القول فی معانی الهیئات
وحیث انتهی الکلام إلی هنا لا بأس بصرف عنانه إلی تحقیق القول فی معانی الهیئات والبحث عن کلّ واحد منها ، بعد مالم یکن لها میزان کلّی ، فنقول :
إنّ من المسلّمات عند أکابر القوم هو ترکّب القضایا ـ موجباتها وسوالبها ومعدولاتها ـ من أجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول والنسبة ، وهم یرون أنّ لجمیعها محکیات فی الخارج ، وأنّ الألفاظ من حیث إنّها نقوش الخارج ومرایا
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 47 الواقع مشتملة علی ما اشتمل علیه الواقع من الأجزاء الثلاثة .
هذا ، ولکنّک إذا تأمّلت حقّه تجد الحملیات عاریة عن النسبة کافّة فی جمیع المراحل ؛ لفظیة کانت أو معقولة أو خارجیة .
ومجمل القول فی ذلک : أنّک لاتجد أثراً من النسبة فی محکی قولنا : «الإنسان إنسان» ؛ لامتناع جعل الربط بین الشیء ونفسه ؛ لاستلزامه جواز سلب الشیء عن نفسه ، وکونه غیر نفسه خارجاً ؛ لیجعل بینهما الربط ویحصل الإضافة .
ولا فی قولنا «الإنسان حیوان ناطق» ؛ إذ لیس الحدّ غیر المحدود ، بل هو نفسه ، وإنّما یفترقان بالإجمال والتفصیل ، ولیس الغرض إلاّ بیان الهوهویة لاحصول أحدهما للآخر .
ولا فی قولنا : «زید موجود» ؛ لاستلزامه وقوع الماهیة التی لیست فی ذاتها شیئاً طرف النسبة فی الخارج ، وأن تکون فی قبال الوجود فی الخارج ، وأن یکون زائداً علیها فیه .
وأوضح من ذلک قولنا : «الله تعالی موجود» ، مع أنّه الوجود البحت ، لایدانیه شوب الترکیب ، ولا یقرب منه وهم الاثنینیة ، ولا تحیط به الماهیة والحدود .
وکذلک قولنا : «زید ممکن» أو «شریک البارئ ممتنع» ؛ إذ لو اشتملا علی النسبة الخارجیة لزم کون الإمکان والشیئیة من الاُمور العامّة الزائدة علی موضوعاتها خارجاً ، ومثلها قولنا : «البیاض أبیض» ممّا حمل فیه المشتقّ علی مصداقه الذاتی ؛ لامتناع توسّط النسبة بین الشیء ومصداقه الحقیقی .
فالتدبّر التامّ یقضی بخلوّ الخارج عن النسبة التی زعموها فی هذه القضایا .
وإن شئت تفصیل المقام فنقول : إنّ القوم قد قسّموا الحملیة باعتبار الاتّحاد فی المفهوم والماهیة ، أو الاتّحاد فی الوجود فقط إلی الحملی الأوّلی الذاتی والشائع
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 48 الصناعی ، وقسّموا الثانی أیضاً باعتبار کون الموضوع مصداقاً حقیقیاً لما هو المحمول ، نحو قولنا : «البیاض أبیض» ، أو مصداقاً عرضیاً له ، کحمله علی الجسم إلی الحمل الشائع بالذات والحمل الشائع بالعرض . فلابدّ لنا من النظر إلی الخارج المحکی أوّلاً ، ثمّ إلی الهیئات التی جعلت آلة للحکایة عنه :
فنقول : الحقّ خلوّ صحیفة الوجود عن النسبة والربط والإضافة فی جمیع هذه الموارد ؛ لبداهة امتناع دعوی النسبة فی محکی الأوّلیات والبسائط بحسب نفس الأمر ، فإنّ الحدّ عین المحدود وتفصیل نفس حقیقته ، فلا یمکن فرض إضافة واقعیة بینهما فی وعاء تقرّر الماهیة .
وکذا الحال فی الهلیات البسیطة ؛ فإنّه لایعقل تحقّق الإضافة بین موضوعها ومحمولها ، وإلاّ لزم زیادة الوجود علی الماهیة فی الخارج ، وغیرها من المحاذیر .
کما أنّه لایعقل فی حمل الشیء علی نفسه أو حمله علی مصداقـه الذاتی ، وکذلک مـا یکون کمصداقـه الذاتی ، مثل قولنا : «الوجود موجـود» ، أو «الله تعالی موجـود» . فتبیّن : أنّ محکیات تلک القضایا الکثیرة خالیة عن الإضافة والنسبة ، هذا حال الخارج .
وأمّا القضایا اللفظیة والمعقولة : فلا شکّ فی کونها مطابقة للخارج ، فلا تحکی إلاّ عمّا اشتملت علیه صحیفة الوجود ، بلا زیادة ولا نقصان ؛ لأنّه لا معنی لاشتمالها علی الإضافة والنسبة بلا حکایة عن الخارج ، ومع الحکایة عن الخارج تصیر کاذبة غیر مطابقة للواقع ونفس الأمر .
