القول فی مقدّمة الحرام
قد أسمعناک قول الحقّ ، وعرّفناک مغزی البحث فی الملازمة وأنّ الحقّ عدمها ، وعلیه لایفرق بین مقدّمة الواجب والحرام ، وما إذا کانت المقدّمات تولیدیة أو غیرها بالبرهان المتقدّم .
وفصّل المحقّق الخراسانی بین العلل التولیدیة التی یقع الحرام بعدها بلا انتظار حالة ، وبین ما یکون المکلّف مختاراً بعد إیجاد مقدّماته ؛ محتجّاً بعدم توسّط الاختیار فی الأوّل بینها وبین الفعل ، فیسری المبغوضیة إلی الجمیع ؛ لأنّه موقوف علی تمامها دون الثانی ؛ لتوسّطه بینهما ، فیکون المکلّف متمکّناً من ترک الحرام بعد حصول المقدّمات ، کما کان متمکّناً قبله ، فلا ملاک لتعلّق الحرمة بها . وأمّا الاختیار فلا یمکن أن یتعلّق به التکلیف ؛ للزوم التسلسل ، انتهی ملخّصاً .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 400 وفیه : أنّ النفس لمّا کانت فاعلة بالآلة فی عالم الطبیعة فلایمکن أن تکون إرادتها بالنسبة إلی الأفعال الخارجیة المادّیة جزءً أخیراً للعلّة التامّة ؛ بحیث لا یتوسّط بینها وبین الفعل الخارجی شیء من الآلات ، وتکون النفس خلاّقة بالإرادة ، بل هی تؤثّر فی الآلات والعضلات بالقبض والبسط ؛ حتّی تحصل الحرکات العضویة ، وترتبط بواسطتها بالخارج ، وتتحقّق الأفعال الخارجیة .
وبالجملة : أنّ جعل الإرادة هو الجزء الأخیر من العلّة التامّة ؛ بحیث یستند الفعل إلیها لا إلی فعل خارجی إرادی ممّا لایوجد بین أفعال الإنسان فی عالم المادّة ؛ إذ ما من فعل إرادی إلاّ یتوسّط بینه وبین الإرادة المتعلّقة به فعل إرادی آخر یمکن أن یقع تحت الأمر والزجر .
فلو فرضنا أنّ العاصی الطاغی قد هیّـأ جمیع المقدّمات ؛ من شراء الخمر وصبّه فی الإناء ورفع الإناء تجاه الفمّ وأدخل جرعة منها باطنه تعدّ جمیع المقدّمات ونفس الفعل اختیاریة غیر تولیدیة ، ومع ذلک لیست إرادة الشرب الموجودة بالفعل جزءً أخیراً للعلّة التامّة حتّی یقال بامتناع تعلّق التکلیف بها ، بل یتوسّط بینهما فعل إرادی آخر قابل لتوجّه التکلیف به ؛ من حرکات العضلات المربوطة بهذا العمل ، فإنّ الإرادة المتعلّقة بالعضلات غیر الإرادة المتعلّقة بالشرب ، کما مرّ تحقیقه فی إثبات الواجب المعلّق .
ومن المتوسّطات تحریک الفکّ وعقد الغلصمة وما أشبههما ، کلّ ذلک اُمور اختیاریة للنفس وتولیدیة للشرب قابلة لتعلّق التکلیف بها .
وقس علیه المشی ؛ فإنّـه لایتحقّـق بنفس الإرادة ؛ بحیث تکون الإرادة مبـدءً خـلاّقاً لـه ، مـن غیر توسیط الآلات وحـرکاتها وتحریک النفس إیّاهـا بتوسّط القوی المنبثّـة التی تحت اختیارها . نعم لا یتوسّط بین الإرادة والمظاهـر
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 401 الأوّلیـة للنفس فـی عالـم الطبیعـة متوسّط .
