الجهة الثالثة : فی دفع بعض الإشکالات علی مبنی المشهور
قد وقع الواجب المشروط علی مبنی المشهور مورد النزاع والمناقشة ؛ فقبله قوم من المحقّقین . وناقش فی صحّته آخرون بوجوه :
منها : ما أورده بعض أهل التحقیق ـ واختار نفسه کما تقدّم : أنّ التکلیف فی الواجب المشروط فعلی قبل تحقّق شرطـه ـ قائلاً بأنّ الإنشاء المشروط ممّا یتوصّل به المولی إلی تحصیل المکلّف به ، والواجب المشروط علی مبنی المشهور لیس بمرادٍ للمولی قبل تحقّق شرطه ، فکیف یتصوّر أن یتوصّل العاقل إلی تحصیل ما لایریده فعلاً ؟ فلابدّ أن یلتزم بوجود غرض نفسی فی نفس الإنشاء ، انتهی .
ولایخفی علیک ضعفه وغرابته ؛ لأنّه لم یتوصّل بکلامه إلی طلب الإیجاد فعلاً حتّی یقال : کیف یتوصّل بکلام إلی ما لایرید إیجاده فعلاً ، بل توصّل به إلی المطلوب علی تقدیر حصول الشرط ، وکم فرق بینهما ؟ !
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 322 وبالجملة : أنّ الإنشاء وإن کان للتوصّل إلی المبعوث إلیه لکن فی الواجب المشروط یکون إنشاء الإیجاب علی تقدیر الاستطاعـة فی الأمر بالحجّ ـ مثلاً ـ إنّما هو لأجل التوصّل إلی إیجاده علی هذا التقدیر لا قبله .
وأمّا الفائدة فی هذا الإنشاء مع عدم فعلیة الحکم فإنّما تسأل عنها فی الخطابات الشخصیـة القائمة بمخاطب واحد ، وتصوّرها فیها بمکان من الإمکان ، لا فی القوانین الکلّیة المتعلّقة بکلّ مکلّف بخطاب واحد وجعل فارد ، وسیوافیک فی محلّه بیان کیفیة جعل القانون الکلّی .
وحینئذٍ : فالمشرّع المقنّن لمّا رأی اختلاف المکلّفین بین واجد للشرط حین الخطاب وفاقد له لم یر بدّاً ومناصاً سوی الإنشاء علی العناوین الکلّیة علی فرض تحقّق الشرط ؛ حتّی ینبعث من هو واجد وقت الخطاب ، وینتظر مَن هو فاقد .
أضف إلی ذلک : أنّ الإشکال ـ علی فرض صحّته ـ مشترک الورود ؛ لأنّه إن أراد من فعلیة الحکم أنّه یجب تحصیله فعلاً ، وفی زمن صدور الخطاب ؛ وإن کان الشرط غیر موجود فهو خارج من کونه مشروطاً ، وإن أراد أنّه یجب تحصیله فی ظرفه وبعد حصول شرطه فأیّ وجه لطلبه فعلاً .
مع أنّه لم یرد إیجاده فی آن البعث ، فإن قال : إنّه لأجل الإعلان حتّی ینبعث فی محلّه فنحن نقول مثله .
ومنها : أنّ وجوب المقدّمة قبل وجوب ذی المقدّمـة ممتنع ؛ لأنّ وجوبها ناشٍ من وجوبه ، وعلی فرض التلازم بین الإرادتین تکون إرادة المقدّمـة ناشئة مـن إرادة ذیها ، ولو کانت المقدّمة واجبـة قبل وجـوب ذیها لزم وجـود المعلول
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 323 قبل وجود علّته ، أو وجود أحد المتلازمین قبل الآخر .
وبالجملة : المقدّمات المفوّتة غیر واجبة قبل وجوب ذیها علی مبنی المشهور ، مع أنّه لایمکن تحصیلها بعد تحقّق ذیها ، والمکلّف فی ترکها ذو عذر وجیه ، ولا مناص علی قولهم إلاّ القول بوجوبها التهیّئی أو التمسّک بإلزام العقل بتحصیلها ؛ وإن کانت غیر واجبـة ؛ لأنّ الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار ، والکـلّ کما تری .
