الاُولی : جریان أصل البراءة
لعلّک تتوهّم من هذا البیان أنّه یلزم علیه عدم إمکان التمسّک بالبراءة عند الشکّ فی جزئیة شیء للمأمور به ؛ إذ نسبة الأجزاء إلی الهیئة نسبة المحصِّل إلی المحصَّل ، والشکّ فی دخالة شیء فی المادّة یرجع إلی الشکّ فی محقّق الهیئة البسیطة المعلومة ؛ من حیث المفهوم .
ولکنّک إذا نظرت إلیه بعین الدقّة تری سقوط التوهّم المذکور ؛ إذ فرق بین القول بأنّ الصلاة ـ مثلاً ـ موضوعة للناهیة عن الفحشاء والمنکر أو ما یکون ملزوم ذلک ، وبین ما ذکرنا ؛ إذ الهیئة الخضوعیة والصلاتیة مشاهدة معلومة لأفراد المسلمین ومرتکزة لأهل القبلة ، لایشکّ فیها العاکف والبادئ ، والمسمّی محقّق ولو عند فقدان ما یشکّ فی وجوبه بل وعند فقدان بعض ما یعلم وجوبه أیضاً .
فحینئذٍ : الشکّ لایرجع إلی الشکّ فی تحقّق المسمّی بل إلی شرطیة شیء أو جزئیته للمأمور به ؛ زائداً علی ما یتحقّق به المسمّی .
وإن شئت قلت : إنّ المأمور به هو الهیئة الوحدانیة الحاصلة من تلک الموادّ ، من دون أن یتعلّق النظر إلی الکثرات والموادّ ، وهی متّحدة معها اتّحاد الصورة مع المادّة ولیس هنا من المحصِّل والمحصَّل عین ولا أثر .
فعند ذلک إذا تعلّق الأمر بتلک الهیئة التی اتّخذت لنفسها حقیقة وحدانیة یکون ذلک بعثاً إلی الأجزاء والموادّ التی تنحلّ الماهیة إلیها ؛ إذ الأمر بإیجاد صورة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 111 البیت أو بناء المسجد عند التحلیل أمر وبعث إلی تهیئة أجزائها بهیئة معلومة ، من دون تعلّق الأمر مستقلاًّ بتلک الموادّ ، ولا الأمر الضمنی والمقدّمی ـ علی القول بهما ـ فالأمر بالواحد أمر بالکثرات عند التحلیل .
فإذا شکّ فی نظر الانحلال إلی جزئیة شیء أو شرطیته للمأمور به یرجع ذلک إلی أصل تعلّق الأمر به فی لحاظ الکثرة ، بعد العلم بتعلّقه بسائرها .
وإن أبیت إلاّ عن القول بکون الموادّ من المحصّلات للهیئات ، فیجاب بإمکان إجراء البراءة فی نفس الهیئة البسیطة الموجودة فی الخارج بوجود أجزائه القابلة للزیادة والنقیصة ، کما فی مثل الخطّ إذا شکّ فی کون الواجب منه مطلق وجوده الذی یصدق علی الطویل والقصیر ، والقلیل والکثیر ، أو مقداراً خاصّاً منه ، فتجری البراءة بالنسبة إلی الخصوصیة المشکوکة .
والحاصل : أنّ الشیء المشکوک فیه بما له دخل فی زیادة الهیئة ـ کمّیة وکیفیة ـ یکون مرجع الشکّ فیه إلی الشکّ فی خصوصیة زائدة علی أصل المسمّی لما هو المفروض من صدقه بدونه .
وأمّا علی ما ذکره المحقّق الخراسانی فی مقام تصویر الجامع : فالظاهر عدم إمکان إجراء البراءة ـ وإن قلنا باتّحاد الأمر الانتزاعی مع الأجزاء خارجاً ـ بل لافرق بین اختیار کون المأمور به هو عنوان معراج المؤمن والقول بأنّه الأمر البسیط الذی یکون مبدأ لهذا الأثر ، وسواء قیل بتقیید المأمور به ، به أم لا .
