فی آن سلب القدرة ، ولاینتزع قبله . فتحقّق العصیان آنی ؛ وإن کان محتاجاً فی بعض الأحیان إلی مضیّ زمان حتّی تسلب القدرة . فالعصیان بنفسه لایکون متدرّج الوجود حتّی یتأ تّی فیه الشروع والختم .
وثانیاً : أنّ الشروع فیه إمّا محقّق للعصیان أولا ، ولا ثالث لهما . والأوّل هو القسم الأوّل ؛ أعنی کون العصیان الخارجی شرطاً ، وقد عرفت بطلانه ، والثانی حکمه حکم القسم الذی سیوافیک بیانه ؛ أعنی ما إذا کان الأمر الانتزاعی من العصیان الخارجی شرطاً .
وبالجملة : التعبیر بالتلبّس کرّ علی ما فرّ منه ، کما تشبّث به المستدلّ فی خلال کلامه علی ما فی تقریر تلمیذه ومقرّر بحثه ؛ لأنّ التلبّس بالعصیان والشروع
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 470 فیه إن کان عصیاناً بالحمل الشائع فلازمه سقوط أمر الأهمّ ، فیخرج من بحث الترتّب ، وإن کان غیر عصیان فالأمران باقیان فی الباعثیة والفعلیة ، مع أنّ المکلّف لایقدر علی جمعهما وإیجادهما فی زمان واحد ، وسیأتی زیادة توضیح لذلک فی القسم الآتی .
الثالث : أن یکون الشرط أمراً انتزاعیاً من العصیان الخارجی باعتبار ظرفه ، فلازمه طلب الجمع ؛ لأنّ الأمر الانتزاعی بلحاظ ظرفه متحقّق قبل وقت امتثال أمر الأهمّ وقبل عصیانه ، فأمر المهمّ صار فعلیاً باعثاً نحو المأمور به وأمر الأهمّ لم یسقط ، بل هو باقٍ بعد علی باعثیته ما لم یتحقّق العصیان ، فهذا باعث نحو إنقاذ الابن ـ مثلاً ـ أوّل الزوال بعنوان المکلّف ، وذاک إلی إنقاذ الأب کذلک بعنوان الذی یعصی ، أو الذی یکون عاصیاً فیما بعد . والمکلّف الذی یکون عاصیاً فیما بعد مبعوث فعلاً نحو ذاک وذلک ، وهو غیر قادر علی ذلک وذاک معاً .
ومجرّد اختلاف العنوانین وطولیة موضوع الأمرین لا یدفع طلب الجمع ، ألا تری أنّ عنوان المطیع أیضاً مؤخّر عن الأمـر ، فلو جعل شرطاً یکون مقدّماً علی أمـر المهمّ فیصیر أمر الأهـمّ مقدّماً علیه برتبتین ، ومـع ذلک لایدفـع به طلب جمع الضدّین .
والحاصل : أنّ العصیان التصوّری الانتزاعی مع وجوده عند فعلیة الأهمّ وإن کان لایوجب خروج الواجب المشروط ممّا کان علیه ـ لما عرفت ـ إلاّ أنّ حصول الشرط یوجب انتزاع الوجوب الفعلی عنه ، والبعث الفعلی نحو المأمور به بلا حالة انتظاریة .
وحینئذٍ یکون الشرط الانتزاعی ـ أعنی الـذی یعصی ـ بمنزلـة سائـر العناوین ، کطلوع الشمس ومجیء الحاجّ ، إذا فرضنا أنّه طلعت الشمس وقدم
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 471 الحاجّ ، فلا یشکّ ذو مسکة فی أنّ هذا إیجاب للجمع .
وبذلک یتّضح : أنّ التقدّم الرتبی لیس مناطاً لدفع التضادّ ، بل المناط سقوط أحد الأمرین ، کما فی العصیان الخارجی إذا جعل شرطاً مع عدم تأخّره عن أمر الأهمّ رتبة ، کما مرّ .
ولکن یدفع معه التضادّ ، لا للتقدّم الرتبی ، بل لعدم اجتماع الأمرین الفعلیین ؛ لما عرفت من أنّ العصیان الخارجی یوجب سقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ ، وهذا هو تمام الموضوع والمناط لرفع التضادّ وطلب الجمع . وبذلک ینهدم أساس الترتّب ، ویتّضح حال سائر العناوین المساوقة لهذا الأمر الانتزاعی .
فتحصّل من جمیع ما ذکرناه : أنّ ما یدفع به التضادّ وطلب الجمع خارج من أساس الترتّب رأساً .
فإن قلت : إنّ المکلّف لو جمع بین الأهمّ والمهمّ لم یقعا علی صفة المطلوبیة ، وهذا آیة عدم الأمر بالجمع .
