أمّا أصالة الطهارة والحلّیة :
فلأدلّتهما حکومة علی أدلّة الشرائط التی من تلک الأدلّة قوله علیه السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور» ، إن استفدنا منه أو من غیره طهارة الثوب ، فقولـه علیه السلام : «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر» محقّق للطهور فی ظرف الشکّ .
توضیحه : أنّ ظاهر لسانه محکومیة المشکوک بالطهارة والنظافة حتّی یعلم قذارته ، ومعنی محکومیته بها هو جواز ترتیب آثار الطهارة علیه ، التی من جملتها إتیان الصلاة معها تعبّداً . ولیس معناه أنّ الشکّ فی الطهارة والنجاسة طریق إلی الطهارة ؛ لعدم تعقّل طریقیة الشکّ .
وإن شئت قلت : إنّ المراد من قوله علیه السلام : «نظیف» إمّا الطهارة الواقعیة بجعل مصداق لها ، أو الطهارة الظاهریة بمعنی معاملة الطهارة الواقعیـة معها وترتیب آثارها علیها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 272 لکن لا سبیل إلی الأوّل ؛ لمکان کونها مجعولة فی ظرف الشکّ لبّاً ، وقد جعلت مغیّاة بحصول العلم بالنجاسة ، وهما من لوازم الظاهریة دون الواقعیة .
فحینئذٍ یتعیّن الثانی ویکون مفاده جواز ترتیب آثار الطهارة علی المشکوک فیه ، لکن بلسان تحقّقها ، وأنّ الشاکّ واجد لها ، فیفهم منه عرفاً أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة یجوز إتیانها بها فی حال الشکّ بهذه الکیفیة ، ویکون المأتی به مع هذه الکیفیة مصداقاً للصلاة المأمور بها وواجداً لما هو شرطها .
وبالجملة : قول الشارع بکون مشکوک الطهارة والنجاسة طاهراً یوجب توسعة فی ناحیة الشروط المستفاد من قوله «صلّ فی الطاهر» مثلاً ؛ بحیث ینتقل العرف بعد الحکم بطهارة المشکوک إلی أنّ المفروض مصداق لما فرض شرطاً ، وأنّ الشرط فی الصلاة أعمّ ممّا هو محرز بالوجدان أو بأصل تعبّدی الذی حکم الشارع بقوّة تشریعه ، بکونه مصداقاً للطاهر الذی جعله شرطاً للصلاة فی قوله «صلّ فی الطاهر» مثلاً .
وعلیه : فالصلاة فی المشکوک المحکوم بالطهارة واجدة لما هو الشرط واقعاً وحقیقة ، لا ظاهراً فقط ؛ لأنّ الظاهر بعد هذه الحکومة أنّ الشرط بحسب الواقع أعمّ ، ولایقبل ما فرض فیه الشرط أعمّ ، الخطأ والتخلّف ؛ لأنّه لم تلحظ فیه الطریقیة .
وبذلک یظهر لک ضعف ما ربّما یقال من أنّ هذا إنّما یصحّ إذا لم ینکشف الخلاف ، والمفروض انکشافه ؛ وذلک لأنّ الأصل لیس طریقاً إلی الواقع حتّی یوافقه تارة ویخالفه اُخری ، فلا یتصوّر لانکشاف الخلاف هاهنا معنیً .
وبعبارة أوضح : أنّه بعد التصرّف فی مدلول الشرط فی ظرف الشکّ ، بجعله أعمّ من الطهارة الواقعیة لایتصوّر لانکشاف الخلاف معنی معقول ؛ لأنّه إن کان
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 273 المراد من انکشافه هو أنّه بعد حصول العلم بالنجاسة یستکشف أنّ ما حکمناه معتضداً بفهم العرف ؛ من کون الشرط فی الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعیة لم یکن صحیحاً ، فهو ساقط جدّاً لا یستأهل للجواب .
وإن کان المراد منه : أنّ أدلّة النجاسة تقتضی نجاسة المحکوم بالطهارة فیما بعد وفیما قبل فهو حقّ ، لکن لایضرّنا ؛ إذ قاعدة الطهارة لیست حاکمة علی أدلّة النجاسات بضرورة الفقه ، بل علی أدلّة الشرائط والأجزاء ، فاغتنم فإنّی به زعیم ، والله به علیم .
وبذلک یظهر الکلام فی أصالة الحلّ ؛ فإنّ قوله علیه السلام : «کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام منه بعینه» حاکم علی ما دلّ علی عدم جواز الصلاة فی محرّم الأکل .
ومعنی الحکومة علی أدلّة الشروط هنا هو أنّ العرف بعد ما فهم أنّ المشکوک محکوم بالحلّیة تکلیفاً ووضعاً ینتقل ـ لا محالة ـ إلی أنّ الوظیفة فی هذا الحال إتیان الصلاة بهذه الکیفیة ، وأنّ الشرط بعد هذا الحکم أعمّ من الحلّیة الواقعیة والظاهریة ، فیکون المأتی به کذلک مصداقاً للمأمور به حقیقة بعنایة التعبّد ، ومعه لایعقل بقاء الأمر المتعلّق بطبیعة الصلاة . وحدیث کشف الخلاف قد عرفت جوابه .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم رحمه الله أورد علی الحکومة إشکالات :
منها : أنّ ذلک إنّما یتمّ مادام المکلّف شاکّاً ، وبعد ارتفاع شکّه لا معنی لإجزائه ؛ لارتفاع ما کان عذراً له .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 274 وفیه : أنّ الحکم بطهارة المحکوم لیس عذریاً حتّی یرتفع بارتفاع عذره ، بل علی فرض حکومته لأدلّة الشروط حکم حقیقی صادر لأجل توسیع الأمر علی المکلّفین ، وإفهام أنّ المطلوب منها هو الأعمّ لا الطهارة الواقعیة فقط .
