نقد وتحصیل : فی المراد من وجود الطبیعی خارجاً
إذا أمعنت النظر فیما ذکرنا تعرف : أنّ تخییر المکلّف فی إیجاد الطبیعة فی ضمن أیّ فرد شاء تخییر عقلی لا شرعی ، کیف وقد عرفت أنّ انفهام الإیجاد من الأمر لیس لدلالة اللفظ علیه ، بل لانتقال العرف بعقله وفکره إلی أنّ الطبیعة لا تتحقّق إلاّ بالوجود ، من دون تنصیص من المولی علیه ، ومعه کیف یکون التخییر بین الإیجادات شرعیاً ؟
وبالجملة : أنّ ما تعلّق به الطلب هو نفس الطبیعة ، ولکن العقل یدرک أنّ تفویض الطبیعة إلیه لا یمکن إلاّ بالتمسّک بذیل الوجود ، ویری أنّ کلّ فرد منها وافٍ بغرضه ، فلا محالة یحکم بالتخییر بین الأفراد . وأمّا المولی فلیس الصادر منه سوی البعث إلی الطبیعة تعییناً ، لا تخییراً .
نعم ، یظهر عن بعض محقّقی العصر رحمه الله کون التخییر شرعیاً بین الحصص ، وحاصل ما أفاده بطوله : هو أنّه إذا تعلّق الأمر بعنوان علی نحو صرف الوجود فهل یسری إلی أفراده تبادلاً ، فتکون الأفراد بخصوصیاتها تحت الطلب ، أو لا ؟
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 495 وعلی الثانی فهل یسری إلی الحصص المقارنة للأفراد ـ کما فی الطبیعة الساریة ـ أولا ، بل الطلب یقف علی نفس الطبیعة ؟
قال : توضیح المراد یحتاج إلی مقدّمة ؛ وهی أنّ الطبیعی یتحصّص حسب أفراده ، وکلّ فرد منه مشتمل علی حصّة منه مغایرة للحصّة الاُخری باعتبار محدودیتها بالمشخّصات الفردیة ، ولا ینافی ذلک اتّحاد تلک الحصص بحسب الذات ، وهذا معنی قولهم : إنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة الآباء إلی الأولاد ، وإنّ مع کلّ فرد حصّة من الطبیعی غیر الآخر ، ویکون الآباء مع اختلافها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً .
ثمّ قال : التحقیق یقتضی وقوف الطلب علی نفس الطبیعة ، وأقام علیه دلیلین .
ثمّ قال : إنّ عدم سرایة الطلب إلی الحصص إنّما هو بالقیاس إلی الحیثیة التی بها تمتاز الحصص الفردیة بعضها عن البعض الآخر المشترک معه فی الحقیقة النوعیة .
وأمّا بالنسبة إلی الحیثیة الاُخری التی بها تشترک تلک الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشارکة لها فی الجنس القریب ؛ وهی الحیثیة التی بها قوام نوعیتها فلا بأس بدعوی السرایة إلیها ، بل لعلّه لا محیص عنها ؛ من جهة أنّ الحصص بالقیاس إلی تلک الحیثیة واشتمالها علی مقوّمها العالی لیست إلاّ عین الطبیعی . ونتیجة ذلک کون التخییر بین الحصص شرعیاً لا عقلیاً .
إن قلت : إنّ الطلب تعلّق بالعناوین والصور الذهنیة لا المعنونات الخارجیة ، فیستحیل سرایته إلی الحصص الفردیة ؛ حیث إنّها تباین الطبیعی ذهناً ؛ وإن کان کلّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 496 من الحصص والطبیعی ملحوظاً بنحو المرآتیة .
قلت : إنّ المدّعی هو تعلّق الطلب بالطبیعی بما هو مرآة للخارج ، ولا ریب فی أنّ وجود الطبیعی فی الخارج لا یمتاز عن وجود الحصص ، بل هو الجهة المشترکة الجامعة بین الحصص ، والمرئی بالطبیعی الملحوظ مرآة للخارج لیس إلاّ تلک الجهة الجامعة بین الحصص ، وهذا مرادنا من سرایة الطلب من الطبیعی إلی حصصه . بل التعبیر بها مسامحی ؛ إذ بالنظر الدقّی یکون الطلب المتعلّق بالطبیعی الملحوظ مرآة للخارج متوجّهاً إلی الجهة الجامعة بین الحصص ، فمتعلّق الطلب فی الحقیقة هی تلک الجهة الجامعة بعینها ، انتهی .
