الأوّل : هل یترتّب علی إتیان الواجب الغیری ثواب أو لا ؟
التحقیق : أنّ ذلک یختلف باختلاف الأنظار فی کیفیة الثواب والعقاب الاُخرویین ، ونشیر إلی الآراء علی نحو الاختصار ، والتفصیل یطلب من محلّه :
فذهب جماعة إلی أنّهما من لوازم الأعمال ؛ بمعنی أنّ الأعمال الحسنة والأفعال القبیحة فی الدنیا تعطی استعداداً للنفس حقیقة ، به یقتدر علی إنشاء صور غیبیة بهیة من الحور والقصور ، وکذا فی جانب الأعمال السیّئة ، بل مثل الأعمال الأخلاق والعقائد والهواجس والصفات النفسانیة ؛ فإنّ لها لوازم لا تنفکّ عنها ، وتوجب اقتداراً للنفس علی إیجاد لوازمها وآثارها علی ما فصّل فی کتبهم .
وبالجملة : فالجزاء هو التمثّل الملکوتی عملاً وخلقاً واعتقاداً ، وهذا الوجه یطلب من محالّه .
وذهب جماعة اُخری ـ آخذاً بظواهر الآیات والأخبار ـ بأنّهما من المجعولات ، کالجزائیات العرفیة فی الحکومات السیاسیة ، کما هو ظاهر قوله تعالی : «مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّیئَةِ فَلا یُجزَی إلاّ مِثْلَها» إلی غیر ذلک .
وهو المرضی عند المحقّق النهاوندی ـ علی ما حکی عنه ـ مستدلاًّ بأنّه لولاه لزم التشفّی المحال فی حقّه تعالی .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 351 وذهب طائفة إلی أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق ، وأنّ العبد یستحقّ من عند ربّه جزاء العمل إذا أطاع أو عصی ، ولایجوز له تعالی التخلّف عنه عقلاً فی الطاعة ، وأمّا جزاء السیّئة فیجوز عنه العفو .
ثمّ إنّ ترتّب الثواب والعقاب علی المسلک الأوّل أمـر مستور لنا ؛ إذ لا نعلم أنّ النفس بالطاعات والقربات تستعدّ لإنشاء الصور الغیبیة وإیجادها ، وعلی فرض العلم بصحّته إجمالاً فالعلم بخصوصیاتها وتناسب الأفعال وصورها الغیبیة ممّا لا یمکن لأمثالنا .
نعم ، لا شبهة أنّ لإتیان الأعمال الصالحة لأجل الله تعالی تأثیراً فی صفاء النفس وتحکیماً لملکة الانقیاد والطاعة ، ولها بحسب مراتب النیات وخلوصها تأثیرات فی العوالم الغیبیة ، وکذا الحال فی إتیان مقدّماتها وتهیئة مبادئها ، بل کلّ من المقدّمة وذیها إذا أتاهما لأجله تعالی یوجب صفاء النفس وتثبیت ملکة الطاعة ، هذا هو الحال علی القول الأوّل .
وأمّا علی الثانی من المسالک : فلا شکّ أنّ التخلّف بعد الجعل قبیح ؛ لاستلزامه الکذب لو أخبر عنه مع علمه بالتخلّف ـ کما فی المقام ـ أو لاستلزامه التخلّف عن الوعد والعهد لو أنشأه ، وامتناعهما علیه تعالی واضح جدّاً .
فحینئذٍ : ترتّب الثواب والعقاب یتّبعان مقدار الجعل ـ سعةً وضیقاً ـ وکما یجوز الجعل علی أصل العمل یجوز جعله علی المقدّمات أیضاً ، ویترتّب الثواب علیها ، من دون أن نلتزم کونها عبادة برأسها ؛ إذ هو بعید جدّاً .
ویظهر عن عدّة من الأخبار ترتّبها علی مقدّمات بعض الأعمال ، کما فی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 352 زیارة إمام الطاهر أبی عبدالله الحسین علیه السلام ؛ حیث ورد الثواب علی کلّ خطوة لمن زاره ماشیاً .
وأمّا علی المسلک الثالث الذی هو خلاف التحقیق فی جانب الثواب لأنّ من عرف مقام ربّه من الغناء والعظمة ، ومقام نفسه من الفقر والفاقة یعرف أنّ التفوّه بالاستحقاق دون التفضّل ممّا لایلیق أن یصدر إلاّ عمّن جهل بشؤون ربّه وغفل عن نقصان ذاته ، وأنّ کلّ ما ملکه من أعضاء وجوارح ونِعَم ـ کلّها ـ منه تعالی ، لا یستحقّ شیئاً إذا صرفه فی طریق عبودیته .
وکیف کان : فعلی فرض صحّة المبنی فهل یستحقّ الثواب علی الغیریات ، کما یستحقّه علی النفسیات أولا ؟
والحقّ هو الثانی ؛ لأنّ الاستحقاق إنّما هو علی الطاعة ، ولایعقل ذلک فی الأوامر الغیریة ؛ لأنّها بمعزل عن الباعثیة ؛ لأنّ المکلّف حین إتیان المقدّمات لو کان قاصداً لامتثال الأمر النفسی فالداعی ـ حقیقة ـ هو ذلک الأمر دون الغیری ؛ لأنّ وجود النفسی ودعوته وإرادة المکلّف لامتثاله کافٍ فی إلزام العبد ومقهوریته فی تهیئة المبادئ ؛ وإن کان راغباً عنه معرضاً ، فلا معنی لإتیان المقدّمات لأجل ذیها ، کما هو مفاد الأوامر الغیریة .