وفیه : أنّ ذلک توهّم محض ، حصل من حدیث نشوء إرادة من اُخری ، وتولّد بعث من آخر ، وقد عرفت أنّ وجوب المقدّمة لایکون ناشئاً من وجوب ذیها ، ولا إرادتها من إرادته .
أمّا الأوّل : فلعدم التلازم بین البعث إلی شیء والبعث إلی مقدّمته ، بل ربّما لایکون للمولی بعث إلی المقدّمات .
وأمّا الثانی : فلما قدّمنا من أنّ الإرادة بقول مطلق إنّما تحصل عن مبادئها المحرّرة فی محلّها ، ولایعقل بضرورة البرهان جواز کون إرادة مبدأ لوجود إرادة اُخری . ومعنی کون هذه الإرادة غیریة هو أنّ الآمر لمّا رأی توقّف ما هو مطلوبه علی شیء آخر فلا محالة یرید المتوقّف علیه لأجل حصوله .
وحینئذٍ لا مانع ـ لو لم نقل أنّه المتعیّن ـ أن نختار أنّ المقدّمة واجبة بالوجوب الغیری ؛ وإن لم یکن هناک واجب نفسی ، وأنّها مراده بالإرادة الغیریة ؛ لوجود ملاک المقدّمیة فیها ؛ وإن لم تتحقّق الإرادة الفعلیة النفسیة بالنسبة إلی ذی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 324 المقدّمة بنحو الإطلاق ، بل تتعلّق إرادة فعلیة بالبعث علی فرض ، کما تقدّم .
فمع عدم البعث الفعلی نحوذی المقدّمة تتعلّق الإرادة بمقدّمته علی الملازمة بالمعنی الذی عرفته کراراً .
فلا تتوهّم المنافاة بین مـا ذکرنا هنا مـن أنّ الإرادة المتعلّقة بـذی المقدّمـة غیـر فعلیـة ، وبین مـا تقدّم مـن أنّ الإرادة التشریعیـة فی الواجب المشروط فعلیـة ، فلاحظ .
والحاصل : أنّه لا مانع عن القول بأنّ المقدّمة واجبة ومرادة دون ذیها ، وتوضیح ذلک : أنّ الملاک فی إرادة المقدّمة هو علمه بتوقّف التوصّل إلی الواجب علیها .
فحینئذٍ : إن کان ذو المقدّمة مراداً فعلیاً ومبعوثاً إلیه مطلقاً فلا محالة تتعلّق الإرادة الفعلیة بما یراه مقدّمة ، بناءً علی الملازمة ، وأمّا إذا کان ذو المقدّمة غیر مبعوث إلیه فعلاً ولکن المولی وقف علی أنّ له مقدّمات لابدّ من إتیانها قبل حصول الشرط وإلاّ یفوت الواجب فی محلّه بفوتها ، فعند ذلک تتعلّق إرادة آمریة علی تحصیلها ؛ لأجل التوصّل بها إلی المطلوب بعد تحقّق شرطه .
فظهر : أنّه علی فرض الملازمة لامحیص عن تعلّق الإرادة بها .
وتوهّم : لزوم تحقّق المعلول قبل علّته ناشٍ من تخیّل کون الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات ناشئة من إرادة ذیها ، أو کونهما متلازمین بالمعنی المصطلح ، وهما بمکان من الفساد .
فإن قلت : إنّ ذلک ینافی ما سبق فی تحریر محطّ البحث من وجـود
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 325 الملازمـة بین وجوبها ووجوب ذیها ، فحینئذٍ بعد التفکیک بینهما فی المقام کیف یعقل الملازمة الفعلیة بین موجود ـ أعنی إرادة المقدّمة ـ ووجوبها ، وبین معدوم ـ وهو إرادة ذیها ـ ووجوبه .
