الرابع : فی تحریر الأصل العملی فی المقام
لا ریب فی جریان البراءة العقلیة علی القول بإمکان الأخذ فی المتعلّق ؛ إذ یصیر قصد الأمر ـ حینئذٍ ـ کسائر القیود العرضیة ، فیتحقّق موضوع البراءة الذی هو قبح العقاب بلا بیان .
وأمّا علی القول بامتناع الأخذ فربّما یؤخذ هنا بقاعدة الاشتغال عقلاً ، مع تسلیم جریان البراءة فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین ؛ قائلاً بأنّ الشکّ فی المقام فی کیفیة الخروج من عهدة التکلیف المعلوم ثبوته ، فلا یکون العقاب علی ترکه عقاباً
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 228 بلا بیان ، ولکن الشکّ فی الارتباطیین فی کمّیة المتعلّق قلّةً وکثرةً ، فعلیه البیان بشراشر أجزائه وشرائطه .
وإن شئت قلت : إنّ تحصیل الغرض مبدأ للأمـر ، فإذا علم أصل الغرض وشکّ فی حصولـه ـ للشکّ فی کون المأتی به مسقطاً للغرض وحـده بلا قید التقرّبیة ـ فلا محالة یجب القطع بتحصیل الغرض بإتیان جمیع ما له دخـل فی ذلک ؛ ولو احتمالاً .
وفیه : أنّه لا معنی لسقوط الأمر إلاّ إیجاد ما أمر به المولی وبعث المکلّف إلیه وتمّت حجّته بالنسبة إلیه ، فلو امتثـل کذلک وأوجد ما تعلّق به العلم وما تمّ البیان علیه وقامت الحجّـة علیه لا یتصوّر ـ حینئذٍ ـ لـه البقاء علی صفة الحجّیـة ؛ إذ لو کان دخیلاً فی الطاعة وفی تحقّق المأمور به لما جاز له الکفّ عن البیان ؛ ولو بدلیل آخر .
والاکتفاء بحکم العقل بالاشتغال فی المقام مدفوع بأنّه ـ بعد الغضّ عن أنّ المورد داخل فی مجری البراءة ـ إنّما یفید لو کان من الواضحات عند عامّة المکلّفین ؛ بحیث یصحّ الاتّکال علیه ، لا فی مثل المقام الذی صار مطرحاً للأنظار المختلفة والآراء المتشتّتة .
أضف إلی ذلک : أنّه لا فارق بین المقامین ، وما ذکر من البرهان لإثبات الاشتغال جارٍ فی الأقلّ والأکثر أیضاً ؛ إذ القائل بالاشتغال هناک یدّعی أنّ الأمر بالأقلّ معلوم ونشکّ فی سقوطه لأجل ارتباطیة الأجزاء ، أو أنّ الغرض
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 229 المستکشف من الأمر معلوم ونشکّ فی سقوطه بإتیان الأقلّ ، فیجب الإتیان بکلّ ما احتمل دخله فی الغرض .
هذا ، مع أنّ مجرّد عدم إمکان تقیید المأمور به لایوجب عدم إمکان البیان مستقلاًّ ـ کما مرّت إلیه الإشارة ـ إذ لو توقّف حصول غرض المولی علی أمر وراء المأمور به وجب علیه البیان .
ولک أن تقول : إنّ ما اشتهر من وجوب تحصیل العلم بحصول أغراض المولی ومقاصده لایرجع إلی محصّل ؛ إذ الأغراض إن کانت حاصلة بنفس ما وقع تحت دائرة البیان فما هو واجب تحصیله ـ حینئذٍ ـ فی محیط العبودیة هو ما تعلّق به البیان ؛ من الأجزاء والشرائط ، ویتبعه الغرض فی الحصول ، وإن کانت غیر حاصلة إلاّ بضمّ ما لم تقم علیه حجّة بعدُ ، فلا نسلّم وجوب تحصیله ، وهذا لاینافی ما سیأتی من وجوب تحصیل الغرض المعلوم اللازم الحصول . مع إمکان أن یقال : إنّه یستکشف من عدم البیان أنّ الغرض قائم بالمبیّن .
وأمّا البراءة الشرعیة : فتارة یفرض الکلام فیما إذا جاز تقیید المأمور به بالقیود الآتیة من قبل الأمر ، واُخری فیما إذا لم یجز ذلک إلاّ بأمر آخر ، وثالثة فیما لایجوز مطلقاً . وعلی أیّ حال : تارة یفرض مع القول بجریان البراءة العقلیة فی قصد الأمر ، واُخری مع القول بعدمه . فالصور المتصوّرة ستّة . والأقوی جریانها فی جمیع الصور .
