تکمیل : فی أنّ الوضع فی الحروف عامّ والموضوع له خاصّ
وأمّا وضع الحروف فقد اختلف الأقوال وتکثّرت الآراء فیه ، إلاّ أنّا لا نتعرّض إلاّ لجملة منها مشهورة ، ثمّ نعقّبه بما هو المختار مشفوعاً بالبرهان :
فمنها : ما اختاره المحقّق الخراسانی من عموم الوضع والموضوع له ؛ مستدلاًّ بأنّ الخصوصیة المتوهّمة إن کانت هی الموجبة لکون المعنی المتخصّص بها جزئیاً خارجیاً فمن الواضح : أنّ المستعمل فیه کثیراً ما یکون کلّیاً . وإن کانت هی الموجبة لکون المعنی جزئیاً ذهنیاً ؛ للحاظه حالة لمعنی آخر فهی لاتوجب أخذه فی المستعمل فیه ، بل لایصحّ ؛ لحدیث اجتماع اللحاظین واحتیاجه إلی التجرید وإلغاء الخصوصیة فی استعمال الأوامر .
وأنت خبیر : بالمغالطة الواقعة فیه ؛ حیث إنّ ما رتّبه من البرهان علی نفی الجزئیة مبنی علی تسلیم الاتّحاد بین الأسماء والحروف ، وأنّهما من سنخ واحد
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 41 ـ جوهراً وتعقّلاً ودلالةً ـ فحینئذٍ یصحّ أن یبنی علیه ما بنی ؛ من أنّه لامخصّص ولا مخرج من العمومیة ، مع أنّک عرفت التغایر بینهما فی جمیع المراحل ، وسیأتی : أنّ الموضوع له فی مورد نقضه من قوله : «سر من البصرة إلی الکوفة» ممّا یتوهّم کلّیة المستعمل فیه خاصّ أیضاً ، فارتقب .
ومنها : ما فی تقریرات بعض الأعاظم من عمومها لا بالمعنی الذی فی الأسماء ، بل بمعنی أنّ الموجد بالحروف فی جمیع مواطن الاستعمالات شیء واحد بالهویة ، وأنّ الخصوصیات اللاحقة لها خارجة عن الموضوع له ولازمة لوجوده ، کالأعراض المحتاجة فی الوجود إلی المحلّ ، مع أنّه خارج عن هویة ذاتها ، من غیر أن یکون الموضوع له معنی کلّیاً قابلاً للصدق علی الکثیرین ، کالکلّیة فی الأسماء .
وذلک لأنّه لیس لها مفاهیم متقرّرة یحکم علیها بامتناع الصدق وعدم امتناعه . واحتیاجها إلی الخصوصیات فی موطن الاستعمال لایوجب جزئیة الموضوع له ، کما أنّ کونها إیجادیة وموضوعة لإیجاد الربط لایوجبها ، بعد قبول وجود الکلّی الطبیعی ؛ فإنّ التشخّص والوجود یعرضان له دفعة ، انتهی ملخّصاً .
وفیه أوّلاً : أنّ الهویة الواحدة التی ذکرها إن کانت أمراً فی قبال الوجـود ، کما جعلها فی قباله فی قوله : «إنّ وجود المعنی الحرفی خارجاً یتقوّم بالغیر ، لاهویته وحقیقته» ، وفی قبال الماهیة القابلـة للصدق علی الکثیرین أیضاً ، کما نفاها فی الحروف ، ومع ذلک تکون أمراً واحـداً موجـداً للربط فهو کما تری ؛ فإنّا لا نتعقّل له معنی محصّلاً .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 42 وإن کانت وجوداً بنعت السعة مشترکاً بین الروابط ، أو ماهیة کذلک لکن بنعت الوحدة الخارجیة فهو فاسد ؛ لعدم الجامع الخارجی بنعت الوحدة بین الوجودات ، لا من سنخ الوجود ولا من سنخ الماهیة :
أمّا الأوّل فللزوم وحدة الروابط وجوداً وهویةً فی جمیع القضایا ، وأمّا الثانی فلما حقّق فی محلّه وأشرنا إلیه آنفاً من أنّ الماهیة فی الخارج موجودة بنعت الکثرة ، ولا جامع خارجی بنعت الوحدة بین الأفراد ؛ فإنّ الوحدة تساوق الوجود ، فیلزم موجودیتها بوجود واحد .
وإن تعجب فعجبٌ قوله : «إنّ کونه إیجادیاً لاینافی کلّیة المعنی ، بناءً علی وجود الطبیعی» لأنّ نسبة المعانی الحرفیة إلی وجوداتها إن کانت کالطبیعی إلی أفراده فلازمها کونها قابلة الصدق علی الکثیرین ، وإن لم یکن کذلک فلا وجه لابتناء وجودها علی وجوده .