أقول : الظاهر أنّه أشار فی تحقیق الکلّی الطبیعی إلی ما اشتهر بین تلامذته قدس سره ؛ نقلاً عنه من أنّ الحصص بالنسبة إلی الأفراد کالآباء والأولاد ، والطبیعی هو أب الآباء ، وهو الجهة المشترکة بین الحصص ، ویکون الطبیعی مرآة لهذه الجهة المشترکة الخارجیة .
وزعم : أنّ المراد من قول بعض أهل المعقول : إنّ الطبیعی بالنسبـة إلی الأفراد کالآباء بالنسبة إلی الأولاد ، هو الحصص ، وأنّ هنا آباء ؛ هـی الحصص ، وأب الآباء ؛ وهو القدر المشترک بینها ، الذی یکون الطبیعی مرآة له ، غفلةً عـن أنّ ما ذکروا من أنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد نسبة الآباء إلی الأبناء إنّما هـو لأجل الفرار عن الأب الواحد الذی التزم به الرجل الهمدانی ، الذی صادفه الشیخ فی مدینـة همدان ، وهذا المحقّق جمع بین الالتزام بمقالة الرجل الهمدانی وبین
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 497 ماهـو المشهور فی ردّه ؛ غفلةً عن حقیقة الحال .
ولمّا کان ذلک منشأ للخلط والاشتباه فی مواضع کثیرة فلا بأس بالإشارة إلی ماهو المحقّق فی محلّه :
فنقول : إنّ الطبیعی من الشیء هو حدّ الشیء وذاتیة ومقوّمه ؛ بحیث یوضع بوضعه ویرتفع برفعه ، وهو حدّ الشیء بما هو حدّه ، لا معدوم ولا موجود ولا واحد ولا کثیر ، بل هو فی مرتبة فوق هذه الأوصاف والعوارض .
نعم ، قد یقع فی مرتبة دونها مجالیاً لهذه الأوصاف ، فیصیر موجوداً وکثیراً ، لکن کلّ ذلک فی مرتبة متأخّرة عن رتبة الطبیعی وذاته .
وبعبارة اُخری : إنّ مأخذ الطبیعی والماهیة المؤلّفة من الجنس والفصل هو الموجودات الخارجیة بما أنّها واقعة فی صراط التکامل ومدارج الکمال ، والموجود إذا وقع فی بعض المدارج یدرک منه مفهوم عامّ ، کالجسم یندرج تحته عدّة من الأشیاء المشترکة مع هذا الموجود فی هذا المفهوم ، ثمّ یدرک منه مفهوم آخر یمیّز ذلک الموجود عن بقیة الأشیاء ، وهذان المفهومان بما هما أمران مفصّلان حدّ تفصیلی لذلک الموجود ، ویعبّر عنهما بالجنس والفصل ، والمفهوم البسیط الإجمالی المنتزع من هذین یسمّی نوعاً .
ثمّ إذا أدرکه الکمال الآخر ودخل فی مرتبة اُخری وصار جسماً نامیاً یدرک له جنس وفصل آخر ، فکلّما زاد الشیء فی تکامله ومدارجه ینتزع فی کلّ مرتبة مفهوم من ذاته ، مغایر مع ما کان ینتزع قبل الوصول إلیها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 498 ثمّ إذا فرضنا موجوداً آخر مثل ذلک ؛ بحیث دخل فی المدارج التی دخل فیها الموجود السابق ینتزع منه فی کلّ مرتبة مثل ما ینتزع من الآخر ، وهکذا فی الثالث والرابع . فحینئذٍ فالمراد من الطبیعی هو المفاهیم المنتزعة عن الشیء باعتبار درجاته ومراتبه . وعلیه یتعدّد الطبیعی بتعدّد أفراده ؛ إذ ینال العقل من کلّ فرد مفهوماً مغایراً مع ما یناله من الآخر ، ولکن تغایراً بالعدد .
فإن قلت : یلزم علی هذا أن یکون الطبیعی نفس الصور المنتزعة القائمة بالذهن ، ومع التقیّد بالوجود الذهنی کیف یکون حدّاً للشیء الموجود فی الخارج ؟
قلت : التعبیر بالانتزاع وما أشبهه لأجل تقریب المطلب ، وإلاّ فهو بما أنّه أمر منتزع موجود فی وعاء الذهن من مراتب الوجود ، ولا یعقل أن یکون حدّاً للموجود ، بل الماهیة هی الشیء الذی یراه الإنسان تارة موجوداً فی الذهن ، واُخری موجوداً فی الخارج ، وثالثة غیر موجود فیهما ، ولکن العلم لا یتعلّق بالماهیة المجرّدة إلاّ بلحاظها فی الذهن وتجریدها عن سائر الخصوصیات ، ومع ذلک لا تکون ماهیة مجرّدة ، بل مختلطة بالوجود الذهنی .