قلت : ما حرّرناه فی محطّ البحث حقّ لاسترة علیه ، إلاّ أنّ لزوم وجوبها لوجوب ذیها من قبیل اللازم الأعمّ لا المساوی ، فکلّما تحقّق وجوب ذیها تحقّق وجوبها ولا ینعکس ، بل ربّما یتحقّق وجوب المقدّمـة بملاک التوقّفیة لما یریده بنحو الإطلاق عند حصول شرطه فی المستقبل ؛ وإن لم یتحقّق فی المقام وجوب ذیها بالفعل .
وخلاصة الکلام : أنّ ملاک تحقّق إرادة المقدّمة فی الفاعل والآمر علی وزان واحد ؛ وهو تشخیص توقّف متعلّق غرضه علیه ، فلو رأی الآمر أنّ له مطلوباً تامّاً فی المستقبل وإن لم یکن له طلب بالفعل ؛ لعدم تحقّق شرطه ، ولکن یعلم أنّ الشرط سیحصل وله بعد حصوله غرض تامّ یفوت بترک الأمر بالمقدّمة فی الحال ، فلا محالة یریدها علی الملازمة بالمعنی المتقدّم ، کما أنّ الفاعل یریدها ، ولکن ذلک لا لأجل الملازمة بین الإرادتین ؛ إذ کیف تصیر الإرادة المعلّقة بشیء منشأ للإرادة المطلقة للمقدّمة ؟ بل انقداح الإرادة بملاک فوت الغرض لولا الإرادة علی ما أثبته القائلون بوجوب المقدّمة فی جمیع الأبواب .
أضف إلی ذلک : أنّ هنا طریقاً آخر لحلّ الإشکال غیر هذا المسلک ؛ وهو أنّ العاقل إذا وقف علی مبدئیة شیء لمطلوبه ؛ بحیث لایمکن الوصول إلیه إلاّ به فلا محالة یستقلّ عقله بلزوم إتیانه للغیر ، لا لمصلحة فی نفسه وإن لم یأمر به المولی .
فلو علم المکلّف أنّ المولی قال «أکرم صدیقی إذا جاءک» ، وتوقّف إکرامه
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 326 علی مقدّمات قبل مجیئه یحکم عقله بإتیانها لتحصیل غرضه ، بل لو کان المولی غافلاً عن مجیء الصدیق ، لکن العبد واقف علیه وعلی غرض المولی بإکرامه علی تقدیره یجب علی العبد بحکم عقله تهیئة المقدّمات ؛ حفظاً لغرضه .
ثمّ إنّه لو سلّم کـون الإرادة فی الواجب فعلیاً قبل حصول شرطـه ، وأنّ الحکم عبارة عن الإرادة المظهرة کان الإشکال أیضاً باقیاً غیر مندفع ـ وإن زعم بعض أهل التحقیق أنّ الإشکال یندفع به ـ لأنّ الإرادة المتعلّقة بشیء کما أنّها لا تؤثّر فی البعث نحو ذیها ـ للاشتراط بالنحو الذی التزمـه ؛ لأنّ الشرط غیر حاصل ـ کذلک لایمکن أن تؤثّر فی البعث نحو مقدّماته . ومجـرّد وجود الإرادة الفعلیة کذلک لایکفی فی البعث نحو المقدّمات مطلقاً ، فالإشکال مشترک الورود بینه وبین المشهور .
وإن شئت قلت : لو سلّمنا صحّة ما ذهب إلیه من حصول الإرادة فی الواجب المشروط قبل حصول شرطه لکن یبقی الإشکال بحاله أیضاً ؛ لأنّ ظواهر کلماته ـ کغیره ـ هو القول بنشوء إحداهما عن الاُخری علی نحو العلّیة فی الإیجاد ، ومن المعلوم : أنّ المعلول یتبع علّته فی السعة والضیق ؛ لکونه من شؤونها ، فلو فرضنا أنّ الإرادة لا یمکن لها التأثیر بالبعث فعلاً نحو المراد وذی المقدّمة فکیف لا یمکن نشوء إرادة منها إلی المقدّمات ، علی خلاف علّتها ومنشئها ؟
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 327