کلام المحقّق العراقی لدفع الإشکال فی الشرط المتأخّر
وبعض أهل التحقیق من الطائفة الاُولی قد صار بصدد تصحیحه بما حاصله إمکان تقدّم الشرط علی المشروط فی التکوین والتشریع ؛ لأنّ المقتضی للمعلول هو حصّة خاصّة من المقتضی لا طبیعیه ؛ لأنّ النار الخاصّة ـ وهی التی تماسّ الجسم المستعدّ بالیبوسة للاحتراق ـ تفعل الاحتراق ، لا الحصص الاُخری .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 297 فتلک الخصوصیة التی بها تحصّصت الحصّة لابدّ لها من محصّل فی الخارج ، وما به تحصل خصوصیة الحصّة المقتضیة یسمّی شرطاً ، والخصوصیة المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلک الحصّة حاصلة من إضافتها إلی شیءٍ ما ، فذلک الشیء المضاف إلیه هو الشرط ، والمؤثّر فی المعلول هو نفس الحصّـة الخاصّـة ، فالشرط هو طرف الإضافة المزبورة ، وما کان شأنه کذلک جاز أن یتقدّم علی ما یضاف إلیه أو یتأخّر عنه أو یقترن به .
وقس علیه الشرائط الشرعیة ؛ فإنّ شرطیة شیء للمأمور به ترجع إلی کون حصّة من الطبیعی متعلّقة للأمر ، وهی تحصل بالتقیید ، وکما یمکن التقیید بأمر مقارن یمکن بالمتقدّم والمتأخّر .
وکذا الحال فی شرط التکلیف والوضع ؛ فإنّ قیود الوجوب دخیلة فی اتّصاف الشیء بکونه صلاحاً . ومعنی شرطیتها فی حال التأخّر لیس إلاّ کونها بحیث تحصل للشیء بالإضافة إلیها خصوصیة بها یکون ذا مصلحة ، وهذا کما قد یحصل بإضافة الشیء إلی المقارن یحصل بإضافته إلی المتقدّم والمتأخّر سواء ، انتهی .
وفیه أنظار ، قد سبق التنبیه إلی بعضها ، ونعیده توضیحاً :
أمّا أوّلاً : فلأنّ إسراء الأمر إلی التکوین ممّا لا مجال له ؛ لأنّ المقتضی التکوینی نحو وجود خاصّ متشخّص ، لایکون تشخّصه بالإضافات والاعتبارات . فما هو المقتضی لیس الحصّة الحاصلة بالإضافة إلی المقارن ولا إلی غیره ، بل المقتضی نحو وجود متشخّص من ناحیة علله الفاعلیة ، أو هو مع ضمّ القابل إذا کانا مادّیین ، فالنار بوجودها مقتضیة لإحراق ما وقع فیها ممّا هو قابل للاحتراق ، من
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 298 غیر أن یکون الوقوع والتماسّ وقابلیة المتأثّر محصّلات للحصّة المؤثّرة ، وهو أوضح من أن یحتاج إلی البیان .
والحاصل : أنّ المقتضی فی التکوین نحو وجود یکون تشخّصه بمبادئ حقیقیة تکوینیة ، لا بإضافات واعتبارات تخیّلیة ، کما فی المقام .
وأمّا ثانیاً : فلأنّ الإضافة التی هی من إحدی المقولات هی النسبة الحاصلة للشیء بانتسابه إلی غیره .
وإن شئت قلت : إنّ الحقیقی من المضاف هی النسبة المتکرّرة بین الموصوفین أو المضافین ؛ مضافاً مشهوریاً ، ومعنی تکرّرها أنّها ماهیة معقولة بالقیاس إلی ماهیة اُخری معقولة بالقیاس إلی الاُولی ، کما تجد صدق المقال فی الاُبوّة والبنوّة المتکرّر کلّ واحد بین الموصوفین ، ومن خواصّها کون المتضائفین متکافئین قوّة وفعلاً .
فحینئذٍ فلو کانت تلک الخصوصیة حاصلة من إضافتها إلی الشیئین فلا معنی لحصول أحد الطرفین ـ أعنی الواجب ـ دون الطرف الآخر ـ أعنی الشرط ـ إذ الإضافة الفعلیة تستلزم تحقّق الطرفین بالفعل ؛ فإنّ الاُبوّة والبنوّة الفعلیتین یستلزم وجود الأب والابن فعلاً حتّی تتحصّل بین الطرفین .
وفی المقام نقول : إنّ الحصّة من طبیعی المقتضی المتّصف بکونه مضافاً فعلاً ، وإضافیته حیثیة زائدة علی ذاته کیف ینتزع منه هذا العنوان ، مع عدم شیء یصلح أن یکون مضافاً إلیه بالفعل ؟
فإن قلت : ما ذکرت من التحقیق أمر مسلّم لاغبار علیه ، لکن إسرائه إلی المقام خلط بین الحقائق والاعتباریات ، وقد قرع أسماعنا مراراً : أنّ العلوم الاعتباریة لا تتحمّل أحکام التکوین ، کما مرّ أنّ التمییز بین أحکام المقامین هو
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 299 الحجر الأساسی لحلّ معضلات العلوم ؛ لا سیّما الاعتباریات .
قلت : نعم ، لکن الإضافة إلی المعدوم ممّا لا یعقل ـ حتّی الاعتباری منها ـ لأنّ الإضافة الاعتباریة نحو إشارة ، ولا تمکن الإشارة بالنسبة إلی المعدوم . فما یتخیّل أنّه إضافة إلی المعدوم لایخرج عن حدّ الذهن والتخییل ، فهی ـ حینئذٍ ـ تخیّل الإضافة لانفسها .
