المبحث الثالث فی أنّ الهیئة هل تدلّ علی الوجوب أم لا ؟
بعد ما عرفت أنّ الهیئة وضعت للبعث والإغراء یقع الکلام فی أنّها هل وضعت للبعث الوجوبی أو الاستحبابی أو القدر المشترک بینهما أولهما علی سبیل الاشتراک اللفظی ؟
فلنقدّم لتحقیقه اُموراً :
الأوّل : إذا راجعت وجدانک تعرف أنّ المصالح والغایات المطلوبة ، لها دخل تامّ فی قوّة الإرادة وضعفها ، کیف لا ، وأنّ الإرادة المحرّکة لعضلاته لإنجاء نفسه من الهلکة أقوی من الإرادة المحرّکة لها نحو لقاء صدیقه ، وهی أقوی من المحرّکة لها للتفریح والتفرّج .
ویمکن أن یستکشف مراتب الإرادة واختلافها ـ شدّة وضعفاً ـ عن تحریک العضلات سرعة وبط ءً فظهر أنّ إدراک أهمّیة المصالح واختلاف الاشتیاقات علّة لاختلاف الإرادة فی الشدّة والضعف والتوسّط بینهما ، کما أنّ اختلاف الإرادة علّة لاختلاف حرکة العضلات سرعة وبط ءً وقوّة وضعفاً ، کلّ ذلک مع الإقرار بأنّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 194 الإرادة من صُقع النفس وفاعلیتها .
ومن الغریب : ما فی تقریرات بعض الأعاظم من أنّ تحریـک النفس للعضلات فی جمیع الموارد علی حدّ سواء ؛ لأنّ الوجدان حاکم علی خلافه ؛ ضرورة أقوائیة إرادة الغریق لاستخلاص نفسه من الأمواج من إرادته لکنس البیت وشراء الزیت .
کما أنّ من العجیب ما عن بعض محقّقی العصر من أنّ الإرادة التکوینیة لایتصوّر فیها الشدّة والضعف .
ولایخفی بطلانه ؛ لأنّ الآثار کما یستدلّ بوجودها علی وجود المؤثّرات ، کذلک یستدلّ باختلافها شدّة وضعفاً علی اختلافها کذلک ؛ إذ الاختلاف فی المعلول ناشٍ عن الاختلاف فی علّته ، ونحن نری ـ بداهة ـ أنّ هناک اختلافاً فی حرکة العضلات فی إنجاز الأعمال سرعة وبط ءً ، وشدّة وضعفاً ، وهو یکشف عن اختلاف الإرادات المؤثّرة فیها .
فتلخّص : أنّ الإرادة تختلف شدّة وضعفاً باختلاف الدواعی ، کما أنّه باختلاف الإرادة تختلف حرکة العضلات وفعالیتها . ثمّ إنّ التفصیل بین الإرادة التکوینیة والتشریعیة لایرجع إلی محصّل .
الثانی : قد حرّر فی موضعه أنّ الحقائق البسیطة التی تکون ذات التشکیک سنخ تشکیکها خاصّی ؛ بمعنی أنّه یصیر ما به الافتراق بین المراتب عین ما به الاشتراک ، کالوجود والعلم والإرادة والقدرة وغیرها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 195 فحینئذٍ : افتراق الإرادة القویة عن الضعیفة بنفس حقیقة الإرادة ؛ إذ هی ذات مراتب شتّی وصاحبة عرض عریض ، ولا یکون الاختلاف بینهما بتمام الذات المستعمل فی باب الماهیات ؛ ضرورة عدم التباین الذاتی بین الإرادة القویة والضعیفة ، ولاببعض الذات ؛ لبساطة الإرادة فی جمیع المراتب ، ولا بأمر خارج ؛ لأنّه یلزم أن یکون کلتا الإرادتین فی مرتبة واحدة ، وقد عرضت الشدّة والضعف علی ذاتهما کعروض الأعراض علی موضوعاتها ، وهو کما تری . فالتشکیک واقع فی ذاتها وبذاتها .
الثالث : الأفعال الإرادیة الصادرة عن الإنسان لابدّ وأن تکون مسبوقة بالإرادة ومبادئها من التصوّر ؛ حتّی تنتهی إلی الإرادة ویتبعها تحریک العضلات وأعمال الجوارح ؛ من الید والرجل واللسان ، حسب ما یقتضیها سنخ الفعل .
والبعث باللفظ بما أنّه فعل اختیاری صادر عن الآمر لا محیص عن مسبوقیته بمبادئ الاختیار ؛ حتّی التحریک للعضلات ؛ وهو اللسان هنا .
کما أنّ ما سبق فی الأمر الأوّل من أنّ شدّة الإرادة وضعفها تابعة لإدراک أهمّیة المراد جارٍ فی نفس البعث أیضاً ، بل ربّما تدرک شدّة الإرادة من أثناء الکلام وزوایاه ، کما لو أدّاه بلحن شدید أو بصوت عالٍ أو قارنه بأداة التأکید أو عقّبه بالوعد والوعید ، کماأنّه یدرک من خلاله فتور الإرادة وضعفها إذا قارنه بالترخیص فی الترک أو جعل جزاء الترک أمراً طفیفاً یرجع إلی حال العبد فی دنیاه ، وغیر ذلک ممّا یلوح منه الوجوب الکاشف عن شدّة الإرادة بعرضها العریض ، أو الاستحباب الکاشف عن ضعفها کذلک .
ثمّ إنّ البعث بالهیئة لیس باعثاً بالذات ومحرّکاً بالحقیقة ، وإلاّ لما انفکّ باعثیته عنه ، وما وجد فی أدیم الأرض عاصٍ ولا طاغٍ ، ولما کان هناک ثواب لمن
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 196 سلک فی ربقة الإطاعة ، بل هی باعث إیقاعی اعتباری ، والباعث بالذات هو الملکات النفسانیة والصفات الفاضلة ، کعرفان مقام المولی ولیاقته وأهلیته للعبادة ـ کما فی عبادة الأولیاء ـ وکحبّه لمولاه أو لخوفه من ناره وسلاسله وطمعه فی رضوانه وجنانه وغیرها ممّا تصیر داعیة للفاعل ، وإنّما الأمر محقّق لموضوع الإطاعة وموضح للمراد .
الرابع : أنّ کلّ ذی مبدأ یکشف عن تحقّق مبادئها المسانخة له ؛ فالفعل الاضطراری یکشف بوجوده الخارجی عند العقل عن تحقّق مبادئ الاضطرار ، کما أنّ الفعل الاختیاری له کاشفیة عن تحقّق مبادئه ، ولیس هذا إلاّ دلالة عقلیة محضة ، ککاشفیة المعلول عن علّته بوجه .
فإذن : الأمر والبعث بآلة الهیئة بما هو فعل اختیاری کاشف عن الإرادة المتعلّقة به ، کما أنّه بما هو بعث نحو المبعوث إلیه کاشف عن مطلوبیته ، کلّ ذلک لیست دلالة لفظیة وضعیة ، بل عقلیة محضة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 197