الفصل الثامن إذا نسخ الوجوب هل یبقی الجواز أم لا ؟
والکلام یقع فی مواضع :
الأوّل : فی إمکان بقائه ، وقد یدّعی إمکانه عقلاً ؛ بدعوی أنّ الوجوب وإن کان بسیطاً إلاّ أنّه یتضمّن مراتب عدیدة ؛ وهی أصل الجواز والرجحان والإلزام ، فیمکن أن یرتفع بعض المراتب ویبقی الآخر .
وبما أنّ الوجوب حقیقة ذات تشکیک فلا حاجة فی إثبات مرتبة بعد ارتفاع الاُخری إلی دلیل علی ضمّ الفصل ؛ فإنّه بعد ذهاب مرتبة منه یتّحد قهراً مع الاُخری ، نظیر الحمرة الشدیدة التی تزول منها مرتبة فتبقی مرتبة اُخری ، انتهی .
وفیه أمّا أوّلاً : فلأنّ الوجوب إنّما ینتزع عند العقلاء من البعث الناشئ من الإرادة الحتمیة ، وهو بما أنّه أمر انتزاعی لا معنی لبقاء جوازه بعد ارتفاع نفس الوجوب ، وکون الشیء ذا مراتب ومقولاً بالتشکیک إنّما هو فی الحقائق الخارجیة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 507 لا فی الاُمور الانتزاعیة التی یقرب من الاُمور الاعتباریة ؛ وإن کان بینهما فرق محرّر فی محلّه .
وما یتوهّم : من أنّ البعث یصدق علی الإلزامی والاستحبابی ؛ صدقاً تشکیکیاً ؛ بمعنی أنّ التفاوت بنفس البعث ، کما أنّ الاشتراک فیه ، مدفوع بأنّ التفاوت لیس بنفس البعث ، بل فی منشئه الذی هو الإرادة المظهرة .
وثانیاً : سلّمنا کونـه بسیطاً وذا مراتب ، لکـن لا یلزم منه إمکان ذهاب مرتبـة وبقاء اُخری ؛ لأنّ کون الشیء ذا مراتب لیس معناه کون الوجود الشخصی بوحدته الشخصیة ذا مراتب عدیدة . ألا تری أنّ الوجود ـ کما هو عند أهله ـ حقیقـة ذات تشکیک ، ولیس لازمه أنّ وجود الواجب أیضاً ذو مراتب ، وهکذا وجود العقل .
بل معناه أنّ نفس الحقیقة إذا صدقت بعرضها العریض علی أفراد مختلفة ومراتب متفاوتة بالکمال والنقص ـ ولکن الجمیع یشترک مع اختلافها بالشدّة والضعف فی تحقّق الحقیقة فی کلّ واحد من المراتب ـ عدّ ذلک الحقیقة من الحقائق المشکّکة . وأمّا کون خصوص مرتبة منها ذا مراتب بالفعل فأمر غیر معقول .
فنقول بمثله فی الوجوب ؛ فإنّ معنی کونه ذا مراتب هو أنّ مرتبة منه ینتزع منه الوجوب ومن مرتبة اُخری الوجوب الأکید ، ومن مرتبة ثالثة وجوب آکد منهما ، ومفهوم الوجوب یصدق علیها صدقاً مشکّکاً ، وأمّا کون مرتبة خاصّة منه ذا مراتب بالفعل ممّا لا یقول به من له أدنی إلمام بالاصطلاح .
نعم ، ینتزع من الوجوب الجواز والرجحان بالمعنی الأعمّ ، ولکن لا بمعنی وجودهما فی ضمنه ؛ وجود الجزء من المرکّب فی ضمن الکلّ ، بل بمعنی أنّ طبیعی الجواز والرجحان موجود بعین وجود الوجوب . فالوجوب بهذا المعنی عین وجود
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 508 الجواز والرجحان ، فهما باقیان ببقائه ذاهبان بذهابه ؛ قضاءً للعینیة .
ثمّ إنّ تطرّق الشدّة والضعف إلی الإرادة فإنّما هو فی الإرادة الحیوانیة والإنسانیة ؛ لکون التطرّق المذکور من شؤون المادّة ، وهما فی أفعالهما مادّیان ، ولکن لا یمکن ذلک فی المبادئ العالیة . فظهر أنّ الحقّ المتّبع هو عدم إمکان بقاء الجواز والرجحان .
الموضع الثانی : فی مقتضی الأدلّة بعد فرض إمکانه ، وفی دلالة الناسخ أو المنسوخ علیه وعدمها .
ربّما یقال : إنّ القدر المتیقّن من دلیل الناسخ إنّما هو رفع خصوص جهة الإلزام ، وفیما عداها یؤخـذ بدلیل المنسوخ ویحکم بمقتضاه باستحباب الفعل ، نظیر ما إذا ورد دلیل علی وجوب شیء ودلیل آخر علی عدم وجوبه ، فکما أنّه یجمع بینهما ویؤخذ بظهور دلیل الوجوب فی مطلق الرجحان فلیکن المقام کذلک ، انتهی .