وبذلک یظهر : أنّ الماهیة المحضة بلا شیء معه لا ینالها الإنسان ؛ إذ الطریق إلیها إنّما هو التصوّر والإدراک الذهنی ، وکلّما تصوّرتها فهو ینصبغ بالوجود ، وکلّما جرّدتها فقد أخلیتها .
وأمّـا جعلها حـدّاً للشیء فإنّما هـو لأجل الغفلة عـن الوجـود الذهنی وتحصّله فیه . فحینئذٍ إذا کان معنی الطبیعی هو المفهوم الذی ینتزعه الذهن من الشیء بحسب مواقفـه أو ما یراه النفس موجـوداً فی الخارج تارة وفی الذهن اُخـری ، فلا محالـة لـو فرض حصول مصداق ـ کزید مثلاً ـ لهـذا الطبیعی فی الخارج فقد وجد الطبیعی فیه بتمام شؤونه ، ولو فرض حصول مصداق ثانٍ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 499 ـ کخالد ـ فقد وجد فیه الطبیعی بتمام أجزائه أیضاً ، وهکذا لو فرض ثالث .
فهاهنا أفراد وإنسانات بحسب عدد الأفراد ویتکثّر بتکثّرها ؛ فزید إنسان تامّ ، وخالد إنسان تامّ آخر ، وهکذا الثالث ، لا أنّه حصّة من الإنسان أو جزء منه حتّی یصیر کلّ واحد من الأفراد ناقصاً فی الإنسانیة ، ویکون الإنسان التامّ شیئاً قائماً مع هذه الأفراد ، کما زعمه الرجل الهمدانی .
نعم ، إنسانیة زید غیر إنسانیة خالد فی الخارج ، وطبیعی الأوّل غیر طبیعی الثانی ؛ تغایراً بالعدد ، ولکن العقل إذا جرّد إنسانیة هذا وذاک عن العوارض المفردة ینال من الجمیع شیئاً واحداً بالنوع ؛ لارتفاع المیز ، وهذا لا ینافی تعدّده وتکثّره فی الخارج ، وسیجیء نصّ الشیخ الرئیس علی ما ذکرنا .
وإن شئت قلت : إنّ الطبیعی موجود فی الخارج لا بنعت الوحدة النوعیة ولا بوصف الجامعیة ، بل العموم والاشتراک لاحقٌ به فی موطن الذهن ، والجهة المشترکة لیس لها موطن إلاّ العقل ، والخارج موطن الکثرة ، والطبیعی موجود فی الخارج بوجودات متکثّرة ، وهو متکثّر حسب تکثّر الأفراد والوجودات ، لا بمعنی تحصّصه بحصص ؛ فإنّه لا محصّل له ، بل بمعنی أنّ کلّ فرد متّحد فی الخارج مع الطبیعی بتمام ذاته ؛ لأنّ ذاته غیر مرهونة بالوحدة والکثرة ، فهو مع الکثیر کثیر .
فزید إنسان لا حصّة منه ، وعمرو إنسان آخر لا حصّة اُخری منه وهکذا ، وإلاّ لزم کون زید بعض الإنسان وعمرو کذلک ، وهو ضروری الفساد .
ومنه یتّضح : أنّ الجهة المشترکة بنعت الاشتراک لیست موجودة فی الخارج ، وإلاّ لزم أن یکون موجوداً بنعت الوحدة ؛ لأنّ الوجود مساوق للوحدة ، فیلزم إمّا
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 500 وحدة جمیع الأفراد وجوداً وماهیة أو کون الواحد کثیراً ، وکون کلّ فرد موجوداً بوجودین : أحدهما بحیثیة الجهة المشترکة ، فیکون کلّ الأفراد واحداً فی الوجود الخارجی من هذه الحیثیة ، وثانیهما وجوده بالحیثیة الممتازة مع قُرنائه .
وهذا ـ أی کون الإنسان غیر موجود بنعت الوحدة والاشتراک ، بل بنعت الکثرة المحضة ـ مراد من قال : إنّ الطبیعی مع الأفراد کالآباء مع الأولاد ، لا الأب مع الأبناء ، وهذا خلاصة ما علیه الأکابر .