فإن قلت : إنّ مسألة الثواب والعقاب والإطاعة والعصیان من المسائل العرفیة العقلائیة ، فلا یفید فیها التدقیقات الصناعیة ، والعرف یری آخر الأجزاء هو الإرادة التی لا یمکن التکلیف بها .
قلت : کلاّ ، قد أخطأت الطریق ؛ فإنّ المسألة عقلیة فی المقام ؛ حیث إنّ البحث عمّا یجوز أن یکلّف به وما لایجوز ، ولو فرض کون موضوع العصیان والإطاعة عرفیاً لابدّ حینئذٍ من إعمال الدقّة وتشخیص المتوسّطات بین الأفعال وإراداتها .
ثمّ إنّ شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ قد فصّل بین ما یکون العنوان بما هو مبغوضاً من دون تقیید بالاختیار ـ وإن کان له دخل فی استحقاق العقاب ـ وبین ما یکون المبغوض الفعل الصادر عن إرادة واختیار :
ففی الأوّل تکون إحـدی المقدّمات لا بعینها محرّمـة ، إلاّ إذا وجـد ما عدا واحـدة منها ، فتحرم هـذه الباقیة بعینها ، وفی الثانی لا یتّصف الأجـزاء الخارجیـة بالحرمـة ؛ لأنّ العلّـة التامّـة للحرام هی المجموع المرکّب منها ومـن الإرادة ، ولایصـحّ إسناد الترک إلاّ إلی عـدم الإرادة ؛ لأنّـه أسبق رتبة مـن سائر المقدّمات الخارجیة ، انتهی .
وفیه : أنّ إرادة الفعل لمّا لم تکن جزءً أخیراً للعلّة کما تقدّم ، بل الجزء الأخیر فعل اختیاری للنفس ، وهو کعلّة تولیدیة للفعل فلا محالة یکون هذا الجزء الأخیر محرّماً علی فرض الملازمة ؛ لعدم الواسطة بینه وبین المحرّم ؛ حتّی الإرادة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 402 فإذا حرّم الشرب الإرادی فیتوقّف تحقّقه علی الشرب والإرادة المتعلّقة به ، فمع إرادة الشرب یتحقّق جزء من الموضوع ، وجزؤه الآخر یتوقّف علی أفعال اختیاریة ؛ منها تحریک عضلات الحلقوم وقبضها حتّی یتحقّق الاجتراع ، والجزء الأخیر لتحقّق الشرب هو هذا الفعل الاختیاری ، فیتعیّن الحرمة فیه بعد تحقّق سائـر المقدّمات .
وأمّا قضیة استناد الترک إلی عدم إرادة الفعل فصحیح ، لکن الکلام هاهنا فی مقدّمات وجود المبغوض وکیفیة تعلّق الإرادة التشریعیة بها وأنّه هل یتعلّق الإرادة علی فرض الملازمة بالزجر عن المقدّمات الخارجیة أولا ؟ فمع کون بعض المقدّمات الخارجیة الاختیاریة متوسّطاً بین إرادة الفعل وتحقّقه فلا محالة یصیر مبغوضاً ومنهیاً عنه بعد تحقّق سائر المقدّمات .
وبالجملة : بعد ما عرفت من توسّط الفعل الاختیاری بین تحقّق الشیء وإرادته ، وأنّ الإرادة لیست مولدة للفعل لایبقی فرق بین المقدّمات فی المحرّمات علی ما فصّله قدس سره .