ولکن التحقیق خلاف ما اُفید ؛ لما مرّ من أنّ الأمر لیس ظاهراً إلاّ فی نفس البعث ، وأمّا الإلزام فإنّما یفهم من دلیل آخر ؛ وهو حکم العقلاء علی أنّ بعث المولی لا یترک بغیر جواب . وقد مرّ أیضاً أنّ الأمر عندهم تمام الموضوع لوجوب الطاعة ، إلاّ أن یقوم دلیل علی الترخیص .
فحینئذٍ فلیس للأمر إلاّ ظهور واحد ، فمع قیام الدلیل علی النسخ لا یبقی له ظهور ، بل هذا هو الحال لو فرض ظهور فی الإلزام وضعاً ؛ إذ لیس له علی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 509 کلا التقدیرین إلاّ ظهور فارد لا ظهورات حتّی یبقی بعضها مع سقوط البعض ، کما هو واضح .
فإن قلت : إنّ الطلب الإلزامی کما یکشف عن الإرادة الإلزامیة یکشف عن الرجحان الفعلی وعن أصل الجواز ، فإذا سقطت کاشفیته بالنسبة إلی الإلزام بقیت بالنسبة إلی غیره .
قلت أوّلاً : أنّ الطلب لا یکشف إلاّ عن الإرادة الحتمیة ، لکن العقل یحکم بأنّ الرجحان والجواز بمعناهما الأعمّ موجودان بوجوده ، ومع سقوط کشفه عن الإرادة الحتمیة لا یبقی منکشف ولا کاشف .
وثانیاً : لو فرضنا کون المنکشف متعدّداً لکنه طولی لا عرضی ؛ لأنّ الطلب الإلزامی یکشف عن الإرادة الحتمیة ، وهی تکشف عن الرجحان ، وهو عن الجواز ، ومع الطولیة لا یمکن بقاء الکاشفیة . بل لو فرض العرضیة لا یمکن ذلک أیضاً ؛ لأنّه مع سقوط الکاشف لا مجال للکشف . نعم لو کان فی المقام کواشف فبسقوط أحدها لا یسقط الآخر ، وقد عرفت بطلانه .
وأمّا قیاس المقام بالجمع بین الأمر الظاهر فی الوجوب والنصّ المرخّص فی ترکه بحمل الأمر علی الاستحباب ـ کما عرفته من القائل ـ فمن غرائب الکلام ؛ لأنّ قوله «لا بأس بترکه» بعد قوله «أکرم زیداً» قرینة علی أنّ الأمر استعمل من أوّل الأمر فی الاستحباب ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ المفاد والمستعمل فیه معلوم قطعاً ، والشکّ فی مقدار رافعیة دلیل الناسخ ، فلا موضوع للجمع حتّی نبتغیه .
وإن شئت قلت : إنّ الجمع بین الأمر الظاهر فی الوجوب والنصّ المرخّص فی ترکه بحمل الأمر علی الاستحباب لیس أخذاً ببعض مراتب الظهور وترکاً ببعض مراتبه ، بل هو تحکیم النصّ علی الظاهر ، وحمله علی خلاف ظاهره .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 510 هذا لو فرضنا ظهور الأمر فی الوجوب ، وإلاّ فالکلام فیه غیر ذلک .
وأمّا ما نحن فیه : فبعد العلم بأنّ الأمر للوجوب والعلم برفع الوجوب فلا مجال للقول ببقاء الاستحباب ، إلاّ إذا فرض مراتب للظهور ، وهو بمکان من الفساد ، فالقیاس مع الفارق والمقیس علیه لیس کما توهّم .
الموضع الثالث : لو فرض الشکّ فی بقاء الجواز فهل یمکن إثباته بالاستصحاب أو لا ؟
الحقّ عدم جریانه ـ وإن قلنا بجریانه فی القسم الثالث من استصحاب الکلّی ـ لأنّ الرکن فی جریانه هو کون المستصحب موضوعاً ذا حکم شرعی أو حکماً شرعیاً کالوجوب والاستحباب ، والأوّل مفقود ، کما أنّ الثانی مثله ؛ لأنّ المجعول والحکم الشرعی هو الوجوب ، وقد علم ارتفاعه ، والجواز الجامع لیس مجعولاً بل منتزع من المجعول .
وبذلک یظهر النظر فیما یقال : من أنّ طبیعی الجواز کان موجوداً بوجود الوجوب ، ومع رفعه نشکّ فی بقاء أصل الجواز فی ضمن مصداق آخر فیستصحب ، انتهی ؛ إذ الجواز الجامع بین الوجوب والاستحباب لیس مجعولاً وحکماً شرعیاً ، بل العقل ینتزع من الجعل الإلزامی الجواز بالمعنی الأعمّ ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 511
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 512