وأمّا الرجل الهمدانی فزعم : أنّ معنی وجود الطبیعی فی الأعیان هو أنّ ذاتاً واحدة بعینها مقارنة لکلّ واحد من المقارنات المختلفة ، موجودة بنعت الوحدة فی الخارج ، وأنّ ما به الاشتراک الذاتی بین الأفراد متحقّق خارجاً .
وکأنّه توهّم من قولهم : إنّ الأشخاص مشترک فی حقیقة واحدة ؛ وهی الطبیعی ، ومن قولهم : إنّ الکلّی الطبیعی موجود فی الخارج أنّ مقصود القوم هو موجودیة الجهة المشترکة بما هی کذلک فی الخارج ؛ قائلاً : هل بلغ من عقل الإنسان أن یظنّ أنّ هذا موضع خلاف بین الحکماء ؟
وما ذکره هذا الرجل هو معنی کون الطبیعی کأب واحد بالنسبة إلی الأبناء ؛ أی یکون الطبیعی بنعت الوحـدة والاشتراک موجـوداً فی الخارج ، وفی مقابله مقالـة المحقّقین من أنّ نسبـة الطبیعی إلی الأفـراد کالآباء إلی الأولاد ، وأنّ الطبیعـی موجـود فی الخارج بنعت الکثرة المحضة ، وأنّ الوحدة والاشتراک تعرضان علیه فی موطن الذهن ، والجهة المشترکة لا موطن لها إلاّ العقل ، وأنّ الخارج موطن الکثرة ، والطبیعی موجـود فی الخارج متکثّر بتکثّر الأفـراد ، لا بمعنی تحصّصه بحصص ، وأنّ الموجود مع کلّ فرد حصّة منه لا نفسه ؛ فإنّه لا یرجع إلی محصّل ، بل بمعنی أنّ کلّ فرد فی الخارج هو الطبیعی بتمام ذاته ؛ لأنّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 501 ذاته غیر مرهونة بالوحدة والکثرة ، فهو مع الکثیر کثیر ، ومع الواحد واحد .
فزید إنسان لا حصّة منه ، وعمرو إنسان آخر لا حصّة اُخری ، ففی الخارج اُناس کثیرة حسب کثرة الأفراد لا إنسان واحد معها ، وإلاّ لزم أن تکون الجهة المشترکة موجودة بنعت الوحدة ؛ لأنّ الوجود یساوق الوحدة ، فلزم وحدة جمیع الأفراد خارجاً ؛ وجوداً وماهیة بالوحدة الشخصیة العینیة .
وهذا المحقّق الاُصولی لمّا لم یصل إلی مغزی مرام المحقّقین جمع بین الآباء والأب ، فجعل للأفراد آباء وجدّاً ؛ وهو أب الآباء . ولهذا تراه صرّح ـ فی جواب إن قلت ـ بأنّ وجود الطبیعی فی الخارج هو الجهة المشترکة ، وأنّ المرئی بالطبیعی الملحوظ مرآة للخارج لیس إلاّ تلک الجهة الجامعة بین الحصص . وهذا بعینه قول الرجل الهمدانی الذی أفرد شیخ المشائیین رسالة لردّه وقد نقل بعض الأکابر نصّ الشیخ بأنّ الإنسانیة الموجودة کثیرة بالعدد ، ولیست ذاتاً واحدة ، وکذلک الحیوانیة ، لا أنّها کثیرة باعتبار إضافات مختلفة ، بل ذات الإنسانیة المقارنة لخواصّ زید هی غیر ذات الإنسانیة المقارنة لخواصّ عمرو ، فیهما إنسانیتان : إنسانیة قارنت خواصّ زید ، وإنسانیة قارنت خواصّ عمرو ، لا غیریة باعتبار المقارنة حتّی تکون حیوانیة واحدة تقارن المتقابلات من الفصول . وهذه العبارة ـ کما تری ـ نصّ علی خلاف ما زعمه ذلک المحقّق ، مع أنّ البرهان قائم علی خلافه .
