القول فی وجوب المقدّمة حال الإیصال
وهو القول الخامس الذی نختم به الآراء فی هذا الباب ، واختاره شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ وبعض المشایخ من أهل العصر ؛ حیث إنّهم لمّا وقفوا علی أنّ فطرتهم تقضی بوجوب المقدّمة الموصلة ، واستصعبوا بعض ما مرّ من الإشکالات فاختاروا أنّ الواجب هو المقدّمة حال الإیصال لا بشرط الإیصال ؛ کی یسلم عن الإیراد ، ولایتخلّف عن حکم الفطرة مهما أمکن .
وتوضیح مقالته : أنّه یمکن أن یتعلّق الطلب بالمقدّمات فی لحاظ الإیصال ، لا مقیّداً به حتّی یلزم المحذورات السابقة ، ولا مطلقاً عن حال الإیصال حتّی یکون
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 374 الواجب مطلق المقدّمة ، بل الواجب هی المقدّمات المنتظمة الواقعة بحسب الواقع فی سلسلة مبادئ المطلوب .
والعلّة فی ذلک هو أنّ ذاتها وإن کانت مورداً للإرادة لکن کما کانت مطلوبیة المقدّمات فی ظرف ملاحظة مجموعها معها لم یکن کلّ واحد من الأجزاء مراداً بنحو الإطلاق ؛ بحیث یسری الإرادة إلی حال انفکاکه عن باقیها ، ولابنحو التقیید ؛ لیلزم المحاذیر المتقدّمة .
والحاصل : أنّ المولی إذا تصوّر جمیع المقدّمات الملازمة لوجود المطلوب أرادها بذواتها ؛ لأنّها بهذه الملاحظة لاتنفکّ عن المطلوب الأصلی ، ولو لاحظ مقدّمة منفکّة عمّا عداها لایریدها جزماً ؛ إذ المطلوبیة فی ظرف ملاحظة المجموع الذی لاتنفکّ عن المطلوب الأصلی . والمراد من لحاظ الإیصال لیس دخالة اللحاظ ، وإنّما اُخذ هو مرآةً لما هو الواجب .
فظهر : أنّ الواجب هو ذات المقدّمات فی حال ترتّبها وعدم انفکاکها عن ذیها ، لا مطلقة عن الإیصال ولا مقیّدة به ؛ وإن کان لاینطبق إلاّ علی المقیّدة . هذا توضیح مرامه ، وسیجیء توجیه کلامه ، فارتقب .
وما عـن بعض المحقّقین مـن أهل العصر : أنّ الـواجب هـو المقدّمـة فی ظرف الإیصال بنحو القضیـة الحینیـة ـ أی الحصّـة من المقدّمـة التوأمـة مع وجـود سائر المقدّمات الملازمة لوجود ذیها ـ یرجع لبّاً إلی ما اختاره شیخنا العلاّمة قدس سره ، الشریف .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 375 وکیف کان فیرد علی التقریر الأوّل : أنّه إن کان حال الإیصال دخیلاً فی حصول الإرادة فلا محالة تکون قیداً للمتعلّق ؛ إذ لایعقل دخالته مع عدم أخذه شطراً أو شرطاً ؛ وإن لم یکن دخیلاً فالموضوع ـ لا محالة ـ خلو عن هذه الحال ، فیصدق مع عدمه أیضاً ، وعلی أیّ تقدیر لایستلزم المطلوب .
وإن شئت قلت : إنّ حال عدم انفکاک المقدّمات عن المطلوب إن لم تکن دخیلة فی وجوب المقدّمة فیکون تعلّق الوجوب علیها فی هذه الحالة من باب الاتّفاق لا الدخالة ، فلا یعقل رفع الوجوب عنها مع زوال تلک الحالة ؛ لأنّ تمام الموضوع للحکم هو نفس الذات ، فلا یعقل مع بقائه رفع الحکم ؛ وإن کانت دخیلة ، أیّ نحو فرض دخلها . فینطبق علی ما اختاره صاحب «الفصول» قدس سره .
وبذلک یظهر النظر فیما أفاده بعض المحقّقین من التمسّک بحدیث الحصّة ، وقد أوعزنا إلی بطلانه غیر مرّة ؛ لأنّ تحصّص الطبیعة وافتراقها عن سائر الحصص فی الذهن أو الخارج لأجل انضمام قیود وحدود بها تصیر متمیّزة عن غیرها ، وإلاّ فهی باقیة علی إطلاقها ، والتوأمیة إذا صارت موجبة لصیرورتها حصّة خاصّة تصیر قیداً لها . وما ذکر لیس إلاّ تعویضاً للاسم .