وربّما یقال بعدم جریانها مطلقاً علی القول بالاشتغال العقلی ، وجریانها
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 230 علی القول بجریان البراءة العقلیة ، إلاّ فیما لایمکن أخذ القید فی المأمور به ؛ ولو بأمر آخر . فالصور الممنوعة أربعة :
أمّا الاُولی ـ أعنی عدم الجریان فیما إذا أمکن الأخذ فی المأمور به بأمر واحد مع القول بالاشتغال العقلی ـ فلقصور أدلّة البراءة النقلیة عن شمول مثل المورد ؛ فإنّ ملاکها هو کون الأمر المشکوک فیه إذا لم یأمر به المولی کان ناقضاً لغرضه ، والمورد لیس کذلک ؛ فإنّ القید المزبور ـ علی فرض دخالته ـ یجوز للمولی الاتّکال علی حکم العقل بالاشتغال ، ولا یوجب عدم البیان نقض الغرض . ولیس المدّعی أنّ حکم العقل بالاحتیاط رافع لموضوع البراءة حتّی یستشکل بلزوم الدور ، بل المدّعی قصور أدلّة البراءة عن مثل المورد ، انتهی .
وفیه : أنّا لا نری قصوراً فی أدلّتها ولا انصرافاً فی إطلاقاتها بعد کون الموضوع قابلاً للرفع والوضع ، بل جریانها فیما یحکم العقل بالاشتغال أولی وأقرب من جریانها فیما یکون المورد محکوماً بالبراءة العقلیة ؛ إذ ظاهر الأدلّة هو المولویة لا الإرشاد ، فیصحّ إعمالها بالحکم بالبراءة فیما لولاها لکان محکوماً بالاشتغال عقلاً ، وهذا بخلاف ما إذا اتّحدا مفاداً ونتیجة ؛ بأن یکون مجری البراءة عقلاً وشرعاً ؛ إذ حکمه ـ حینئذٍ ـ یصیر إرشادیاً محضاً .
وأمّا الصورة الثانیة ـ أعنی مالا یمکن الأخذ إلاّ بأمر آخر مع الاشتغال عقلاً ـ فلأنّ جریان البراءة لایثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل تمام المأمور به إلاّ علی القول بالأصل المثبت ، بخلاف ما إذا قلنا بإمکان الأخـذ فی متعلّق الأمر الأوّل ؛ فإنّ الشکّ یرجع إلی انبساط الأمر علی الجزء والقید المشکوک فیه . فمع جریان البراءة یکون باقی الأجزاء بنظر العرف تمام المأمور به ، فیکون من قبیل خفاء الواسطة ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 231 وفیه أوّلاً : أنّ القول بوجوب العلم بکون المأتی به تمام المأمور به من قبیل الالتزام بشیء لایجب الالتزام به ؛ إذ الواجب لیس عنوان تمام المطلوب حتّی یجب إحرازه ، بل ما قامت علیه الحجّة واستوفاه البیان ؛ سواء اُحرز کونه تمام المأمور به أم لا ، هذا .
وثانیاً : أنّ رفع الجزء المشکوک فیه ملازم عقلاً لکون البقیة تمام المطلوب ، وهذا عین الأصل المثبت ، من غیر فرق بین وحدة الأمر وتعدّده .
وثالثاً : أنّ الأمر الثانی ناظر إلی متعلّق الأمر الأوّل بتصرّف فیه ببیان قیده وشرطه ، ولیس مفاده أمراً مستقلاًّ ـ وإن شئت فسمّه بتتمیم الجعل ـ فیری العرف هذین الأمرین ـ بعد التوجّه إلی الناظریة ـ أمراً واحداً . وعلیه فلو کان هنا خفاء الواسطة یکون فی الموردین بلا فرق بینهما .
وأمّا الصورة الثالثة والرابعة ـ أعنی عدم إمکان الأخذ مطلقاً ؛ سواء قلنا بالبراءة العقلیة أم لا ـ فلأنّ جریانها موقوف علی کون المشکوک فیه قابلاً للوضع والرفع شرعاً ، ومع عدم جواز الأخذ لایمکن الوضع ، فلایمکن الرفع . ودخله فی الغرض واقعی تکوینی غیر قابل للوضع والرفع التشریعیین ، وغیر المفروض من القیود وإن کان دخله تکوینیاً لکنّه لمّا کان قابلاً لهما یجوز التمسّک بدلیل الرفع لرفعه ، انتهی .
وفیه : أنّا لا نتصوّر للمفروض مصداقاً ؛ إذ کیف یمکن دخالة شیء فی الغرض ، ولایمکن للمولی بیانه وإظهاره ؟ وعلیه لامحیص عن جریان أدلّة الرفع بعد إمکان وضعه فی نظائر المقام .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 232