ثمّ إنّه ربّما یؤیّد مذهب الرجل الهمدانی بوجهین ، وربّما یتمسّک بهما المحقّق المزبور ، وقدّمنا کلمة منه رحمه الله فی مبحث الوضع :
الأوّل : أنّه یمتنع انتزاع مفهوم واحد من الأفراد بلا جامع اشتراکی فی الخارج ؛ إذ الکثیر بما هو کثیر لا یمکن أن یقع منشأً لانتزاع الواحد ، فلابدّ من جهة جامعة خارجیة بنعت الوحدة حتّی یکون الطبیعی مرآة لها ومنتزعاً منها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 502 وفیه : أنّ وحدة الطبیعی لیست وحدة عددیة بل وحدة نوعیة ، وظرف عروضها إنّما هو الذهن ؛ إذ النفس بواسطة القوی النازلة ینال من کلّ فرد إنسانیة مغایرة لما یناله من الآخر ، ولکن إذا جرّدها عن الخصوصیات الفردیة ینعدم التعدّد قهراً بانعدام میزهما ، فیصیر مفهوماً واحداً . والمتوهّم تخیّل : أنّ الذهن ینال المفهوم الواحد من الخارج ، وصار بصدد تصحیح منشئه .
أضف إلیه : أنّ الطبیعی لیس من الانتزاعیات ، بل من الماهیات المتأصّلة الموجودة فی الخارج تبعاً للوجود تحقّقاً وتکثّراً ، وأنّ معنی موجودیتها موجودیتها ذاتاً تبعاً للوجود ، لا موجودیة منشأ انتزاعها ، وأنّ کثرة الوجود منشأ تکثّرها خارجاً ؛ لأنّها بذاتها لا کثیرة ولا واحدة .
فالکثرة تعرضها خارجاً بمعنی صیرورة ذاتها کثیرة بتبع الوجود خارجاً ، والوحدة تعرضها فی العقل عند تجریدها عن کافّة اللواحق . وما سبق منّا من التعبیر بلفظ الانتزاع فلأجل التسهیل .
والحاصل : أنّ الانتزاع هنا ـ علی فرض صحّته ـ لیس إلاّ عبارة عن إدراک النفس من کلّ فرد بعد تجریده عن الممیّزات ما تدرک من فرد آخر ، فإذا جرّدت النفس خصوصیات زید تدرک منه معنی الإنسان ـ أی طبیعیه ـ من غیر اتّصافه بنعت الوحدة المشترکة النوعیة ، وکذا إذا جرّدت خصوصیات عمرو تنال منه ما تنال من زید بلا تفاوت .
ثمّ إذا لاحظت أنّ ما أدرکته مکرّراً مشترک بین الأفراد تحکم بأنّه الجهة المشترکة . فالوحدة تعرضه فی العقل عند التحلیل والتجزئة . ولکن لا یغرّنک لفظ العروض بمعناه المعهود ، والتحقیق موکول إلی مظانّه .
الثانی : أنّا نری کثیراً فی الفواعل الطبیعیة من استناد الواحد إلی الکثیر ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 503 کتأثیر بندقتین فی قتل شخص ، وتأثیر النار والشمس فی حرارة الماء ، وتأثیر قوی أشخاص فی تحریک حجر عظیم ، وغیر ذلک من الأمثلة ، فإمّا أن یستند المعلول إلی کلّ واحد مستقلاًّ ، لزم صدور الواحد عن الکثیر ، أو إلی المجموع ؛ وهو لیس موجوداً عدا وجود الأفراد ، فلا مناص ـ حفظاً لانخرام قاعدة الواحد المبرهن علیها فی محلّها ـ من القول بوجود جامع فی الخارج بنعت الوحدة ، وهو الذی یؤثّر فی إیجاد هذه المعالیل .
والجواب : أنّ التمسّک بقاعدة الواحد فی هذا المقام غفلة عن مغزی القاعدة ؛ إذ قاعدة الواحد لو تمّت لکان مجراها ـ کما هو مقتضی برهانها ـ هو الواحد البحت البسیط الذی لیس فیه ترکیب ولا شائبته ، دون غیره ممّا فیه الترکیب والأثنینیة ، وما ذکر من الأمثلة خارج من مصبّ القاعدة .
علی أنّ فیها لیس أمر واحد حتّی نتطلّب علّته ؛ إذ الموت لیس إلاّ خروج الروح البخاری من البدن من المنافذ غیر الطبیعیة ، وکلّما قلّت البندقة قلّت المنافذ ، وکلّما کثرت کثرت المنافذ .
فحینئذٍ : طول المدّة فی نزع الروح الصوری وقلّتها یدور مدار إخراج الدم ، وهو لیس أمراً واحداً بسیطاً ، بل أمر یقبل التجزئة والتکثّر .