وأظنّک إذا رعیت ما مـرّ بک فی وجـود الکلّی الطبیعی تقدر علی کشف حـال ما ذهب إلیه بعض المحقّقین فی وضع الحروف ؛ من أنّها موضوعة للقدر المشترک ؛ وإن کان لایتصوّر تلک الجهة الجامعـة بینها إلاّ فی ضمن الخصوصیات ، فإنّ ما اختاره قدس سره أشبه شیء بالقول بوجود الکلّی الطبیعی فی الخارج بوجود واحد شخصی ، کما نسب إلی الرجـل الهمدانی ، بل یشعر بذلک أیضاً عبارات کثیر من الأعلام ؛ حیث یعبّرون فی کلماتهم بالحصّة والجزء وما أشبههما .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 43 ومنها : مـا نسب إلی بعض الفحول مـن کـون معناها جـزئیاً إضافیـاً ، وهـو لمّـا وقف علی المثال المعروف «سـر مـن البصرة إلی الکوفـة» توهّم کلّیـة المستعمل فیه .
ومنها : أنّ الکلّیة أو الجزئیة تابعة لکلّیة الطرفین أو جزئیتهما .
ویقرب من ذینک القولین ما رجّحه بعضهم من أنّها موضوعة للأخصّ من المعنی الملحوظ ؛ قائلاً بأنّ القول بوضعها للجزئی الحقیقی الخارجی أو الذهنی من قبیل لزوم ما لایلزم .
هذا ، ولکن القول بإیجادیة بعض الحروف بنفس الاستعمال ، وعدم استقلال الحروف فی المفهومیة والمعقولیة والوجود مطلقاً یثبت ماهو المختار ؛ من کون الوضع مطلقاً عامّاً والموضوع له خاصّاً .
أمّا فی الإیجادیة منها ، کحروف النداء والتوکید فواضح جدّاً بعد ما عرفت من أنّها وضعت لإیجاد معانیها من النداء وشبهه بالحمل الشائع ، من غیر فرق بین أن یکون المنادی واحداً أو کثیراً .
فإنّک إذا قلت : «یا زید» أو قلت : «یا أیّها الناس» فالنداء واحد شخصی ینادی به مسمّی ما یلیه ، ولم توضع للحکایة عن معانٍ مستقرّة فی مواطنها ، مع قطع النظر عن الاستعمال ؛ لعدم واقعیة لها مع قطع النظر عنه ، فهی آلات لإیجاد المعانی بنفس الاستعمال . والوجود ـ حتّی الإیقاعی منه ـ یساوق بوجهٍ الوحدة التی هی عین جزئیة المستعمل فیه وخصوصیة الموضوع له .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 44 وأمّا القسم الآخر ـ أعنی الحاکیات من الحروف ـ فتوضیحه : أنّک قد عرفت أنّ معانی الحروف نفس الربط والتدلّی بالغیر والقیام بشیء آخر خارجاً وذهناً ، فهی إذن لاتتقوّم فی الخارج إلاّ بالوجودات المستقلّة مفهوماً ووجوداً کالجواهر ، أو مفهوماً فقط کالأعراض ، کما أنّه لا تتقوّم فی الذهن إلاّ أن تلحظ حالة للغیر ومندکّة فیه ، وإلاّ لزم الانقلاب فیها ، وخرجت عن کونها معانٍ حرفیة .
وقس علی هذا مقام الدلالة ـ أصلها وکیفیتها ـ فلا یستفاد من الحروف المجرّدة معنی ما لم یضمّ إلیها شیء من الأسماء ، کما أنّ کیفیة دلالتها ـ أعنی دلالتها علی الوحدة والکثرة ـ أیضاً کذلک ، فتدلّ علی الواحد عند کون أطرافها واحدة ، وعلی الکثیر عند کونها کثیرة .
تجد جمیع ذلک ـ أعنی عدم استقلالها فی المراحل الأربعة : الوجود الخارجی والذهنی والدلالة وکیفیتها ـ عند التأمّل فی قولنا : «زید فی الدار» ، أو «کلّ عالم فی الدار» ؛ إذ لا شکّ أنّ لفظة «زید» تحکی عن الواحد الشخصی ، ولفظـة «کلّ» عن الکثرة التفصیلیة ، ولفظة «عالم» تدلّ علی المتلبّس بالمبدأ ، والظرف ـ أعنی «الدار» ـ علی المکان المعهود .
