فیما نسب إلی الشیخ الأعظم قدس سره
وأمّا القول الثالث ـ أعنی کون الواجب هو المقدّمة بقصد التوصّل إلی ذیها ـ فقد نسب إلی الشیخ الأعظم قدس سره ، ولکن عبارة مقرّر بحثه ینادی بالخلاف فی عدّة مواضع ؛ خصوصاً فیما ذکره فی هدایة مستقلّة لردّ مقالة صاحب «الفصول» ؛ إذ یظهر من نصّ عبائره هناک أنّ قصد التوصّل لیس قیداً لمتعلّق الوجوب الغیری حتّی یکون الواجب هوالمقدّمة بقصد التوصّل ، بل الواجب هو نفس المقدّمة ، إلاّ أنّ قصد التوصّل یعتبر فی تحقّق امتثال الأمر المقدّمی حتّی یصدق علیه الإطاعة ؛ سواء کانت المقدّمة عبادیة أم توصّلیة .
غایة الأمر : انتفاء الثمرة فی الثانی ؛ حیث قال فی خلال الردّ علیه : ونحن بعد ما استقصینا التأمّل لا نری للحکم بوجوب المقدّمة وجهاً إلاّ من حیث إنّ عدمها یوجب عدم المطلوب ، وهذه الحیثیة هی التی یشترک فیها جمیع المقدّمات .
إلی أن قال : فملاک الطلب الغیری المتعلّق بالمقدّمة هذه الحیثیة ، وهی ممّا یکفی فی انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة ، انتهی کلامه .
وفی موضع آخر : الحقّ عدم تحقّق الامتثال بالواجب الغیری إذا لم یکن
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 364 قاصداً للإتیان بذلک ؛ إذ لا إشکال فی لزوم قصد عنوان الواجب فیما إذا اُرید الامتثال ، کما لاریب فی عدم تعلّق القصد بعنوان الواجب فیما إذا لم یکن الآتی بالواجب الغیری قاصداً للإتیان بذلک ، فیستنتج عدم تحقّق الامتثال إلاّ به .
وأیضاً فی موضع آخر قال ـ رادّاً علی صاحب «المعالم» ـ إنّ إطلاق وجوب المقدّمة واشتراطها تابع لإطلاق ذیها ، انتهی .
وأنت إذا أمعنت نظرک ، وأجلت بصرک بین کلماته وسطوره تجد صدق ما ادّعیناه من أنّ محور نقضه وإبرامه لیس بیان ما هو طرف الملازمة علی فرض ثبوتها ، بل بیان ما هو معتبر فی کیفیة الامتثال .
وبذلک یظهر : أنّ ما احتمله بعض المحقّقین من الاحتمالات الکثیرة ساقطة قطعاً ، بل محتمل کلامه أو ظهوره ما أسمعناک فقط ، أو وجه آخر سیجیء الإشارة إلیه .
وکیف کان : فلابدّ من توضیح الوجهین وذکر براهینهما :
أحدهما : أنّ امتثال الواجب الغیری لایحصل إلاّ بقصد التوصّل إلی ذیه ، فاستدلّ علیه قدس سره بأنّ الامتثال لایمکن إلاّ أن یکون الداعی إلی إیجاد الفعل هو الأمر ، ولمّا کان الأمر لایدعو إلاّ إلی متعلّقه فلابدّ فی الامتثال من قصد العنوان المأمور به ، والمأمور به هاهنا هو المقدّمة بالحیثیة التقییدیة ؛ لأنّ الکاشف عن وجوب المقدّمة هو العقل بالملاک العقلی ، والعقل یحکم بوجوب المقدّمة من حیث هی مقدّمة ، فلابدّ من کشف الحکم الشرعی بذلک الملاک علی الحیثیة التقییدیة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 365 ولمّا کان القصد بهذه الحیثیة لاینفکّ عن القصد بالتوصّل إلی ذیها ـ لاستلزام التفکیک التناقض ـ فلابدّ فی امتثال أمر المقدّمة من قصد التوصّل إلی صاحبها ، انتهی ملخّصاً .
وأنت تری بعین الدقّة : أنّ محور کلامه الذی لخّصناه لیس إلاّ شرطیة قصد التوصّل فی امتثال الأمر المقدّمی ، لا بیان ما هو طرف الملازمة .
وتوضیح ما أفاده : أنّ الامتثال لیس إلاّ التحرّک علی طبق داعویته ، ولیست داعویته إلاّ بنحو الغیریة والمقدّمیة لا لمصالح فی نفسه ، فلو کان الانبعاث علی طبق دعوته فلا محالة لاینفکّ عن قصد التوصّل إلی ذیها فی مقام العمل .
