الاستدلال بالدلیل العقلی علی وجوب المقدّمة الموصلة
ثمّ إنّ التحقیق علی فرض الملازمة بین الوجوبین هو وجوب المقدّمة الموصلة ، وقد استدلّ علیه صاحب «الفصول» بوجوه ؛ أمتنها ما ذکره أخیراً من أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 378 المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلی الواجب ، فلا جرم یکون التوصّل بها إلیه ، وحصوله معتبراً فی مطلوبیتها ، فلا تکون مطلوبة إذا انفکّت عنه .
ولایخفی : أنّ ما ذکره ینحلّ إلی مقدّمتین ، ونقول توضیحاً لمراده :
أمّا الاُولی منهما : فلأنّ المیز بین المطلوب الذاتی والعرضی هو أنّ السؤال یقف عند الاُولی دون الثانیة ، فلو اُجیب عن قول السائل لماذا وجبت المقدّمة ؟ بأنّها موقوف علیها ؛ سواء توصل بها أم لا لَما ینقطع سؤالـه لو استشعر بأنّ المقدّمـة فی حدّ ذاتها غیر محبوبة ولا مطلوبة ، فیختلج فی باله أنّ الإیجاب بنحو الإطلاق لماذا ؟
نعم ، لو اُجیب بأنّها وجبت کی یتوصّل بها إلی المقصد والغرض الأعلی لوقف عن التزلزل ، واستراح فکره ، وبعبارة اُخری : أنّ ملاک مطلوبیة المقدّمة لیس مجرّد التوقّف ، بل ملاکه هو حیثیة التوصّل بها إلی ذی المقدّمة ، فذات المقدّمة وحیثیة توقّف ذیها علیها لاتکونان مطلوبتین بالذات ، ویشهد علیه الوجدان ؛ إذ المطلوبیة الغیریة إنّما هی لأجل الوصول إلیه ، بل لو فرض إمکان انفکاک التوقّف والتوصّل خارجاً کان المطلوب هو الثانی دون الأوّل .
وأمّا الثانیة : فبما أسمعناک من الفرق بین القوانین الجعلیـة والأحکام العقلیة ؛ فإنّ الغایات عناوین الموضوعات فی الثانیة ؛ ولذلک ترجع الجهات التعلیلیـة فیها إلی التقییدیة دون الاُولی ؛ إذ یصحّ فیها جعل الحکم علی عنوان یترتّب علیه الغایة دون نفس الغایة والملاک ، لجهل المکلّف بما هو المناط کجعل الحکم علی الصلاة التی هی عدّة أفعال ، ولکن الملاک واقعاً هی غایاتها المترتّبة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 379 المجهولة ، ولا یصحّ ذلک فی المستکشفات العقلیة ؛ لتحلیل العقل وتجزئته ما هو دخیل عمّا لیس کذلک .
وبذلک یظهر : أنّ کون الأحکام الشرعیة متعلّقة بالعناوین لأجل المصالح والمفاسد لایکون نقضاً للقاعدة المبرهنة فی محلّه ، وقد أوعزنا إلیه فی جواب الإشکال المتقدّم .
وحاصل الکلام فی توضیح هذه القاعدة : أنّ حکم العقل بحسن شیء أو قبحه إنّما هو لأجل اشتماله علی وجود ملاک فیه ، فلو فرضنا ذاتاً واحدة جامعة لحیثیات ـ کالمقدّمة ـ وفرضنا أنّ ما هو الوجه لحکمه أحد الحیثیات دون غیرها ـ کما أوضحناه فی المقدّمة الاُولی ـ فلا حکم للعقل إلاّ علی هذه الحیثیة دون غیرها .
فلو حکم مع هذا الإدراک علی الذات المجرّدة أو علی حیثیة اُخری لکان حکماً بلا ملاک ، وهو لایتصوّر فی الأحکام العقلیة . فما هو موضوع للحسن أو القبح هو هذا الملاک ، والموصوف بالملاک یکون محبوباً بالعرض والمجاز .
فاتّضح : أنّ ما هو الغرض من الإیجاب هو التوصّل فی نظر العقل ببرکة المقدّمة الاُولی ، وأنّ الموضوع للحکم هو هذه الحیثیة لاغیر بمقتضی المقدّمة الثانیة ، والمحصّل هو وجوب المقدّمة الموصلة علی فرض الملازمة .
وبما قرّرناه یظهر : اندفاع ما زعمه المحقّق الخـراسانی إشکالاً للمطلب مـن أنّ الغرض من وجوب المقدّمة لیس إلاّ حصول ما لولاه لما أمکن حصول ذیها . . . إلی آخره .
وفیه : أنّک قد عرفت أنّ السؤال لایقف لو اُجیب بما جعله غایة للإیجاب .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 380 ومثله فی الضعف : ما أفاده بقوله من أنّه لایعقل أن یکون ترتّب الواجب هو الغرض الداعی ؛ فإنّه لیس أثر تمام المقدّمات ؛ فضلاً عن إحداها .
