مقالة المحقّق العراقی فی المقام
ثمّ إنّ بعض المحقّقین من المشایخ ـ بعد تسلیم إیجادیة بعض الحروف ـ أنکر کون الفرد الموجود به معناه الموضوع له ، واستدلّ علیه بوجوه :
أحدها : أنّ معنی اللفظ ومدلوله بالذات هو ما یحضر فی الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له ، ولاریب أنّ الموجود الخارجی لایمکن حضوره فی الذهن ، فالخارج هو المدلول علیه بالعرض ؛ من جهة فناء المدلول علیه بالذات فیه .
وفیه أوّلاً : أنّه منقوض بالأعلام الشخصیة علی مبنی المشهور ، وقد اعترف هو قدس سره ونحن بإمکانه ، وإن ناقشنا فی وقوعه .
وثانیاً : أنّ الغایة من وضع الألفاظ واستعمالها هی الإفادة والاستفادة بإحضار المعانی فی الذهن ، من غیر فرق بین أن یکون حضورها بالعرض أو بالذات ، والقائل بوضع بعض الألفاظ للموجود فی الخارج ینکر کون الموضوع له هو المعلوم بالذات ، بل یعترف بأنّه المعلوم بالعرض .
وثالثاً : أنّ الموضوع له فی أغلب الأوضاع أو جمیعها غیر ما یحضر فی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 37 الذهن بالذات . یرشدک إلیه أسماء الأجناس ؛ حیث إنّها وضعت للطبیعة الصرفة العاریة عن کلّ قید ـ حتّی قید کونها موجودة فی نشأتی الذهن والخارج ـ فإذا اُطلقت فلا ینتقل السامع إلاّ إلی هذا المعنی النفس الأمری ، لا إلی الموجود فی ذهنه ، ولا إلی ما فی ذهن متکلّمه .
وبالجملة : الصورة الذهنیة مرآة للمعنی المفهوم الذی هو الموضوع له ، ولازم ذلک هو کونها مغفولاً عنها . وقس علیه الأعلام ؛ إذ الانتقال إلی الخارج الموضوع له إنّما هو بالصورة الذهنیة ، لاغیر .
وثانیها : أنّ هذا الموجود الخارجی الذی هو بالحمل الشائع نداءً ـ مثلاً ـ لایتحقّق فی الخارج إلاّ بنفس الاستعمال ، فیکون متأخّراً عنه ؛ تأخّر المعلول عن علّته ، ولاریب فی أنّ المستعمل فیه مقدّم علی الاستعمال بالطبع ، فإذا کان هذا الموجود هو المستعمل فیه لزم تقدّم الشیء علی نفسه .
وفیه : أنّه لا دلیل علی تقدّم المستعمل فیه علی الاستعمال ؛ وإن کانت لفظة «فی» توهّم ذلک ؛ فإنّ ملاک التقدّم منتف فیه ـ حتّی فی الحاکیات ـ والتقدّم فی بعضها اتّفاقی لاطبعی بملاکه ، والقائل بإیجادیة بعض الألفاظ ینکر لزومه .
والحاصل : أنّ الألفاظ قد تکون حاکیات عن الواقع المقرّر ، وقد تکون موجدة لمعانیها فی الوعاء المناسب لها ، والکلّ یشترک فی کونها موجبة لإخطار معانیها فی الذهن ـ ولو بالعرض ـ ولا دلیل علی أزید من ذلک . ولزوم تقدّم المستعمل فیه غیر ثابت ، لو لم یثبت خلافه .
وثالثها : أنّ الأدوات الإیجادیة ـ کالنداء والتشبیه ـ قد تستعمل فی غیر ما یکون نداءً حقیقةً بداعی التشویق والسُخریة ، فلا یکون الموجود بهذا الاستعمال نداءً أو تشبیهاً بالحمل الشائع .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 38 فإمّا أن یکون الاستعمالات المزبورة فی تلک المعانی بنحو من المجاز فهو ممّا لا یقول به المفصّل ، وإمّا أن تکون استعمالاً فی معانیها الحقیقیة ولکن بداعی التشویق أو غیره فیلزم أن یکون معانیها غیر ما یوجد بها ؛ حتّی فیما استعمل بداعی إفادة ما هو الموضوع له .