نعم ، ما وقع فی دائرة الطلب لیس إلاّ ذات الشیء ؛ لأنّ ملاک الوجوب رفع الاستحالة ، ورافعها ذات المقدّمة وحقیقتها بلا دخل للقصد فی ذلک .
وبعبارة أوضح : أنّ الامتثال لایتحقّق إلاّ بعقد قلبی وقصد نفسی وتوجّه إلی الأمر وإلی کیفیة دعوته وغایة وجوبه ، وهو وإن أمر بذات المقدّمة إلاّ أنّه ما أوجبها إلاّ لأجل التوصّل ، فالعبد الممتثل لا محالة یقصد ذلک العنوان . وأمّا تعلّق الوجوب فهو تابع لتحقّق الملاک ، والمفروض أنّه موجود فی جمیع الأفراد . هذا ، وسیجیء تحقیق الحال فی امتثال الأمر الغیری .
الثانی من الوجهین الذین احتملناهما : ما یشعر به صدر کلامه ویظهر من ذیله أیضاً ؛ وهو أنّ وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب فی الخارج مطلقاً یتوقّف علی قصده ، وعبارته هنا هو المستمسک للمشایخ فی نسبة هذا القول إلیه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 366 وأنت إذا تدبّرت فیما سیمرّ علیک من العبارة تفهم أنّ العبارة لا تنطبق علی مدّعاهم ؛ إذ أنّ البحث فی باب المقدّمة إنّما هو فی تعیین متعلّق الوجوب ، وهو قدس سره لم یشترط فیه شیئاً ، بل قال بکونه هو مطلق المقدّمة ، والعبارة التالیة یفید اعتبار قید التوصّل فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب خارجاً ، وکم فرقٍ بینهما ؟ !
وإلیک العبارة حیث قال : وهل یعتبر فی وقوعه علی صفة الوجوب أن یکون الإتیان لأجل التوصّل إلی الغیر أولا ؟ وجهان ، أقواهما الأوّل ، ویظهر الثمرة فیما إذا کان علی المکلّف فائتة ؛ فتوضّأ قبل الوقت غیر قاصد لأدائها ولا لإحدی غایاتها ، فعلی المختار لایجوز الدخول به فی الصلاة الحاضرة ولا الفائتة .
وأیضاً تظهر من جهة بقاء الفعل المقدّمی علی حکمه السابق ، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب لایحرم الدخول فی ملک الغیر إذا کانت مقدّمة لإنقاذ غریق ؛ وإن لم یترتّب علیه ، بخلاف ما لو اعتبرناه فهو حرام مالم یکن قاصداً لإنقاذه .
وعـن بعض الأعیان مـن المحقّقین فی تعلیقتـه الشریفـة فی توجیـه اعتباره فی متعلّق الوجوب ما هـذا حاصله : إنّ الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة راجعـة إلی التقییدیة ؛ فإذا کانت مطلوبیة المقدّمة لا لذاتها بل لحیثیة مقدّمیتها فالمطلوب الجدّی نفس التوصّل . ومن البیّن : أنّ الشیء لایقع علی صفة الوجوب ومصداقـاً للواجب إلاّ إذا أتی به عـن قصد وإرادة ؛ حتّی فـی التوصّلیات ؛ لأنّ البعث فیها وفـی التعبّدیات لایتعلّق إلاّ بالفعل الاختیاری . فالغسل الصادر بلا اختیار محصّل للغرض ، لکنّه لایقع علی صفة الوجوب ، فاعتباره فیها من
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 367 جهة أنّ المطلوب الحقیقی هو التوصّل ، لاغیر .
قلت : ما أفاده قدس سره فی خصوص إرجاع التعلیلیة إلی التقییدیة متین جدّاً ؛ ضرورة أنّ العقل لایحکم إلاّ علی العناوین العارضة لذوات الأشیاء لا علی الموضوع المجرّد من عنوانه ، وإلاّ لزم أن یحکم لدی التجرّد منه ، ولاتکون تلک الجهات منشأ لإسراء الحکم إلی غیرها بعد کونها هی المطلوبة بالذات لا بالعرض .
وبذلک یظهر الخلل فیما ربّما یصار تارة إلی إنکار هذا الإرجاع من أنّ لحکم العقل موضوعاً وعلّة ، ولامعنی لإرجاع العلّة إلی الموضوع ؛ بحیث تصیر موضوعاً للحکم ، واُخری إلی أنّ القاعدة المزبورة ـ علی تقدیر تسلیمها ـ مختصّة بما یدرکه العقل من الأحکام ، ولاتکاد تجری فیما یکون ثابتاً من الشارع باستکشاف العقل ، انتهی .