توضیـح ذلک : أنّ حـدیث الانحلال إلی معلـوم ومشکوک إنّمایصـحّ فـی صورتین :
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 112 الأوّل : أن لم یتعلّق الأمر بعنوان معلوم وإن کانت معلومیّته مستندة إلی أنّه مبدأ لأثر خاص .
الثانی : أن تعلّق الأمر بعنوان معلوم لکن کان العنوان مشیراً لاقیداً ، وأمّافی غیر هاتین الصورتین لایصّح الانحلال لتعلّق الأمربشیء بسیط معلوم بوجه ، فلابدّ من تحصیل الیقین بالفراغ منه . والشکّ فی جزء منه یکون راجعاً إلی الشکّ فی تحقّق ذلک المعلوم وجوبه ، فلابدّ من الإتیان به ؛ لاحتمال أن لایکون المأتی بدونه عین ما قامت علیه الحجّة وتعلّق به العلم تفصیلاً .
والعجب ممّا صدر عن بعض القائلین بالصحیح من جریان الأصل هنا علی مبناه أیضاً ، وأنکر بذلک جعل القول بجریان البراءة والاشتغال ثمرة لهذا النزاع .
وملخّص ما أفاده : أنّ المأمور به إذا کان بسیطاً ذا مراتب یتحقّق بعض مراتبه بتحقّق بعض الاُمور المحصّلة له ؛ فإن شکّ فی دخالة شیء آخر فی تحقّق مرتبته العلیا لکان مورداً للبراءة .
توضیح خلله : أنّک قد عرفت أنّ أحسن ما یمکن أن یوجّه به مقالة القائل بالصحیح أن یقال : إنّ الألفاظ وضعت لماهیة إذا وجدت فی الخارج انطبق علیها عنوان الصحیح بالحمل الشائع . فحینئذٍ لابدّ أن یکون الموضوع له عنواناً یلازم الصحّة خارجاً ، وعند ذلک إذا وقع العنوان الملازم للصحّة مورداً للأمر یکون الشکّ فی جزئیة شیء له أو شرطیته راجعاً إلی الشکّ فی تحقّق ذلک العنوان الملازم للصحّة ، ویکون المرجع هو الاشتغال ، بعد معلومیة المأمور به .
ولا یتفاوت فی ذلک کون العنوان البسیط قابلاً للنقص والکمال ، أو الزیادة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 113 والنقصان وعدمه ؛ لأنّ الشکّ فی جمیع الحالات راجع إلی تحقّق المتعلّق المعلوم کونه ملازماً للصحّة خارجاً ، ومع ذلک لایمکن إحراز حال الفرد .
وما ذکره : من أنّ الشکّ إنّما هو فی دخل شیء فی مرتبته العلیا مع تحقّق المسمّی المأمور بـه بدونه ، عدول عن المبنی ؛ لأنّ الشکّ إنّما هو فی دخالة شیء فی تحقّق أصل العنوان المأمور به ، لافیما إذا علم به وشکّ فیما یوجب الزیادة والفضیلة فیه .
والحاصل : أنّ مراده من العلم بتحقّق بعض المراتب : إن کان ما یلازم الصحّة فی الخارج فلا معنی للشکّ فی دخالة شیء فیه بعد ذلک ؛ للعلم بأنّه غیر واجب . وإن کان الغرض تحقّق بعض مراتبه مع الشکّ فی صحّته فهذا عین القول بالأعمّ .
نعم ، لو فسّرنا مقالة الصحیحی بأنّها موضوعة بإزاء الماهیة الجامعة للشرائط والأجزاء ، وأنّ إطلاقها علی غیرها مجاز ، أو فسّرناها بالصحّة الشأنیة کان لجریان البراءة وجه ، إلاّ أنّ الأوّل بعید مع کثرة الاستعمالات فی الأخبار فی غیرها مضافاً إلی أنّ التبادر یدفعه والثانی عین القول بالأعمّ .
والحاصل : أنّ القائل بالصحیح لو جعل الجامع عنواناً بسیطاً معلوماً بأحد العناوین والإشارات لما کان له مناص عن القول بالاشتغال .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 114