فتلخّص من جمیع ذلک : أنّه لا وجود للنسبة فیها لا فی الخارج ، ولا فی القضیة المعقول من الواقع ، ولا فی القضیة اللفظیة ، ولا المفهوم من القضیة .
وأمّا الشائعات من الحملیة ، التی لا یحمل فیها المحمول علی مصداقه
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 49 الذاتی ، مثل «زید أبیض» فالمختار فیها : أنّها أیضاً لا تدلّ إلاّ علی الهوهویة ؛ لأنّا إن قلنا بکون الذات مأخوذاً فی المشتقّ فحالها حال الحمل الشائع بالذات ؛ لعدم تعقّل النسبة بین الذات وبین الموضوع خارجاً .
وإن قلنا ببساطة المشتقّ ، وأنّ الفرق بینه وبین مبدئه هو اللا بشرطیة والبشرط لائیة ، فبما أنّ اللا بشرط لا یأبی عن الحمل وعن الاتحاد مع الغیر یکون الموضوع فی هذه الموارد متّحداً مع المحمول ، وتتحقّق الهوهویة التی هی المقصود ، والقضیة حاکیة عنها ، وکونها عرضیة الحمل إنّما هو بالبرهان الدقیق ، کموجودیة الماهیة بالعرض .
فإذن لم یبق من الحملیات الموجبة ما یتوهّم اشتمالها علی النسبة ، سوی الحملیات المؤوّلة ممّا یتخلّل فیها الأداة ، نحو قولنا : «زید فی الدار» و«زید علی السطح» ، وهی لیست حملیات حقیقیة ؛ ولذلک تتأوّل بکائن أو حاصل .
ودلالتها ـ لفظاً ـ علی النسبـة الخارجیـة ممّا لا إشکال فیه ، کما أنّ الإضافات لها نحو تحقّق فی الخـارج ؛ إذ هـی بشهادة التبادر تحکی عـن النسبة بین الأشیاء بعضها مع بعض ، ولفظة «فی» وما أشبهها تدلّ علی نحو إضافة وحصول بینهما ، هذا حال الموجبات فی الحملیات .
فمن ذلک کلّه ظهر : عدم صحّة ما علیه بعض المحقّقین من أنّ مدلول الهیئة هو ربط العرض بموضوعه ، وأنّ ذلک هو المعبّر عنه بالوجود الرابط ؛ فإنّ فیه وجوهاً من الخلل ، لاتخفی علی المتأمّل .
فإن قلت : لأیّ شیء وضعت الهیئة فی الحملیات الحقیقیة الخالیة عن
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 50 النسبة ، وکذا المؤوّلة منها ممّا تشتمل علی النسبة ؟
قلت : أمّا الاُولی فالهیئة فیها وضعت للدلالة علی الهوهویة التصدیقیة ـ مقابل الهوهویة التصوّریة ـ کما سیأتی فی المرکّبات الناقصة ، ومفادها : أنّ المحمول عین الموضوع خارجاً ، کما أنّ الهیئة فی الثانی وضعت لتدلّ علی تحقّق النسبة ـ دلالة تصدیقیة ـ فهی تشتمل علی التصدیق ـ لا محالة ـ علی اختلاف فی المتعلّق من الهوهویة أو ثبوت النسبة .
ومن هنا یتّضح حال السوالب ؛ فإنّها عند المحقّقین لیست لحمل السلب أو حمل هو السلب ، بل لسلب الحمل ونفی الهوهویة بنحو التصدیـق فی الحملیات غیر المؤوّلة ، کقولنا : «زید لیس حجراً» ، ولسلب الحصول ونفی النسبة والکینونة تصدیقاً فی المؤوّلة منها ، نحو «زید لیس فی الدار» و«عمرو لیس له البیاض» . فالحملیات الحقیقیة السالبة لاتشتمل علی النسبة مطلقاً ، والمؤوّلة منها یؤخذ لفظ الدالّ علی النسبة فیها لإیقاع السلب علیها .
أمّا الجمل الفعلیة فسیأتی تحقیق حالها فی مباحث المشتقّ .
فاتّضح ممّا ذکرنا : عدم صحّة اُمور تتسالم علیها القوم :
الأوّل : مـا ربّما یقال فی توضیح الفرق بین الإنشاء والإخبار : مـن أنّ للثانی نسبة فی الخارج والذهن ، وأنّهما تارة تتطابقان واُخری تختلفان ، بخلاف الإنشاء .
الثانی : ما هو المعروف الدائر بینهم : من أنّ العلم إن کان إذعاناً للنسبة فتصدیق ، وإلاّ فتصوّر .
الثالث : ما یقال من أنّ تقوّم القضایا من أجزاء ثلاثة : من النسبة والموضوعین .
الرابع : تفسیر الصدق والکذب بتطابق النسبة وعدمه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 51