وفیه : أنّ من المحقَّق عند العارف بأسالیب الکلام ومحاسن الجمل هو أنّ المجاز لیس إلاّ استعمال اللفظ فیما وضع له بدواع عقلائیة ؛ من التمسخر والمبالغة والتشویق ؛ حتّی فی مثل إطلاق الأسد علی الجبان ، ولفظ یوسف علی قبیح المنظر ، وإلاّ لصار الکلام خالیاً عن الحسن ومبتذلاً مطروحاً .
وعلیه : فالشاعر المُفلق فی قوله :
یا کوکباً ما کان أقصر عمره
وکذا تکون کواکب الأسحار
قد استعمل حرف النداء فی النداء بالحمل الشائع ، وأوجد فرداً منه ، لکن بداعٍ آخر من التضجّر وغیره ، ولکن إرادة الجدّ بخلافه . فما قال من عدم کونها مجازاً ممنوع بل مجاز ، ومطلق المجاز یستعمل لفظه فی معناه الحقیقی بداعی التجاوز إلی غیره ، وسیأتی زیادة تحقیق فی ذلک إن شاء الله .
ثمّ إنّه قدس سره قد اختار : أنّ الحروف کلّها إخطاریـة ، موضوعـة للأعراض النسبیة التی یعبّر عنها وعن غیرها من سائر الأعراض بالوجودات الرابطیة ، وأنّ مدالیل الهیئات هی الوجود الرابط ؛ أی ربط العرض بموضوعه ؛ إذ لفظة «فی» فی قولنا : «زید فی الدار» تـدلّ علی العرض الأینی العارض علی زید ، والهیئة تـدلّ علی ربطه بجوهره .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 39 وما قیل : من أنّ مدلول الحروف إذا کان عرضاً نسبیاً فهو بذاته مرتبط بموضوعه ، فلا حاجة إلی جعل الهیئة لذلک ، مدفوع بأنّ مدلول الهیئة یفصّل ما دلّ علیه الحروف مجملاً .
قلت : إنّ الصدر مخالف لما فی الذیل ؛ حیث أفاد فی صدر کلامه : أنّ مدالیل الحروف من قبیل الأعراض النسبیة ـ أی غیر الکمّ والکیف من الأعراض قاطبة ـ فهی وجودات رابطیة مستقلاّت فی المفهومیة ، وأنّ مدالیل الهیئات عبارة عن ربط الأعراض بموضوعاتها ـ أی وجودات رابطة متدلّیة الذوات ، غیر مستقلّة المفاهیم ـ ولکن ما فی الجواب یصرّح وینادی بتساویهما فی المفهوم والمعنی ، وأنّ الفرق بالإجمال والتفصیل فقط .
أضف إلی ذلک : أنّ ما رامه خلف من القول ، وانحراف عمّا أخذه أئمّة الأدب والاُصول خطّة مسلّمة ؛ من کون معانی الحروف غیر مستقلّة فی المفهومیة ، وأنّها لاتکون محکوماً علیها ولابها ، ولاتقع طرف الربط ، وقد أشرنا إلیه فی تحقیق المختار .
وما اختاره من کون معانیها هی الأعراض النسبیة والوجودات الرابطیة عین القول بالوجود المحمولی والاستقلال فی المفهوم .
ثمّ لیت شعری : أنّ الحـروف الإیجادیـة ـ کحروف النداء ـ وشبهها ـ کحروف القَسم ـ کیف تحکی عـن الأعراض النسبیة ، مع حکمـه کلّیاً بأنّ الحروف کلّها حاکیات عـن الأعراض النسبیة ؟ مع بداهـة أنّ القائل فی قوله :
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 40 «وامـن حفر بئر زمزماه» و«یا أیّها الرسول» لایحکی عن نداء خارجی أو ذهنی ، بل یوجد فرداً منه حین الاستعمال .
ثمّ إنّ هذا لایتمّ فیما کان المحمول وطرف الربط فی القضیة من مقولة الکمّ والکیف ، کما فی قولنا : «زید له البیاض» ، و«الجسم له طول وعرض» ، فهل اللام موضوع للعرض النسبی واستعمل هنا فی معنی مجازی ؛ وهو نفس الربط والإضافة بینهما ، مع أنّه خلاف الارتکاز ؟ والتحقیق : أنّ اللام یفید الإضافة بالمعنی التصوّری ، والهیئة تدلّ علی تحقّقها ، وسیأتی زیادة تحقیق لذلک .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 41