وقس علیه الحرارة ؛ فإنّ حاملها ذو أجزاء وأوضاع ، ولا مانع من انفعال بعضها من الشمس ، والبعض الآخر من النار ، ویکون کلّ واحد مؤثّراً فیه بعض الأثر . فلا إشکال فی تأثّر مثل هذا الواحد الطبیعی القابل للتجزئة والترکیب من
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 504 علّتین ؛ إذ أثر کلّ علّة غیر أثر الاُخری ، وتأثّر الماء من کلّ غیر تأثّره من آخر .
وهکذا الأمر فی اجتماع أشخاص علی رفع حجر ؛ فإنّ کلّ واحد یؤثّر فیه أثره الخاصّ ؛ حتّی یحدث فی الحجر بواسطة القواسر العدیدة ما یغلب علی ثقله الطبیعی أو علی جاذبة الأرض .
أضف إلی ذلک : أنّ قیاس العلل الطبیعی بالفواعل الإلهی من عجائب الأوهام ، والقول بتأثیر الجامع فی العلّة الإلهیة مثل الطبیعی أمر غیر معقول ، إذ المعلول الإلهی ربط محض بعلّته ، ویکون بتمام هویته متعلّقاً بها ، بل حقیقته عین الربط لا شیء له الربط ، ولا یمکن أن یکون له حیثیة غیر مربوطة بها ، وإلاّ لزم الاستغناء الذاتی ، وهو ینافی الإمکان .
وحینئذٍ : فما حاله وذاته ذلک لا یعقل فی حقّه أن یستند إلی علّته الخاصّة عند الانفراد وإلی الجامع عند الاجتماع ؛ إذ هویته التدلّی بعلّته ، فکیف یمکن أن یفسخ ذاته ویفوّضها إلی الجامع ؟ إن هذا إلاّ الانقلاب .
وبالجملة : فالعلّة البسیطة الإلهیة لا یمکن أن یجتمع علی معلولها علّتان حتّی نبحث فی کیفیته ، ولا یعقل تفویض الفاعل الإلهی أثره إلی غیره ، أو تعلّق المعلول بالذات إلی غیر علّته الخاصّة به ، فلا یعقل ربط المعلول البسیط تارة بهذه العلّة واُخری بتلک وثالثة بالجامع بینهما ؛ للزوم الانقلاب الذاتی فی البسیط .
وأظنّک إذا أمعنت النظر فیما ذکرنا ، وکنت أهلاً لهذه المطالب تقدر علی تشخیص الزیف من المقبول ، وهو غایة المأمول .
إذا عرفت ما ذکرنا فاعلم : أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ عدم السرایة إنّما هو إلی الحیثیة التی تمتاز بها الحصص الفردیة بعضها عن بعض ، وأمّا بالنسبة إلی الحیثیة الاُخری التی بها تشترک تلک الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر فلا بأس
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 505 بدعوی السرایة إلیها ، لا یخلو من إجمال ؛ لأنّ مراده من قوله تشترک تلک الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر . . . إلی آخره إن کان هو الفصول الممیّزة ففیه : أنّ ذلک عین الطبیعی ومقوّمها ، ومرجعه إلی أنّ الحکم علی الطبیعی یسری إلی الطبیعی ، وإن أراد ما یمتاز به حصص نوع عن حصص نوع آخر ففیه : أنّ الطبیعی لا یمکن أن یتحصّص بنفس ذاته ، بل التحصّص یحصل بتقییده بقیود عقلیة ، مثل «الإنسان الأبیض» و «الفرس الأسود» .
فحینئذٍ لا یمکن أن یکون الحصص نفس الطبیعی فی اللحاظ العقلی ، وأمّا الاتّحاد الخارجی فکما یکون بین الحصص والطبیعی یکون بین الأفراد والطبیعی ، ولکنّه لا یوجب سرایة الأمر فی کلا القسمین .
وبالجملة : أنّ الامتیاز بین حصص نوع مع حصص نوع آخر لیس بالفصل المقوّم فقط ، بل به وبالتقییدات الحاصلة من القیود اللاحقة المحصّلة للحصص ، والامتیاز بالفصل المقوّم فقط إنّما یکون بین نوع ونوع آخر ، لا حصصهما .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ الأمرالمتعلّق بالطبیعی لا یمکن أن یسری إلی الأفراد ، ولا إلی الحصص التی تخیّلت للطبیعی ، ولیعذرنی إخوانی من تطویل هذا البحث .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 506