الجهة الثانیة : فی حکم الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه
نبحث فیها عن أنّ الواجب المشروط وجوبه فعلی قبل تحقّق شرطه أولا ؟
والمشهورالمنصور هوالثانی ، وتوضیحه یتوقّف علی تحقیق حقیقة الحکم:
لا إشکال فی أنّ الآمر قبل إنشاء الحکم یتصوّر المبعوث إلیه ویدرک فائدته ولزوم حصوله بید المأمور ، فیرید البعث إلیه بعد تمامیة مقدّماته .
إنّما الکلام فی أنّ الحکم هل هو الإرادة أو الإرادة المظهرة أو البعث الناشئ منها ؛ بحیث یکون الإرادة کسائر المقدّمات من مبادئ حصوله لا من مقوّماته ؟
التحقیق : هو الأخیر بشهادة العرف والعقلاء ، ألا تری أنّ مجـرّد صدور الأمـر من المولی یکفی فی انتقال العبید إلی وجوب الإتیان ، من غیر أن یخطر ببالهم أنّ أمره ناشٍ من الإرادة أو أنّ هنا إرادة فی نفسه وهو یحکی عنها ؟ بل قد عرفت أنّ البعث والإغراء بأیّ آلة کانت فهو تمام الموضوع لحکم العقلاء بوجوب الامتثال .
وأمّا ما عن بعض محقّقی العصر : من کون الحکم عبارة عن الإرادة التشریعیة التی یظهرها المرید بأحد مظهراتها فهو خلاف التحقیق :
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 319 أمّا أولاً : فلما عرفت من ارتکاز العبید علی الانتقال إلی الوجوب من الأوامر ، بلا لحاظ الإرادة التی هذا اللفظ حاکٍ عنها .
وثانیاً : أنّ الوجوب والإیجاب فی عالم الاعتبار واحدان ذاتاً کالوجود والإیجاد فی وعاء التکوین ویختلفان اعتباراً ، ولو صحّ انتزاع الوجوب عن الإرادة صحّ انتزاع الإلزام والإیجاب عنها ، مع أنّ الإرادة لا تسمّی إلزاماً وإیجاباً ، بخلاف الإغراء والبعث لفظاً وحده .
فإن قلت : یرد هذا لو قال القائل بأنّ الحکم عبارة عن نفس الإرادة ، ولکنّه قدس سره یقول بکونه عبارة عن الإرادة التشریعیة التی یُظهرها المرید ، فشَرَط مع نفس الإرادة وجود المُظهر .
قلت : نعم ، لکن کون الحکم عبارة عن الإرادة المظهرة ینافی انتزاع الوجوب عن البعث المولوی مع الغفلة عن الإرادة .
وثالثاً : أنّ الأحکام الوضعیة قسیم التکلیفیة ، مع أنّ الوضعیات لاتکون من قبیل الإرادات المظهرة ؛ إذ الحکومة والقضاوة والملکیة وغیرها تنتزع من جعلها .
ولایمکن أن یقال : إنّ هذه العناوین منتزعة عن الإرادة أو عن الإرادة المظهرة ، کما أنّ حکم السلطان والقاضی عبارة عن نفس الإنشاء الصادر منه فی مقام الحکومة والقضاء لا الإرادة المظهرة ، بل لایکفی فی فصل الخصومة إظهار إرادته أو إفهام رأیه ما لم یتکلّم بلفظ نحو «حکمتُ» أو «أنفذتُ» أو ما یفید الحکم بالحمل الشائع .
نعم ، لو لم ینشأ البعث من الإرادة الجدّیة لاینتزع منه الوجوب والإیجاب ، وهو لایوجب أن تکون الإرادة دخیلة فی قوام الحکم أو تکون تمام حقیقته ، ویکون الإظهار واسطة لانتزاع الحکم منها ، بل أقصی ما یقتضیه أن یعدّ الإرادة من مبادئ الحکم ، کما فرضناه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 320 إذا عرفت ذلک : یتّضح لک أنّ وجوب المشروط قبل تحقّق شرطه لیس فعلیاً ، کما هو ظاهر تعلیق الهیئة ، وإنشاء البعث علی تقدیر لایمکن أن یکون بعثاً حقیقیاً إلاّ علی ذلک التقدیر ؛ للزوم تخلّف المنشأ عن الإنشاء ؛ إذ المفروض أنّ المنشأ إنّما هو الوجوب والإیجاب علی تقدیر حصول شرطه ، فلا معنی ـ حینئذٍ ـ للوجوب فعلاً مع عدم شرطه .
ونظیره باب الوصیة ؛ إذ إنشاء الملکیة علی تقدیر الموت لایفید الملکیة الفعلیة ، بل یؤثّر فی الملکیة بعد الموت .
هذا ، ولو قلنا : إنّ الإرادة دخیلة فی الحکم لاتکون دخالتها إلاّ بنحو کونها منشأً للانتزاع ، وأمّا کونها نفس الحکم ذاتاً فهو خلاف الضرورة ، وعلیه لاینتزع من الإرادة المعلّقة علی شیء إلاّ الوجوب علی تقدیر ، لا الوجوب الفعلی .
فتلخّص : أنّ البعث علی تقدیر کالإرادة علی تقدیر لایکون إیجاباً فعلیاً ، ولا منشأً له کذلک .
فإن قلت : إنّ الوجوب بما أنّه أمر اعتباری یصحّ التعلیق فیه ، وهذا بخلاف الإرادة ؛ فإنّها من مراتب التکوین ، وامتناع التعلیق فی التکوین ضروری . وقولک : إنّ الإرادة هنا علی تقدیر یوهم ذلک .
قلت : إنّ المراد من الإرادة علی تقدیر لیس معناه عدم الإرادة فعلاً ولا التعلیق فی نفس الإرادة ، بل المراد إرادة إیجاب شیء من المأمور علی تقدیر ، فالإرادة التشریعیـة هنا فعلیـة ، لکن تعلّق بإیجاب شیء علی تقدیر ، ولذلک لاینتزع منه الوجوب الفعلی ، بل الوجوب علی تقدیر ، وهو یساوق الإنشائیة .
وبالجملة : تعلّقت إرادة فعلیة بالبعث علی تقدیر ، ففی مثله لاینتزع الوجوب الفعلی ، ففرق بین التقدیر فی الإرادة أو فی إنشاء البعث بها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 321 ولیعلم : أنّ قولنا بأنّ الإرادة التشریعیة هنا فعلیة وتعلّق مع فعلیتها بإیجاب شیء علی تقدیرٍ ، لا ینافی مع ما اخترناه ؛ من أنّ الإرادة والحکم فی الواجب المشروط غیر فعلی ؛ خلافاً لبعض محقّقی العصر .
وجه عدم المنافاة : هو أنّ المراد من فعلیة الإرادة هو الإرادة التشریعیة المتعلّقـة بإنشائها وتشریعها ، فهی فعلیـة قطعاً ، ومـا هـو غیر فعلی إنّما هـی الإرادة المتعلّقة بإیجـاده فی الخارج فعلاً ؛ ولـو قبل حصول شرطـه أو البعث الفعلی إلیه کذلک .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 322