ثمّ إنّه بناءً علی الملازمة هل یحرم جمیع المقدّمات ، کما تجب جمیع مقدّمات الواجب أو یحرم الجزء الأخیر إذا کانت أجزاء العلّة مترتّبة ، أو الواحد من الأجزاء إذا کانت عرضیة ؟
التحقیق هو الثانی ؛ لمساعدة الوجدان علیه ، ولأنّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا یخرج الفعل من العدم إلی الوجود ، لا عن کلّ ما هو دخیل فی تحقّقه ؛ لأنّ وجود سائر المقدّمات وعدمها سواء فی بقاء المبغوض علی عدمه ، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود ، وما هو سبب لذلک هو الجزء الأخیر فی المترتّبات وفی غیرها یکون المجموع کذلک وعدمه بعدم جزء منه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 403 وأمّا ما فی تقریرات بعض محقّقی العصر رحمه الله من قیاس مقدّمات الحرام بالواجب ، بتقریب : أنّ مقوّم الحرمة هو مبغوضیة الوجود ، کما أنّ مقوّم الوجوب محبوبیته ، ومقتضاه سرایة البغض إلی علّة الفعل المبغوض ، فیکون کلّ جزء من أجزاء العلّة التوأم مع وجود سائر الأجزاء بنحو القضیة الحینیة مبغوضاً بالبغض التبعی وحراماً بالحرمة الغیریة .
فلا یخلو عن موارد للنظر :
أمّا أوّلاً : فلأنّ المبغوضیة لایمکن أن تکون مقوّمة للحرمة ولا المحبوبیة للوجوب ؛ لأنّهما فی الرتبة السابقة علی الإرادة المتقدّمة علی البعث والزجر المنتزع منهما الوجوب والحرمة . اللهمّ إلاّ أن یراد من المقوّمیة أنّ الحبّ والبغض من مبادئ الوجوب والحرمة .
وثانیاً : أنّ مبغوضیة الفعل لا یمکن أن تکون منشأً لمبغوضیة جمیع المقدّمات ؛ لعدم المناط فیها علی نحو العامّ الاستغراقی ؛ لأنّ البغض من شیء لایسری إلاّ إلی ما هو محقّق وجوده وناقض عدمه ، وغیر الجزء الأخیر من العلّة أو مجموع الأجزاء فی غیر المترتّبات لاینقض العدم .
فإن قلت : فلیکن الأمر فی مقدّمة الواجب کذلک ، فیقال : إنّ الحبّ لا یسری إلاّ إلی ما هو محقّق لوجود المحبوب وطارد لعدمه ، وهو لیس إلاّ الجزء الأخیر من العلّة أو مجموع الأجزاء فی العرضیات ، ولا معنی لـ «وجوب» سوی الجزء الأخیر من أجزاء علل الواجب فی الطولیات .
قلت : فرق واضح بین مقدّمة الواجب والحرام ؛ فإنّ الواجب لمّا کان
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 404 المطلوب تحقّقه ـ وهو موقوف علی جمیع المقدّمات ؛ بحیث یکون کلّ واحد دخیلاً فیه ـ فلا محالة علی الملازمة تتعلّق الإرادة بکلّ واحد منها بما هو موصل ، بخلاف الحرام الذی یکون الوجود مبغوضاً ومزجوراً عنه ؛ فإنّ عدمه بعدم أحد مقدّماته ، فتعلّق إرادة الزجر بغیره یکون بلا ملاک .
وثالثاً : أنّ ما أفاده بقوله : إنّ الجزء التوأم مع سائر الأجزاء مبغوض ، من ضمّ ما لیس بدخیل إلی ما هو دخیل ؛ فإنّ المجموع بما هو مجموع وإن کان مبغوضاً ـ لأنّه العلّة التامّة لتحقّق الحرام ـ لکن کلّ واحد لیس کذلک بنحو القضیة الحینیة ؛ لعدم الملاک فیه .
هذا ، وقد سبق أنّه قدس سره قاس الإرادة التشریعیة بالتکوینیة فی مقدّمات الواجب ، ومقتضی قیاسه عدم الحرمة هاهنا ؛ ضرورة أنّ من أراد ترک شیء لا یتعلّق إرادته بترک کلّ واحد من مقدّماته ، بل تتعلّق بترک ما هو مخرج مبغوضه إلی الوجود ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 405
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 406