فحینئذٍ : لم یکن الأمر الغیری داعیاً وباعثاً مطلقاً ، وما شأنه هذا لایعقل استحقاق الثواب علیه .
وما ربّما یتراءی فی الأخبار من الأمر بالجزء والشرط فهو إرشاد إلی جزئیته وشرطیته ، لا أنّه باعث وداعٍ نحوهما .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 353 وتوهّم استحقاق الثواب علیها باعتبار الواجب النفسی مدفوع ؛ بأنّ المراد من الاستحقاق فی المقام هو کون ترک الثواب ظلماً وقبیحاً وممتنعاً علیه تعالی . فحینئذٍ فالآتی بالمقدّمات لأجل التوصّل إلی ذیها ـ إذا فرضنا أنّه لم یأت بالواجب النفسی لعذر عقلی أو شرعی ـ فإن کان مستحقّاً للثواب لأجل الواجب الغیری فقد عرفت حاله من کون الاستحقاق فرع الطاعة ، وهو فرع کون أمره داعیاً وباعثاً ، وإن کان مستحقاً لأجل النفسی فهو لم یأت بمتعلّقه ، فکیف یستحقّ أجر ما لم یفعله ؟ فهو کمن تحمّل المشاقّ واستفرغ الوسع فی ردّ الضالّة ، ولم یتمکّن عنه ، فرجع آیساً ، فهل تجد من نفسک جواز القول باستحقاقه الأجر الذی عُیّن لردّها ، أو اُجرة المثل إذا أمر بالردّ بلا تعیّن الاُجرة ؟
فإن قلت : إذا فرضنا شخصین أدرکهما الأجل لدی الزوال ، وکان أحدهما متطهّراً وممهّداً جمیع المقدّمات التی تحتاج إلیها الصلاة دون الآخر فإنّا نجد بین الرجلین فرقاً واضحاً ، کما نجده بین من أحرم للحجّ ممّا یقرب من مکّة ومن أحرم وتوجّه نحو الکعبة من أقاصی البلاد ، فهل هما سیّان فی المثوبة مع قلّة المشقّة فی أحدهما وکثرتها فی الآخر ؟
قلت : إنّ ذلک خلط بین استحقاق العبد وممدوحیته بمعنی إدراک العقل صفاء نفسه وکونه بصدد إطاعة أمره ، وأنّه ذو ملکة فاضلة وسریرة حسنة ؛ ضرورة أنّ التهیّؤ بإتیان المبادئ مع عدم حصول ذیها لایوجب إلاّ کونه ممدوحاً لا مستحقّاً بمعنی کون ترکه ظلماً وجوراً .
وأمّا الفرق بین الإحرامین فواضح لایمکن إنکاره ، إلاّ أنّ زیادة المثوبة لیست لأجل المقدّمات ، بل الثواب کلّه علی نفس العمل ، لکن کثرة المشقّة وقلّتها
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 354 جهات تعلیلیة لاتّصاف العمل بترتّب کثرة الثواب علیه وعدمه .
وبالجملة : أجر نفس العمل بحسب المقدّمات مختلف لا بمعنی التقسیط علیها ، بل یکون التفاوت بلحاظها . نعم ، لو لم یأت بنفس الحجّ مع تحمّل المشاقّ لا یستحقّ أجراً ، بل یستحقّ مدحاً .
فإن قلت : إنّ هنا وجهاً آخر لتصحیح الأجر ؛ وهو أنّ الآتی بالمقدّمة بقصد التوصّل إلی ذیها مشتغل بامتثال الواجب النفسی ومستحقّ للمدح والثواب ، وهما من رشحات الثواب الذی عیّن للواجب النفسی .
قلت : إنّ ذلک توسّع فی الإطلاق ، وإلاّ فالشروع فی الواجب النفسی لیس إلاّ بالشروع فیه دون مقدّماته . ثمّ إنّ الشروع فی الواجب لایوجب ثواباً ولا یوجب استحقاقاً مالم یأت بالمتعلّق بتمام أجزائه ، ولایکون ذلک إلاّ بإتمام الواجب لا بالشروع فیه ؛ فضلاً عن الشروع فی مقدّماته .
أضف إلیه : أنّ ما یترتّب علیه مـن الثواب أمر محـدود علی مفروضـه ؛ لأنّ ما یترتّب علی المقدّمة عنده لیس لها ، بل من رشحات الثواب الذی للواجب النفسی .
فإذن لا معنی لأکثریة الثواب عند زیادة المقدّمات ، بل الثواب علی وزان واحد علی مبناه ـ سواء قلّت المقدّمات أم کثرت ـ فکلّما کثرت یکثر تقسیط ذلک الثواب علیها ، فالثواب مقدار محدود والتقسیط یقدّر مقدار المقدّمات . إلاّ أن یقال : إنّ کثرة الثواب بلحاظ المقدّمات علی ذیها ثمّ یترشّح منه إلیها ، وهذا تخرّص بعد تخرّص ، والتحقیق ما عرفت .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 355