هذا ، وقد بان جوابه ممّا مرّ ؛ لأنّه مبنی علی القول بامتناع وقوع الإرادة متعلّق الأمر ، وقد تقدّم صحّـة وقوعه فی التعبّدیات . ویمکن أن یقال ـ مع تسلیمه علی تقدیر خروج الإرادة منها ـ إنّ المراد من الموصلة هو سائر المقدّمات التی یتوصّل بها إلی الواجب بعد ضمّ الإرادة إلیها علی نحو لایحتاج حصول الواجب إلی أزید من انضمام إرادة المکلّف إلیها ، فالغرض بهذا المعنی مترتّب دائماً علی المقدّمات .
وتوهّم استلزامه دخول الغایة فی حدّ ذیها لایضرّ بالنسبة إلی الأحکام العقلیة التی ترجع القیود التعلیلیة فیها إلی التقییدیة ، وتبدّل الغایات إلی عناوین الموضوعات .
وبالتدبّر فیما حقّقناه من أنّه قید للواجب بالمعنی الاسمی لا الانتزاعی تعرف حال بقیة الإشکالات ، فتدبّر .
ثمّ إنّ بعض الأعیان من المحقّقین ـ مع اعترافه بأنّ الحیثیات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة کلّها ترجع إلی التقییدیة ، وأنّ الغایات عناوین للموضوعات ـ وجّه کلام القائل بالمقدّمة الموصلة بوجهین :
الأوّل : أنّ الغرض الأصیل حیث إنّه مترتّب علی وجود المعلول فالغرض التبعی من أجزاء علّته هو ترتّب وجوده علی وجودها إذا وقعت علی ما هی علیه ؛ من اتّصاف السبب بالسببیة والشرط بالشرطیة . فوقوع کلّ مقدّمة علی صفة المقدّمة الفعلیة ملازم لوقوع الاُخری علی تلک الصفة ، وإلاّ فذات الشرط المجرّد عن
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 381 السبب أو بالعکس مقدّمة بالقوّة لا بالفعل ومثلها غیر مرتبط بالغرض الأصیل .
وفیه : أنّ الوجه فی العدول عن المقدّمة الموصلة إلی المقدّمة الفعلیة غیر ظاهر ؛ سوی الفرار عن الإشکالات المتوهّمة المردودة ، وقد عرفت حالها .
أضف إلیه : أنّ ما هو الملاک فی نظر العقل إنّما هو حیثیة التوصّل ، لا کونها مقدّمة بالفعل ، ولا اتّصاف السبب بالسببیة والشرط بالشرطیة .
وعلیه : یکون المتعلّق بالذات للإرادة هو المقدّمة بهذه الحیثیة لا بحیثیات آخر ، وأمّا السبب الفعلی بما هو کذلک لا تتعلّق به الإرادة بهذه الحیثیة . وکون السبب الفعلی ملازماً لحصول المطلوب فی الخارج لایوجب أن تکون مطلوبة بالذات ، وکذا سائر العناوین ؛ من العلّة التامّة وکلّ ما هو ملازم لوجود المطلوب .
الثانی : أنّ المعلول لمّا کان متعلّق الغرض فلا محالة تکون علّته التامّة متعلّقة للغرض بالتبع ، وکما أنّ الإرادة المتعلّقة بالمعلول واحدة ـ وإن کان مرکّباً ـ کذلک الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة ـ وإن کانت مرکّبة ـ والملاک فی وحدة الإرادة هو وحدة الغرض . فالإرادة المتعلّقة بالعلّة المرکّبة لایسقط إلاّ بعد حصولها الملازم لحصول المعلول ، انتهی .
قلت یرد علیه مضافاً إلی ما أوردنا علی الوجه الأوّل ـ من أنّ ما هو الملاک عند العقل هو حیثیة الموصلیة ؛ إذ غیرها من العناوین الملازمة لها مطلوب بالعرض ، فالعلّة التامّة بما هی کذلک لا تتعلّق بها إرادة ـ أنّ العلّة المرکّبة بما أنّها ذات أجزاء ـ من شرط وسبب ومعدّ وعدم المانع ـ ولیست بینها جامع ذاتی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 382 ولا یکون من قبیل التولیدیات ، تتعلّق بکلّ واحد إرادة مستقلّة ؛ لوجود مناط الوجوب فی کلّ واحد من التوصّل إلی ذیها .
وبعبارة اُخری : أنّ العلّة التامّة فی العلل المرکّبة عنوان ینتزع من اُمور مختلفة فی التأثیر ، ولایتعلّق بهذا العنوان الانتزاعی غرض ولا إرادة . فلا محیص عن القول بأنّ العقل یفصّل الاُمور ویحلّلها ویعطی کلّ جزء حقّه ، فشأنه تفکیک الاُمور لا تلفیقها ، ولا رؤیة المجموع وإهمال الحیثیات .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 383