إشکال المحقّق النهاوندی علی الواجب المعلّق وتزییفه
وحاصله : أنّ النفس فی وحدتها کلّ القوی ، وفی کلّ مرتبة عینها ، فإذا أدرکت فی مرتبة العاقلة فائدة الفعل تجد فی مرتبة القوّة الشوقیة شوقاً إلیه ، وإذا لم تجد مزاحماً تخرج منها إلی حدّ الکمال الذی یعبّر عنه بالقصد والإرادة ، وینبعث منها هیجان فی القوّة العاملة ویحرّک العضلات .
ومن الواضح : أنّ الشوق وإن أمکن تعلّقه بأمر استقبالی إلاّ أنّ الإرادة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 328 لایمکن تعلّقها بأمر استقبالی ، وإلاّ یلزم تفکیک العلّة التامّة عن معلولها ؛ أعنی انبعاث القوّة العاملة المنبثّة فی العضلات .
وأمّا الشوق المتعلّق بالمقدّمات بما هی مقدّمات فإنّما یحصل من الشوق إلی ذیها ، لکنّه فیها یحصل إلی حدّ الباعثیة ؛ لعدم المزاحمة ، دون ذی المقدّمة ، فإنّه فیه یبقی بحاله إلی أن یرفع المانع .
وأمّا الإرادة التشریعیة فإنّ الشوق المتعلّق بفعل الغیر إذا بلغ مبلغاً ینبعث منه الشوق نحو البعث الفعلی کان إرادة تشریعیة .
ومن الواضح : أنّ جعل الداعی لیس ما یوجب الدعوة علی أیّ حال ، بل جعل ما یمکن أن یکون داعیاً عند انقیاده ، وعلیه لایعقل البعث نحو أمر استقبالی ؛ إذ لو فرض حصول جمیع مقدّماته وانقیاد المکلّف لأمر المولی لما أمکن انبعاثه نحوه بهذا البعث ، فلیس ما سمّیناه بعثاً فی الحقیقة بعثاً ؛ ولو إمکاناً ، انتهی ملخّصاً .
وفیه أمّا أوّلاً : فإنّ مبدئیة الشوق للإرادة لیست دائمیة ـ وإن کانت غالبیة ـ وقد فصّلنا القول وأوضحنا حاله فی «رسالة الطلب والإرادة» ، ونزید هنا بیاناً ؛ وهو أنّک تری بعین الوجدان أنّ الشخص ربّما یرید أمراً لأجل التخویف والإیعاد الذی یجرّه إلیه بلا شوق منه إلی العمل ، وقد یشرب الدواء البشیع لتشخیص صلاح فیه مع الانزجار الشدید ، وربّما یترک شرب الماء البارد مع شدّة عطشه ؛ تسلیماً لحکم العقل بأنّه مضرّ عند العرق أو لمرض الاستسقاء .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 329 أضف إلیه : أنّ القول بأنّ الشوق شیئاً فشیئاً یصیر إرادة یوهم خلاف التحقیق ؛ إذ الإرادة فینا لیست شوقاً مؤکّداً ؛ فإنّ الشوق یشبه أن یکون من مقولة الانفعال ؛ إذ النفس بعد الجزم بالفائدة تجد فی ذاتها میلاً وحبّاً إلیه ، فلا محالة تنفعل عنه . ولکنّ الإرادة ـ التی هی عبارة عن إجماع النفس وتجمّعها وتصمیم الجزم ـ من صفاتها الفعّالة ، ولایعقل أن یصیر ما هو من مقولة الانفعال باعثاً ؛ وإن بلغ ما بلغ فی الشدّة .
وثانیاً : أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ حصول الإرادة یستلزم تحریک العضلات دائماً غیر تامّ ؛ إذ الإرادة تتشخّص بالمراد الذی هو متعلّقها ؛ إذ لایمکن أن تتحقّق الإرادة بلا متعلّقها ، فحینئذٍ تعدّد المراد فی الخارج حقیقة یستلزم تعدّد الإرادة ؛ فإنّ الشیئین بنحو الاستقلال لا یعقل أن یتعلّق بهما إرادة واحدة بنعت الوحدة ، کما أنّ الشیء الواحد لایمکن أن یتعلّق به إرادتان مستقلّتان ما لم یتطرّق رائحة الکثرة والتعدّد فی ناحیة المراد .