وبالجملة : أنّ الإضافة بین الشیئین ـ ولو بنحو الاعتبار ـ نحو إثبات شیئیة لهما ، وهو إن لم یکشف عن الثبوت فی ظرفه لا یکون إلاّ توهّماً وتخیّلاً ، ومع کشفه عنه یکون ثبوته له فرع ثبوت المثبت له .
فإذا تحقّقت الإضافة بین الموجود والمعدوم یکون المعدوم مضافاً أو مضافاً إلیه فی ظرف تحقّق الإضافة ، فلابدّ من صدق قولنا : المعدوم مضاف ومضاف إلیه فی حال عدمه ؛ لتحقّق الإضافة فی حاله ، فلابدّ من تحقّق المعدوم فی حال عدمه ؛ قضاءً لحقّ القضیة الموجبة ، ولقاعدة الفرعیة .
وإن شئت قلت : إنّ القضایا المبحوث عنها فی الفنّ ـ سوی السالبة المحصّلة ـ یجب فیها تحقّق الموضوع فی مقام الصدق ، فلو فرض کون الصوم مضافاً بالفعل لزم صدق کون الأغسال مضافاً إلیه بالفعل ، وإلاّ تنتقض القاعدة المسلّمة من وجوب وجود الموضوع فی الموجبات .
فإن قلت : إنّ العلّیة والمعلولیة من الاُمور المتضائفة ، مع أنّ العلّة مقدّم علی المعلول ـ تقدّماً رتبیاً وعقلیاً ـ فیکون صدق العلّیة علیها قبل صدق المعلولیة علیه ، فانتقض القاعدة المبرمة : «المتضائفان متکافئان قوّة وفعلاً» . وقس علیهما أجزاء الزمان ؛ فإنّ لأجزائه تقدّماً علی بعض فی الوجود ؛ لکونه متصرّم الذات ، فیصدق کون الیوم متقدّماً علی الغد مع معدومیة الغد .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 300 قلت : إنّ العلّة لاتکون متقدّمة علی المعلول بالمعنی الإضافی ، بل هما فی إضافة العلّیة والمعلولیة متکافئان ، لایتقدّم أحدهما علی الآخر ؛ حتّی فی الرتبة العقلیة . نعم ذات العلّة لا بوصفها متقدّم علی المعلول تقدّماً عقلیاً ، وکذا الزمان لایکون بین أجزائه الوهمیة تقدّم وتأخّر بالمعنی الإضافی ، بل ذات الجزء متقدّم علی الآخر علی نحو لاینافی القاعدة الفرعیة ، ولا یوجب ثبوت المعدوم واتّصافه بشیء وجودی ، بل سیجیء علی نحو الإجمال أنّ تقدّم بعض أجزائه علی آخر بالذات ؛ لکون ذاته التقضّی والتدرّج ، فهو یکون ذا تقدّم وتأخّر بالذات ، لا بالمعنی الإضافی ولا بمعنی صدق التقدّم علی الجزء حال عدمه .
هذا ، وإنّی لا اُحبّ أن أحوم حول هذه المباحث ، إلاّ أنّ التنبیه علی الخلط فی کلمات الأعلام یجرّ الکلام إلی ما هو خارج من وضع الکتاب .
وثالثاً : أنّ جعل جمیع الشرائط دخیلـة فی اتّصاف الشیء بکونه صلاحاً مـن الغرائب جدّاً ، والمنشأ له هو الخلط بین الشرائط الشرعیة التی یصحّ فیها ما ذکر ، وبین العقلیة التی لایصحّ فیها ذلک ؛ فإنّ القدرة ـ مثلاً ـ غیر دخیلـة فی اتّصافـه بأنّه ذو صلاح ، فإنّ إنقاذ الغریق وإنجـاء النبی فیه کلّ صلاح وخیر ؛ قدر علیه المکلّف أم لا .
وبذلک یظهر : ضعف ما عن صاحب «الفصول» من أنّ الشرط إنّما هو العناوین الانتزاعیة ـ أعنی التعقّب والتقدّم ـ وهی کانت حاصلة عند تحقّق الموضوع بعد العلم بوجود المتعقّب المتأخّر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 301 وإلی ذلک یرجع ما ربّما یقال من أنّ الشرط إنّما ینتزع عمّا یقوم به ، ولیس للطرف الآخر دخل فی انتزاعه عن منشأ انتزاعه فالسبق إنّما ینتزع عن نفس السابق بالقیاس إلی ما یوجد بعد ذلک ، وکذا اللحوق بالقیاس إلی ما وجد قبله ، ولا دخل للسابق فی انتزاع اللحوق عن اللاحق ، ولا للاّحق فی انتزاع السبق عن السابق حتّی یلزم دخل المعدوم فی الموجود ، انتهی .
قلت : إنّ انتزاع شیء عرضی عن شیء لیس باعتبار ذاته بذاته ، وإلاّ صار ذاتیاً وهو خلف ، بل لأجل تحیّثه بحیثیة عارضه . فحینئذٍ : للاّحق دخل فی انتزاع السبق وبالعکس . فلو صحّ انتزاع السابقیة أو عنوان التعقّب قبل وجود الآخر لزم وجود الإضافة والحیثیة الوجودیة بین الموجود والمعدوم ، ولزم کون المتضائفین غیر متکافئین قوّة وفعلاً ، وغیر ذلک ممّا هو بدیهی لمن ألقی السمع وهو شهید ، وحذف من نفسه قیود التقلید .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 302