الأمر الثالث عشر فی استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد
التحقیق : جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد . ومورد النزاع ما إذا کان کلّ من المعنیین متعلّقاً للنفی والإثبات بحیاله ، فخرج من حریم البحث ما إذا استعمل فی معنی واحد ذی أجزاء أو ذی أفراد .
والدلیل علی ما اخترناه : وقوعه فی کلمات الاُدباء والشعراء .
وما استدلّ به للامتناع : وجوه غیر تامّة ، نتعرّض لمهمّاتها :
الأوّل : ما ذکره صاحب «الکفایة» من لزوم اجتماع اللحاظین الآلیین فی لفظ واحد ، وهو محال .
وتقریر الملازمة بوجهین : أحدهما أنّ الاستعمال هو إفناء اللفظ فی المعنی ، فیکون لحاظه تبعاً للحاظه ، فإذا استعمل فی شیئین یکون تابعاً لهما فی اللحاظ ، فیجتمع فیه لحاظان آلیان بالتبع .
ثانیهما : أنّ لحاظ اللفظ والمعنی لابدّ منه فی کلّ استعمال ؛ لامتناع
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 131 الاستعمال مع الذهول عن واحد منهما ، فإذا استعمل فی شیئین لزم لحاظ اللفظ مرّتین ، فاجتمع اللحاظان .
ویمکن تقریر بطلان التالی بأنّ تشخّص الملحوظ بالذات إنّما هو باللحاظ وتعیّن اللحاظ بالملحوظ ، کما أنّ الأمر کذلک فی باب العلم والمعلوم ، بل ما نحن فیه من قبیله .
فحینئذٍ : اجتماع اللحاظین فی شیء یساوق کون الشیء الواحد شیئین ، وتعلّق العلمین بمعلوم واحد یستلزم کون الواحد اثنین ، بل لایمکن الجمع فی الملحوظ بالعرض أیضاً ؛ للزوم کون المعلوم بالعرض ـ التابع للمعلوم بالذات فی الانکشاف ـ منکشفاً فی آنٍ واحد مرّتین ، وهو محال .
ویجاب عنه بمنع الملازمة :
أمّا علی الوجه الأوّل : فلأنّ المنظور من التبعیة إن کان أنّ المتکلّم یتصوّر المعنی ویتبعه الانتقال إلی اللفظ ، فلا یلزم من تصوّر المعنیین عرضاً انتقالان إلی اللفظ ، بل لاینتقل إلیه إلاّ انتقالاً واحداً ، کما هو کذلک فی الانتقال من اللازمین إلی ملزوم واحد . وکون النظر هناک إلی الملزوم استقلالیاً دون اللفظ لایوجب الفرق بینهما فیما نحن بصدده .
وإن کان المراد اجتماع اللحاظین فی السامع فلا نسلّم لزومه ؛ لأنّ السامـع ینتقل من اللفظ إلی المعنی ؛ وإن کان اللفظ آلة ، فیکون لحاظ المعنی تبعاً للحاظ اللفظ وسماعه ، کما أنّ الناظر إلی الکتابة یدرک نقش المکتوب أوّلاً ، فینتقل منه إلی المعنی . فحینئذٍ إذا کان اللفظ دالاًّ علی معنیین انتقل منه إلیهما ، مـن غیر لزوم محـذور أبـداً .
وبالجملة : لایلزم من تبعیة الانتقال جمع اللحاظین والانتقالین فی اللفظ ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 132 کما لا یلزم اجتماعهما فی المعنی إذا سمعنا اللفظ من متکلّمین دفعة .
فإن قلت : المراد من تبعیة لحاظ اللفظ للمعنی هو سرایة اللحاظ من المعنی إلی اللفظ ، فیلزم من الاستعمال فی معنیین لحاظان آلیان ، أو أنّ المراد کون اللحاظ متعلّقاً بالمعنی بالذات وباللفظ بالعرض ، فیتعدّد بتعدّد ما بالذات .
قلت : إنّ ذا من العجب ؛ إذ کیف یترشّح من اللحاظ الاستقلالی لحاظ آلی ، وما هذا إلاّ الانقلاب . کما أنّ ما ذکره ذیلاً خلاف المفروض ؛ إذ لایلزم منه اجتماع اللحاظین ؛ لعدم اللحاظ فی اللفظ حقیقة .
وأمّا الجواب عن الوجه الثانی : فهو أنّ ما یکون لازم الاستعمال هو ملحوظیة اللفظ والمعنی ، وعدم کونهما مغفولاً عنهما حاله ، وأمّا لزوم لحاظه فی کلّ استعمال ـ لحاظاً علی حدة ـ فلم یقم علیه دلیل ، ولا هو لازم الاستعمال . ألا تری أنّ قوی النفس ـ کالباصرة والسامعة ـ آلات لها فی الإدراک ؟ وقد تبصر الشیئین وتسمع الصوتین فی عرض واحد ، ولا یوجب ذلک أن یکون للآلتین حضوران لدی النفس بواسطة استعمالهما فی إدراک الشیئین .
الثانی : أنّ الاستعمال إفناء ، ویمتنع إفناء الشیء الواحد فی شیئین . وبعبارة اُخری : أنّ الاستعمال جعل اللفظ بتمامه قالباً للمعنی ، ولایمکن أن یکون مع ذلک قالباً لمعنی آخر .