وعلیه نقول : إنّ فی الأفعال الصادرة بمباشرة العضلات مطلوبین مستقلّین ومرادین بنحو التعدّد ، لایختلط ذات أحدهما وإرادته بذات الآخر وإرادته :
أحدهما هو إیجاد المطلوب الذی هو مراد بالذات ، وثانیهما هو تحریک العضلات الذی هو مطلوب ومراد بالتبع ؛ لأجل التوصّل به إلی غیره ، لا مراد بالذات ؛ فإنّ الإرادة عند تمامیة مبادئها تتعلّق بالذات بنفس حصول المراد ، کرفع العطش أو شرب الماء ، ثمّ تحدث إرادة ثانیة لتحریک العضلات نحو الفعل الخارجی الذی هو المحصّل لغرضه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 330 هذا ، ولو أنکرنا الإرادة الثانیة لما یصدق علی الصادر منّا أنّه فعل اختیاری .
وما أفاده : من أنّ الإرادة لاتنفکّ عن المراد لاینطبق إلاّ علی الثانیة من الإرادتین مع تعلّقها بتحریکها فعلاً .
ولا تتوهّم من ذلک : أنّ هذا تخصیص فی القاعدة العقلیة ، بل وجه عدم الانفکاک هنا دون غیره هو أنّ بروز الإرادة فی النفس لتحریکها فعلاً إنّما یکشف عن عدم المزاحم فی تحریک العضلات بالفعل ، ولکن الإرادة المتعلّقة بالمراد بالذات هی تابعة لکیفیة تعلّقها بالمراد .
فإن تعلّقت بإیجادها فوراً فلا محالة تحصل هنا إرادة اُخری لتحریک العضلات فعلاً ، وإن تعلّقت بإیجاد أمر فی المستقبل لا تتعلّق الإرادة بتحریک العضلات فی الحال ، بل لو فرضنا بقاء الإرادة الاُولی إلی زمان العمل تتعلّق إرادة اُخری بتحریک العضلات ؛ لمکان توقّف الإیجاد علیه .
وما ربّما یتوهّم : من أنّ الإرادة الواحدة ـ أعنی إرادة الإیجاد ـ محرّکة لها أیضاً مردود ؛ فإنّ النفس تری توقّف الشرب علی تحریک العضلات ، فلا محالة ترید حرکتها مستقلاًّ لأجل التوصّل إلی مطلوبه .
فتلخّص : أنّ الإرادة المتعلّقة بتحریک العضلات غیر الإرادة المتعلّقة بإیجاد المطلوب وأنّه لا تلازم بین إرادة المطلوب وتحریک العضلات .
بحث وتفصیل : غایة ما یمکن أن یقال فی بیان کون الإرادة علّة تامّة لحرکة العضلات : هی أنّ القوی العاملة للنفس وآلاتها المنبثّة فیها لمّا کانت تحت سلطان النفس وقدرتها ، بل هی من مراتبها النازلة وشؤونها الذاتیة . وحینئذٍ لایمکن لها التعصّی عن إرادتها ، فإذا أراد قبضها انقبضت أو بسطها انبسطت ، من غیر تعصّ ولا تأبٍّ وهذا أمر وجدانی وبرهانی .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 331 هذا ، ولکنّه لا یثبت ما ادّعاه القائل ؛ لأنّ کون القوی تحت إرادة النفس وإطاعتها لایثبت سوی أنّ النفس إذا أرادت تحریکها فی الحال تحرّکت الأعضاء ، ونحن لاننکره ، وهو غیر القول بأنّ الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالی .
بل أقول بلحن صریح : إنّ ما اشتهر بین الأعاظم ـ ومنهم شیخنا العلاّمة قدس سره ـ أنّ الإرادة علّة تامّة للتحریک ، ولا یمکن تخلّفها عن المراد ، وأنّها العلّة التامّة أو الجزء الأخیر منها ممّا لم یقم علیه برهان ؛ وإن أخذه القوم أصلاً موضوعیاً ، ونسجوا علی منواله ما نسجوا . وکیف ، وقد عرفت قیام البرهان علی خلافه وقضاء الوجدان علی مقابله ؟ !
وإن کنت فی ریب فاستوضح من مکان آخر ، وهو أنّ إرادة الله تعالی قد تعلّقت أزلاً بإیجاد مالایزال من الحوادث علی الترتیب السببی والمسبّبی ، من غیر وصمة الحدوث وتطرّق التجدّد فی ذاته وإرادته تعالی ، کما برهن علیه فی محلّـه . ولا یمکن أن یقال فی حقّـه سبحانه : «کان له الشوق ، ثمّ صار إرادة ، وبلغ حدّ النصاب» .
وما قرع سمعک أنّ الإرادة فیه تعالی هو العلم بالنظام الأصلح یحتاج إلی التوضیح المقرّر فی محلّه ، ومجمله : أنّه إن اُرید به اتّحاد صفاته تعالی فهو حقّ ، وبهذا النظر کلّها یرجع إلی الوجود الصرف التامّ وفوق التمام ، وإن اُرید نفی صفة الإرادة فهو إلحاد فی أسمائه تعالی ، بل مستلزم لتصوّر ما هو أتمّ منه ، تعالی عن ذلک علوّاً کبیراً .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 332 أضف إلیه : أنّ وجدانک أصدق شاهد علی أنّ الإنسان یجد فی نفسه ثلاث حالات : تارة یشتاق الأمر الاستقبالی کمال الاشتیاق لکن لایریده ، ولایکون عازماً لإتیانه . واُخری یریده ویقصده من غیر اشتیاق ، بل مع کمال الکراهة . وثالثة یریده مع الاشتیاق والحبّ والمیل ؛ ولأجل ذلک یتصدّی لتهیئة المقدّمات فی الأخیرین ، دون الأوّل .
وبذلک یظهر : أنّ ما ادّعاه کلّیاً ؛ من أنّ الاشتیاق یتعلّق بالمقدّمة من قبل ذیها لیس بصحیح ؛ لما تقدّم أنّ الشوق إلی الفعل لیس من مبادئ الإرادة ، بل ربّما یریده لامع الشوق ، کما یرضی بقطع الید عند فساده مع الکراهة التامّة .
هذا حال الإرادة التکوینیة .
وأمّا الإرادة التشریعیة فإمکان تعلّقها بأمر استقبالی أوضح من أن یخفی .
وما ذکره من عدم تعلّق البعث نحو أمر استقبالی ؛ إذ لو فرض حصول مقدّماته لما أمکن انبعاثه نحوه بهذا البعث ، ففیه أنّ انبعاث العبد تابع لکیفیة البعث ؛ فلو بعثه إلی إیجاده فعلاً فلا محالة یقع الانبعاث کذلک بعد حصول مبادئ الامتثال فی نفسه .
وأمّا إذا بعثه فعلاً إلی أمر استقبالی ـ بمعنی طلب إیجاده فی ذلک الوقت ـ فلیس له الانبعاث إلاّ فی ذلک الوقت ، لابعده ولا قبله . وعدم انبعاثه حال البعث مع فرض حصول المقدّمات للانبعاث غیر مضرّ ؛ لأنّ المولی لم یبعثه إلی الإیجاد حال البعث حتّی یضرّ تخلّفه عن البعث ، بل فی وقت مضروب .
وأمّا الوجه فی تقدیم البعث علی وقت المبعوث إلیه فلأجل احتمال حدوث المانع فی وقته ، کما فی الأوامر الشخصیة . وأمّا الخطابات العامّة فقد عرفت أنّه الطریق الوحید فی القوانین الکلّیة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 333