وفیه : أنّ إنکار الإرجاع المزبور یستلزم إسراء حکم العقل من موضوعه إلی غیره بلا ملاک ؛ فإنّ الظلم ـ مثلاً ـ إذا کان قبیحاً عقلاً فوقع عمل فی الخارج معنوناً بعنوان الظلم وبعناوین اُخر وحکم العقل بقبحه ، وفرضنا أنّه لم یرجع إلی حیثیة الظلم ؛ فإمّا أن یرجع إلی حیثیات اُخر وهو کما تری ، أو إلی الذات بعلّیة الظلم ؛ بحیث تکون الذات قبیحة ، لا الظلم ـ وإن کان هو علّة لقبحها ـ وهو أیضاً فاسد ، بل یستلزم الخلف ؛ فإنّ الذات تکون قبیحة بالعرض ، فلا محیص إلاّ أن یکون الظلم قبیحاً بالذات ، فیصیر الظلم موضوعاً بالحقیقة للقبح ، وهذا معنی رجوع الحیثیات التعلیلیة إلی التقییدیة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 368 وأعجب من ذلک : ما أفاده ثانیاً ؛ فإنّ إدراک العقل مناط الشیء لیس معناه إلاّ أنّ هذا هو الموضوع ، لا ما هو أوسع من ذلک ولا أضیق ، ومعه کیف یستکشف مناط أوسع ؟ !
وبالجملة : أنّ العقل إذا کشف عن حکم بملاکه العقلی لایمکن أن یستکشف حکماً أوسع أو أضیق من ملاکه قائماً بموضوع آخر غیر حیثیة الملاک .
نعم ، یرد علی المحقّق المحشّی : أنّ وقوع الفعل علی صفة الوجوب فی التوصّلیات لایتوقّف علی القصد ؛ وإن کان الوقوع علی صفة الامتثال موقوفاً علیه ؛ لأنّ قصد العنوان وصدوره عن اختیارٍ شرطان لتحقّق الإطاعة ؛ لما عرفت من أنّه لایتحقّق إلاّ بعقد قلبی متوجّهاً نحو العمل لجهة أمره وطلبه ، فإذا توجّه إلیه وأتی بداعیه فلا ینفکّ عنه قصد التوصّل ؛ لأنّ الأمر المقصود غیری ، ومعناه کون الأمر لأجل حصول الغیر .
وأمّا کونه شرطاً لوقوعه علی صفة الوجوب فلا ؛ لأنّ المفروض أنّ المطلوب هو الحیثیة المقدّمیة ، أی الموقوف علیه بما هو هو ، وهو صرف وجوده بأیّ وجه اتّفق ، فإیجاده بأیّ نحو کان کافٍ فی کونه مصداقاً له ؛ إذ لیس الواجب سوی نفس وجوده وقد حصل ، فلا وجه لعدم وقوعه علی صفة الوجوب مع کونه غیر تعبّدی .
ثمّ إنّ هذا الاحتمال فی کلام الشیخ ـ کما مرّ ـ لاینطبق أیضاً علی مدّعاهم ؛ لأنّ الکلام فی باب المقدّمة إنّما هو فی مقام تعلّق الوجوب ، وقد صرّح بأنّه ذات المقدّمة ، وإنّما دعواه فی مقام آخر ؛ وهو وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب خارجاً ، وهو مقام آخر غیر ما نحن فیه .
وبالجملة : کلام الشیخ آبٍ علی کلا الاحتمالین عمّا نسب إلیه ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 369 ثمّ إنّه لا وجه لأخذ قصد التوصّل قیداً ؛ لا للوجوب لاستلزامه کون وجوب الواجب مشروطاً بإرادة المکلّف ، ونظیره أخذه ظرفاً للوجوب علی نحو الحینیة ؛ لأنّـه یرد علیه نظیر ما یرد علی صاحب «المعالم» ولا للواجب بحیث یکون قصد التوصّل أیضاً متعلّقاً للبعث ، ویکون الأمر داعیاً إلی المقدّمة التی قصد بها التوصّل إلی صاحبها ؛ فإنّه وإن لم یکن محالاً لکن قصد المکلّف غیر دخیل فی ملاک المقدّمیة قطعاً ، فتعلّق الوجوب به یکون بلا ملاک ، وهو ممتنع .
وما عن المحقّق الخراسانی من امتناع وقوع القصد مورداً للتکلیف مدفوع بأنّ القصد قابل لتعلّق البعث إلیه ، کقیدیته فی العبادات .
أضف إلیه : أنّ النفس ربّما توجد الإرادة إذا کانت الإرادة موضوعاً لحکم ، ولم یکن المراد مطلوباً إلاّ بالعرض ، کما فی إرادة الإقامة عشرة أ یّام إذا لم یکن فی الإقامة غرض له سوی الصلاة أربع رکعات .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 370