والجواب : أنّ الاستعمال لیس إلاّ جعل اللفظ آلة للإفهام ، فإن کان المراد مـن الفناء وکونـه قالباً أو مـرآةً أو ما رادفها هـو صیرورة اللفظ نفس المعنی فی نفس الأمـر فهو واضح البطلان ؛ إذ لایمکن لـه الفناء بحسب وجـوده الواقعی ؛
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 133 بحیث لایبقی فی الواقع إلاّ شیئیة المعنی ؛ لأنّ اللفظ باقٍ علی فعلیته ، ومع ذلک لایعقل فناؤه .
وإن اُرید منه : أنّ القصد معطوف بالذات إلی إفهام المعنی دونه فامتناع التالی ممنوع ؛ إذ اللفظ یکون منظوراً به ، والمعنیان منظوراً فیهما . وما لهج به بعض أهل الذوق فی بعض المقامات غیر مربوط بهذه المباحث ، فلیطلب من محالّها .
الثالث : ما عن بعض الأعیان ؛ أنّ حقیقة الاستعمال إیجاد المعنی فی الخارج باللفظ ؛ حیث إنّ وجود اللفظ خارجاً وجود لطبیعی اللفظ بالذات ، ولطبیعی المعنی بالجعل والمواضعة ، لا بالذات ؛ إذ لا یکون وجود واحد وجوداً لماهیتین بالذات ـ کما هو ظاهر ـ وحیث إنّ الموجود الخارجی واحد بالذات فلا مجال للقول بأنّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنی خارجاً ، ووجود آخر لمعنی آخر ؛ حیث لا وجود آخر هناک کی ینسب إلیه بالتنزیل .
ولایخفی : أنّه بالمغالطة أشبه منه بالبرهان ، ولعلّ مبناه ما عن بعض أهل الذوق من أنّ الوجود اللفظی من مراتب وجود الشیء ، وهو ـ إن صحّ ـ لیس معناه إلاّ کونه موضوعاً للمعنی ومرآةً له بالمواضعة الاعتباریة .
وعلیه : لو کان الموضوع له متعدّداً أو المستعمل فیه کذلک لایلزم منه کونه ذا وجودین أو کونه موجودین ؛ إذ المفروض أنّه وجود تنزیلی واعتباری ، وهو لایوجب التکثّر فی الوجود الواقعی . فکون شیء وجوداً تنزیلیاً لشیء لایستنبط منه سوی کونه بالاعتبار کذلک ، لا بالذات والحقیقة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 134 الرابـع : مـا فی بعض الکلمات مـن استحالـة تصوّر النفس شیئین ، واستحالـة کـون اللفظ علّة لحضور معنیین فی الذهـن ؛ ولعلّه لحـدیث امتناع صدور الکثیر عـن الواحـد .
وأنت خبیر : بأنّه تلفیق محض وإخراج الشیء عن مجراه ؛ إذ البداهة قاضیة بصحّة تصوّر الشیئین ، وإلاّ لما صحّ التصدیق بکون شیء شیئاً ؛ إذ لابدّ عند الإذعان من تصوّر الطرفین معاً .
کما أنّ التمسّک بالقاعدة العقلیة فی أمثال هذه الموارد أوهن من بیت العنکبوت ؛ إذ الدلالة لیست من قبیل صدور شیء عن شیء ، مع أنّها لو کانت من هذا القبیل لایمکن إجراء القاعدة فیها ؛ إذ هی مختصّة بالبسیط من جمیع الجهات .
ثمّ إنّ هناک تفصیلاً أعجب من أصل القول بالامتناع ، قال به بعض محقّقی العصر قدس سره ؛ وهو أنّه اختار الامتناع فیما لوحظ کلّ واحد من المعنیین بلحاظ خاصّ به ؛ لبعض الوجوه السابقة ، والجواز فیما کان اللفظ حاکیاً عن مفهومین ملحوظین بلحاظ واحد .
وهذا من عجیب القول ؛ إذ وحدة اللحاظ مع تعدّد المعنی إن کانت لأجل وقوع المعنیین تحت جامع وُحدانی تجمع ما تفرّق بلحاظ واحد فقد أسمعناک فی صدر المبحث أنّه خارج من حریم النزاع .
وإن کان مع کون کلّ من المعنیین ملحوظاً بحیاله ومستعملاً فیه ، ومع ذلک یکونان ملحوظین بلحاظ واحد فهو غیر قابل للقبول ، بل مدفوع بالموازین العلمیة ؛
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 135 إذ فرض کون الشیئین موجودین بنعت الکثرة فی الذهن مع وحدة اللحاظ فرض وحدة الکثیر مع کثرته .
والحاصل : أنّ لحاظ النفس لیس إلاّ علمها بالشیء وتصوّرها إیّاه ، فلو وقع المعلوم بنعت الکثرة فی لوح النفس وصفحة الإدراک فقد وقع العلم علیه کذلک ؛ إذ التصوّر والإدراک وما رادفهما من سنخ الوجود فی عالم الذهن ، ولا معنی لوجود المتکثّر بما هو متکثّر بوجود واحد .
فتلخّص : أنّه لا مانع من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد عقلاً ، وأمّا المنع من جهة القواعد الأدبیة أو من جهة اشتراط الواضع فضعیف جدّاً ، لاینبغی البحث عنه .
وأمّا ما ورد من أنّ للقرآن سبعین بطناً فمن غوامض الکلام ، لایقف علی مغزاه إلاّ الخائض فی لُجج العلم وبحار المعارف ، فلیطلب عن مواضعه ، وعلی کلّ حال لایرتبط بالمقام .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 136