ومنها : أنّ وجود الحکم الظاهری لابدّ وأن یکون مفروغاً عنه حین الحکم ، بعموم الشرط للواقعی والظاهری ، ومن الواضح أنّ المتکفّل لإثبات الحکم الظاهری لیس إلاّ نفس دلیل القاعدة ، فکیف یمکن أن یکون هو المتکفّل لأعمّیة الشرط ؟ !
وفیه : أنّ الحکومة لم یرد فیها نصّ حتّی نتحرّی فی مغزاها ، بل هی من خصوصیات لسان الدلیل یفهمها أهل المحاورة . فلو قال الشارع «المشکوک طاهر» یری العرف المتوجّه إلی أحکام الشریعة ونسکها وشروطها حکومة هذا الدلیل وتقدّمه علی أدلّة الشروط ، التی منها قوله مثلاً : «صلّ فی الطاهر» ، ولایلزم فیها التصریح بأنّ الشرط أعمّ من الواقعی والظاهری ، کما لایخفی .
ومنها : أنّ الحکومة وإن کانت مسلّمة إلاّ أنّها لاتستلزم تعمیم الشرط ؛ لکونها علی قسمین :
قسم لایکون الشکّ فی المحکوم مأخوذاً فی لسان الحاکم ، کما فی قوله : «لاشکّ لکثیر الشکّ» بالنسبة إلی أدلّة الشکوک ، ویکون معمّماً ومخصّصاً ، ویسمّی حکومة واقعیة .
وقسم یکون الشکّ فی المحکوم مأخوذاً فیه ، فلا محالة یکون متأخّراً عنه لأخذ الشکّ فی موضوعه ، فیستحیل کونه معمّماً أو مخصّصاً ، بل یکون حکومة ظاهریة یترتّب علیه الأثر ما دام شاکّاً .
وفیه : ـ مضافاً إلی أنّ الحکم یوصف بالظاهری والواقعی لا الحکومة ـ یرد علیه : أنّ ما ذکره علی فرض صحّته إنّما یتمّ لو کان حاکماً علی أدلّة نجاسـة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 275 الأشیاء وطهارتها إذا قلنا بقبولها الجعل ، فیکون الشکّ متأخّـراً عـن أدلّتهما ، ولیس کذلک ، وإنّما هو حاکم علی دلیل الشرط ؛ أعنی قوله «صلّ فی الطاهر» مثلاً ، وهما فی رتبة واحدة .
والحاصل : أنّ القائل بالإجزاء لایدّعی أنّ أصالة الطهارة ـ مثلاً ـ حاکمة علی أدلّة النجاسات ، وأنّها فی زمان الشکّ طاهرة ، بل یقول : إنّها محفوظة فی واقعیتها ، وإنّ ملاقیها نجس ؛ حتّی فی زمان الشکّ ، لکن یدّعی حکومتها علی الدلیل الذی دلّ علی طهارة ثوب المصلّی ، وأنّه لابدّ أن یکون طاهراً .
وخلاصة حکومتها : أنّ ما هو نجس واقعاً یجوز ترتیب آثار الطهارة علیه فی ظرف الشکّ ، ومن تلک الآثار إتیان الصلاة المشروطة بها ، لکن بلسان تحقّق الطهارة ، ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حکومتها علی أدلّة الشرائط والموانع ، فراجع وجدانک تری الحقّ ظاهراً .
ومن ذلک یظهر ضعف ما أفاده فی رابع الوجوه : من أنّ الحکومة لو کانت واقعیة فلابدّ من ترتیب جمیع آثار الواقع لاخصوص الشرطیة ، وأن لایحکم بنجاسة الملاقی لما هو محکوم بالطهارة ظاهراً ؛ ولو انکشف نجاسته بعد ذلک ، انتهی . أنّ الخلط بین المقامین أوقع المستشکل فیما أوقعه ، وقد عرفت أنّ الحکومـة بین القاعدة ودلیل شرطیة طهارة لباس المصلّی وبدنه لابینها وبین أدلّة النجاسات ؛ إذ الحکومة علیها باطلة بضرورة الفقه ، لاینبغی للفقیه أن یتفوّه بها أو یحتملها .
ولکن أین هذا من الحکومة علی أدلّة الشروط ، وحینئذٍ یصیر نتیجتها توسیع الأمر من الشارع فی کیفیة أداء العبادة ، ولا یأبی تلک الحکومة شیء ؛ لا ضرورة الفقه ولا فهم العرف . وأنت إذا کنت ذا تفحّص فی الفقه ومآثر الفقهاء تجد أنّ الأکابر من القدماء کلّهم قائلون بالإجزاء فی الأحکام الظاهریة ؛ أمارة کان أو أصلاً تعبّدیاً .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 276