فإذن هلمّ نحاسب مفاد لفظـة «فی» ؛ فإنّک لا تشکّ ـ مهما شککت فی شیء ـ أنّ مفهومها فی المثال الثانی هـو الروابط الحاصلة بین کلّ واحـد مـن أفـراد العالم وبین الدار ، وانتساب کلّ فرد إلیها ، کما أنّ معناها فی الأوّل هـو انتساب واحد فقط ، وما ذلک إلاّ من جهة اختلاف الطرفین بالوحـدة والکثرة ، لا مـن جهـة نفس الرابطة مستقلّة . هـذا ، مع أنّ التبعیة فی الدلالة لا تجامـع الاستقلال فی کیفیتها .
إذا تمهّد ذلک فنقول : المعنی الذی هذا شأنه ـ الموصوف بأنّه لایستقلّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 45 جوهراً ووجوداً ودلالة وکیفیة ـ لایتصوّر له جامع کلّی ینطبق علی أفراده ویحکی عن مصادیقه ؛ لأنّ الجامع ـ علی فرضه ـ یجب أن یکون من سنخ المعانی الحرفیة ، فلابدّ وأن یکون ربطاً بالحمل الشائع ، وإلاّ انقلب معنی اسمیاً . وکونه ربطاً بالحمل الشائع یلازم فردیته ، وهو خلف .
بل لابدّ عند الوضع من التوسّل ببعض العناوین الاسمیة التی لاتکون جامعاً ذاتیاً لها ، ولایمکن إیقاع الربط بها ، کمفهوم الابتداء الآلی والنسبة ؛ ممّا لاتکون من سنخ المعانی الحرفیة . فلابدّ حینئذٍ من الالتزام بخصوص الموضوع له فی الحروف کافّة بعد عموم وضعها .
فالواضع لامناص له إلاّ أن یتصوّر معنی اسمیاً ، کالابتداء ونحوه ؛ مشیراً به إلی أفراده ومصادیقه بالحمل الشائع ، فیضع لفظة «من» مثلاً لما هو مصداق بالحمل الشائع ، وقد عرفت أنّ دلالتها علی الوحدة والکثرة تابعة لحال الطرفین .
فإن قلت : إنّه علی القول بخصوصیة الموضوع له یکون استعمالها فی الکثیر من قبیل استعمال کلّی منطبق علی کثیرین ، أو مـن قبیل استعمال اللفظ فی أکثر مـن معنی واحد ، والأوّل ممتنع ؛ لوضوح امتناع فرض جامع حرفی یکون نسبته إلی الأفراد نسبة الطبیعی إلی مصادیقه ، والثانی خلافی ، أو غیر مجوّز للبرهان القائم فی محلّه .
قلت : إنّ حکایة الحروف فی الموارد التی یتوهّم کلّیة المستعمل فیه لیست إلاّ حکایة الواحد عن الکثیر ، لاعن المنطبق علی الکثیر ، وکم فرق بین التعبیرین ؟ !
وإن شئت قلت : إنّه مـن قبیل استعمال اللفظ فی المعانی الکثیرة ، لا استعمالـه فی کلّی منطبق علی کثیرین ، وما اُقیم من البرهان فی محلّـه علی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 46 الامتناع ـ لو صحّ ـ فإنّما هو فی الأسماء التی لاتبعیة لها فی دلالتها ولا کیفیتها لغیرها ، لا فی الحروف التی استعمالها ودلالتها وتعلّقها وتحقّقها تبعیة غیر مستقلّة . فیکون هذا النحو من الاستعمال فی الکثیر والحکایة عنه ممّا لا محـذور فیه ، بل وإن کان المحکی غیر متناه بعد ما عرفت من أنّ التکثّر فی الدلالـة والاستعمال تبعی لا استقلالی .
وإن أردت زیادة توضیح : فاستوضح الأمر من المثال المعروف «سر من البصرة إلی الکوفة» ، فإنّک إذا قطعت النظر عن ورود هیئة الأمر تجد دلالة الحرفین علی نسبتی الابتدائیة والانتهائیة بین طبیعة السیر المنقطع من الطرفین دلالة تصوّریة ، من غیر تکثّر فی محکیها ، وإذا بعث إلی هذا السیر المحدود من الطرفین القابل للانطباق علی أفراد کثیرة صارت الحدود متکثّرة بالتبع .
وإن أبیت عن ذلک فلنا أن نقول فی مثل «کلّ رجل فی الدار» : إنّ الحرف مستعمل فی معنی جزئی ، وینحلّ بنظر العرف إلی کثیرین ؛ نظیر انحلال الحکم الواحد المنشأ بإنشاء واحد إلی أحکام عدیدة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 47