قلت : إنّ الذی یعصی یمتنع علیه الجمع ؛ للزوم اجتماع النقیضین ، وإلاّ فلو فرض جواز الجمع ؛ بمعنی أنّ العاصی مع کونه عاصیاً أتی بالأهمّ یقع کلّ منهما علی صفة المطلوبیة ؛ لأنّ الذی یعصی مع کونه عاصیاً فی ظرفه مطلوب منه الإتیان بالأهمّ ؛ لعدم سقوط أمره بالضرورة ما لم یتحقّق العصیان خارجاً ، والفرض أنّ شرط المهمّ حاصل أیضاً ، فیکون مطلوباً .
وبما ذکرنـاه : یظهـر الخلـل فـی الـوجهتین اللتین استـدلّ بهما علی أنّ الخطابیـن المرتّبین لایقتضیان إیجـاب الجمـع ، مـن أنّ خطـاب الأهـمّ مـن علـل عـدم خطاب المهمّ ، فلو اجتمعا لزم اجتماع الشیء مـع علّة عدمـه ، ومـن أنّ مطلوبیـة المهمّ إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهـمّ . فلو فرض وقوعـه علی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 472 صفـة المطلوبیـة فی ظـرف امتثالـه یلزم الجمـع بیـن النقیضین ، انتهـی .
وکلا الوجهین غیر تامّ :
أمّا الأوّل : فلأنّه إن أراد أنّ امتثال الأهمّ من علل عدم خطاب المهمّ فهو مسلّم ، لکن لا بمعنی العلّیة والمعلولیة الحقیقیتین ولکن لایجدیه أصلاً ، بل قد عرفت أنّه هادم أساس الترتّب .
وإن أراد أنّ فعلیته من علل عدم خطاب المهمّ فهو فاسد ؛ إذ البحث فی الترتّب فی أنّ الصلاة إذا ابتلیت بالمزاحم الأهمّ ـ أعنی إزالة النجاسة عن المسجد ـ تکون مأموراً بها حینما أمر بمزاحمها ، فلو کانت الصلاة غیر مأمور بها أوّل الزوال ، بل کانت الإزالة واجبة فقط خرج المقام من بحث الترتّب ، ولما صحّ الصلاة فی أوّل الزوال ، علی القول بأنّ صحّة المأتی به موقوفة علی الأمر . ویتوجّه إذن مقالة شیخنا البهائی من أنّ عدم الأمر کافٍ فی البطلان ، ولایحتاج إلی النهی ، بل الغایة من مقاساة هذه الجهود فی المقام تصویر أمرین فعلیین بالأهمّ والمهمّ جمیعاً فی آنٍ واحد بنحو الترتّب ؛ حتّی یصحّ امتثال ما أراد منهما .
وأمّا الثانی : فلما أوردنا علی الأوّل آنفاً ، فلأنّ ما هو الشرط فی وقوع المهمّ علی صفة المطلوبیة إن کان هو العصیان الخارجی الملازم لسقوط أمر الأهمّ یلزم الخروج من بحث الترتّب ، وإن کان هو العصیان الانتزاعی باعتبار ظرفه الآتی فلا محالة یجتمع الأمران ویصیر المهمّ مطلوباً حینما کان الأهمّ مطلوباً بعد ؛ بمعنی أنّه لو فرضنا ـ علی وجه محال ـ أنّ العاصی فی ظرفه أتی بالأهمّ أیضاً صار المهمّ مطلوباً فی ظرف امتثال الأهمّ أیضاً .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 473 وإن شئت قلت : فرض امتثال الأهمّ فرض هدم شرط المهمّ ، وفرضه فرض عدم الأمر به ، وهو هدم أساس الترتّب ، والتمسّک بما یهدم أساسه لبنیان أساسه جمع بین المتنافیین ، وإلاّ فلو فرضنا معه حصول شرط المهمّ یقع علی صفة المطلوبیة . فعدم وقوعه علی صفتها من آیات بطلان الترتّب ، لا من آیات صحّته .
وبما ذکر یظهر حال البرهان المنطقی علی زعمه .
وبذلک یظهر الجواب عمّا أورده علی مقالة المحقّق الخراسانی ؛ حیث ذکر المحقّق : أنّ فی مرتبة الأمر بالمهمّ اجتماع الأمرین ؛ بداهة فعلیة الأمر بالأهمّ فی هذه المرتبة وعدم سقوطه .
فأجاب عنه : بأنّ إیجاب الجمع هو أن یطالب به فی حال الاشتغال بالآخر ، مع أنّ المکلّف لو اشتغل بالأهمّ لایطالب بالمهمّ ، ولایتعلّق به أمر .
وأنت خبیر بما فیه ؛ إذ فیه ما یقضی منه العجب ؛ لأنّ عدم المطالبة فی حال الاشتغال بالأهمّ إنّما هو لأجل عدم حصول ما هو الشرط للمهمّ ؛ لفقدان العصیان الخارجی وکذلک الانتزاعی ؛ لأنّ انتزاع العصیان إنّما هو لجهة حصوله فی ظرفه ووجوده فیه ، وقد علم خلافه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 474