فإن قلت : إنّ أفعال العقلاء وإراداتهم بما أنّها معلّلة بالأغراض والغایات لها ضیق ذاتی بتبع الأغراض ؛ فالعلّة الغائیة فی وعاء التصوّر لها نحو دخالة فی تضیّق الإرادة ؛ إذ لا یعقل تعلّق الإرادة بشیء أوسع ممّا قام به الغرض .
وهذا نظیر الضیق فی المعالیل التکوینیة ؛ فإنّ للحرارة الخارجیة نحو ضیق من جانب علّته لا علی نحو التقیید ؛ لامتناع تقیید المعلول بوجود علّته فی مرتبة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 376 المعلولیة ، ولا علی نحو الإطلاق أیضاً ، وإلاّ یلزم أن یکون أوسع من علّته ، بل علی وجه لاینطبق إلاّ علی المقیّد .
وعلیه : فالغایة لإیجاب المقدّمة هو التوصّل إلی ذیها ، فالموصلیة من قبیل العلّة الغائیـة لبروز الإرادة وتعلّق الوجـوب علی المقدّمـة ، فلا یعقل أن یسری الإرادة إلی ما لا یترتّب علیه تلک الغایة ، وإلاّ لزم أن یکون السرایة بلا غایـة ، بل بلا فاعل أیضاً ؛ لأنّ العلّة الغائیـة علّـة فاعلیة الفاعل ، فإذا فقدت الغایة انتفی الفاعل أیضاً .
کما لایعقل أن تکون مقیّدة بالعلّة الغائیة ؛ لأنّها متقدّمة تصوّراً متأخّرة وجوداً ، وما شأنه التأخّر وجوداً لایصیر قیداً بوجوده لما یتقدّم علیه بوجوده ، وإلاّ لزم تجافی الموجود عن رتبته ، فلیس الواجب مطلق المقدّمة ؛ ولا المقیّدة بالإیصال ، بل مالا ینطبق إلاّ علی المقیّد .
قلت : ما قرّرته بصورة الإشکال یؤیّد کون الواجب هو المقدّمة الموصلة ، وتوضیحه : أنّ الأحکام العقلیة غیر الأحکام الجعلیة ، فإنّ الثانیة إنّما تتعلّق بموضوعاتها وعناوینها ؛ وإن کان الملاک شیئاً آخر ، بخلاف الاُولی فإنّ الحکم فیها یتعلّق بالملاک وما هو المناط ، فالجهات التعلیلیة فیه تصیر من قیود الموضوع ، کما سیجیء توضیحه فی نقل ما استدلّ به صاحب «الفصول» .
إذا عرفت ما ذکرنا فاعلم : أنّ الوجوب هاهنا مستکشف من حکم العقل ، ولا یمکن تخلّفه عمّا هو مناطه فی نظره ؛ ضرورة أنّ العقل إذا أدرک حیثیة تامّة لتعلّق حکمه علیها فلا محالة یکون حکمه علی تلک الحیثیة ، کما لایستکشف حکماً إلاّ متعلّقاً بتلک الحیثیة أیضاً دون موضوع آخر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 377 فحینئذٍ لو فرضنا أنّ وجوب المقدّمة لأجل التوصّل إلی ذیها ـ کما قد قبله هؤلاء الأعلام ـ فیکون تلک الحیثیة ـ أعنی التوصّل إلی ذیها ـ تمام الموضوع لحکم العقل نفسه ، کما هو الموضوع لا غیرها لحکمه الذی استکشفه من الشارع ، وقد تقدّم أنّه یمتنع أن یکشف حکماً أوسع ممّا أدرکه مناطاً . فاللازم هو وجوب المقدّمة المتحیّثة بها ؛ من حیث إنّها کذلک ، ولایمکن أن تصیر تلک الحیثیة علّة لسرایة الحکم إلی غیرها ، ولا معنی لجعل الحکم علی ذات المقدّمة مع الاعتراف لما هو المناط لحکم العقل .
وأمّا حدیث امتناع تقیید الشیء بعلّته أو غایته فإنّما هو فی العلل التکوینیة والغایات الواقعیة ، فیمتنع تقییدها بمعلولاتها ، لا فی الأحکام والموضوعات ؛ إذ یمکن أن یتعلّق الحکم بالمقدّمة المتقیّدة بالإیصال ، وکذا الحبّ والإرادة ، من غیر لزوم التجافی فی نفس الأمر .
وبالجملة : المقدّمة قد تکون موصلة ، وقد لاتکون کذلک ، فحینئذٍ یمکن أن یتعلّق الإرادة بالموصلة بما هی کذلک وکذا یمکن أن یجعل الحاکم موضوع حکمه کذلک ، وإن لم یکن الواقع مقیّداً ، کما أنّه یمکن أن یصیر موضوع الإرادة والحکم اُموراً غیر مربوطة فی نفس الأمر ومربوطة فی موضوعیة الحکم والإرادة ، کما فی الموضوعات الاعتباریة والمرکّبات الاختراعیة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 378