تقریبان آخران لتصحیح الترتب وتزییفهما
ثمّ إنّ هنا تقریباً آخر ذکره بعض أجلّة المحشّین من المحقّقین رحمه الله ، وهو أنّ اقتضاء کلّ أمر لإطاعة نفسه فی مرتبة متقدّمة علی طاعته ، والإطاعة مرتبة أثره ، وکلّ علّة منعزلة عن التأثیر فی مرتبة أثره ، وإنّما اقتضاؤه فی مرتبة ذاته ، ولمّا کان العصیان نقیض الطاعة فیجب أن یکون فی رتبتها ، فیلزم تأخّره عن الأمر .
فإذا اُنیط أمر بعصیان أمر آخر لا یعقل المزاحمة بینهما ؛ إذ فی رتبة تأثیر أمر الأهمّ لا وجود لأمر المهمّ ، وفی رتبة الأمر بالمهمّ لا یکون اقتضاء للأمر بالأهمّ ، فلا یقتضی مثل هذین الأمرین إلقاء المکلّف فیما لا یطاق ، انتهی .
وفیه : أنّه إن أراد من قوله لا وجود للمهمّ عند الأمر بالأهمّ أنّ بینهما اختلافاً فی الرتبة فقد عرفت أنّ الاختلاف فی الرتبة بعد فعلیة الأمرین فی آنٍ واحد لا یجدی فی رفع طلب الجمع والأمر بالضدّین ، وإن أراد أنّه لا وجود له قبل عصیان الأهمّ وإطاعته ، وهو وإن کان یرفع غائلة الجمع إلاّ أنّه یهدم أساس الترتّب ؛ إذ العنایة کلّها فی المقام إلی تصویر أمر المهمّ قبل سقوط أمر الأهمّ بالعصیان الخارجی .
وبالجملة : ما هو مجدٍ فی رفع التضادّ ـ أعنی الإناطة بالعصیان ـ لا ینفع فی المقام ؛ لسقوط فعلیة الأمر بالأهمّ لأجله ، وعدم فعلیة الأمر بالمهمّ إلاّ بعد سقوط أمر الأهمّ بالعصیان . والترتّب العقلی غیر مجدٍ فی رفع التضادّ .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 478 أضف إلی ذلک : أنّ عصیان الأمر لا یتأخّر عقلاً عن الأمر تأخّراً رتبیاً ، و إن کان یتأخّر زماناً علی تسامح ، فتذکّر .
وهناک تقریب ثان لبعض محقّقی العصر رحمه الله ، وملخّصه : أنّه لا إشکال فی حکم العقل بالتخییر فی صورة تساوی الفعلین فی المصلحة ، ولیس مرجع التخییر إلی اشتراط وجوب کلّ واحد بعصیان الآخر ؛ إذ لازمه تأخّر کلّ واحد من الأمرین عن الآخر ، ولا إلی اشتراط کلّ أمر بعدم وجود غیره ؛ إذ لازمه أن لا یقتضی کلّ أمر إیجاد مقتضاه حال وجود الآخر ، بل مرجعه إلی أنّ الطلب فی ظرف المزاحمة یقتضی سدّ جمیع أبواب العدم إلاّ العدم الطارئ من إتیان ضدّه .
فحینئذٍ لنا أن نقول : إذا صحّ الطلب بالنحو المزبور إذ لم یکن بینهما مطاردة لنقص فیهما کذلک لم یکن بینهما مطاردة لو فرض نقص الطلب من طرف واحد ؛ ولو لم یشترط الناقص بعصیان التامّ .
وبالجملة : فالأمر بالأهمّ یقتضی سدّ باب الأعدام من جمیع الجهات ، والأمر بالمهمّ یقتضی سدّها إلاّ من قبل إتیان ضدّه ، وعلیه فکیف یقتضی الطلب التامّ طرد هذا المقتضی ؟ ! إذ نتیجة طرده منع انسداد تلک الجهة ، وفی هذا الظرف لا اقتضاء للطلب الناقص ، فأین المطاردة من طرف واحد ؛ فضلاً عن الطرفین ؟ انتهی .
قلت : یرد علیه ما أوردناه علی التقریب الـذی أوضحه بعض أعاظـم العصر ؛ لأنّـه عینه ؛ سیّما إذا لاحظت المقدّمـة الرابعـة مـن انحفاظ کلّ خطاب بالنسبـة إلی ما یتصوّر له مـن التقادیر ، ولکنّه یفترق عنه بأنّـه إجمال مخـلّ ، کما أنّ الأوّل تفصیل مملّ .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 479 وکیف کان نقول : إنّه قبل تحقّق إطاعة الطلب التامّ وعصیانه لا شبهة فی أنّ له اقتضاء وبعثاً نحو متعلّقه ، فهل الطلب الناقص أیضاً اُخذ علی نحو یبعث نحو متعلّقه بالفعل أو لا ؟
فعلی الأوّل یلزم طلب الجمع بین الضدّین ، وقد أسلفنا فی تزییف الوجه الأوّل أنّ أخذ العصیان الانتزاعی وإن کان یوجب مشروطیة أمر المهمّ إلاّ أنّه لا یخرجه من البعث القطعی نحو متعلّقه بعد حصول شرطه ، لا أنّ المشروط ینقلب مطلقاً ، بل إنّه مع کونه مشروطاً باعث بتّاً نحو متعلّقه بلا حالة انتظاریة ، ویصیر حال العصیان کسائر العناوین من طلوع الشمس وغروبها .
وعلی الثانی یخرج من محطّ البحث ، ویکون باعثیة المهمّ بعد سقوط أمر الأهمّ ، ولا باعثیة له قبل تحقّق إطاعة الأهمّ وعصیانه ، والحمد لله .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 480