الثالث : فی مقتضی الأصل اللفظی فی المقام
إنّک قد عرفت بمالا مزید علیه إمکان أخذ قصد الأمر والامتثال أو غیره من قصد المصلحة والمحبوبیة فی المتعلّق ، فعلیه یقع هذه العناوین فی عرض سائر الأجزاء والشرائط من المؤثّرات فی الغرض ، فیجب علی المولی بیان تلک الاُمور لو کان واحد منها دخیلاً فی الغرض . فلو أحرزنا کونه فی مقام بیان ما هو تمام الموضوع لحکمه ، ومع ذلک لم یظهر فی خلال بیانه من هذه العناوین عین ولا أثر یستکشف عدم دخالتها فی الغرض المطلوب .
فإن قلت : إنّ التمسّک بالإطلاق إنّما یصحّ إذا کان کلّ من وضع القید ورفعه بید الآمر ، ولکن باعثیة الأمر وداعویته إلی المتعلّق لازم ذاتی لاتنفکّ عنه ولا عن متعلّقه ؛ أمّا عن الأمر فواضح ، وأمّا عن المتعلّق لأنّ الداعی إلی الأمر بالشیء هو جعل الداعی إلی الإتیان به ، فمتعلّق الأمر هو طبیعة الفعل التی جعل المولی داعیاً للعبد إلی الإتیان بها ، لا مطلق طبیعته ، وکیف یتمسّک بالإطلاق ؟
قلت : إنّ کون الواجب توصّلیاً لیس معناه إلغاء باعثیة الأمر ومحرّکیته ؛ بأیّ معنی تصوّرت حتّی یلزم تفکیک ما هو ذاتی للشیء عنه ، بل هی موجودة لم یمسّ بکرامتها فی کلّ من القربیات والتوصّلیات .
بل المراد أنّ غرض الآمر : تارة یحصل بصرف وجود الشیء فی الخارج ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 224 بأیّ داعٍ أتاه العبد ، کدفن المیّت ؛ فإنّ الغرض هو مواراته تحت الأرض ؛ سواء کان المحرّک إلی هذا العمل هو أمر المولی ودرک عظمته ، أم کان هو قطع رائحته .
واُخری : یکون الغرض بحیث لایحصل إلاّ بقصد أمره وإتیانه لأجل أنّه أمر بذلک ، ففی کلا القسمین لم یمسّ بکرامة داعویته ، وإنّما التصرّف فی حصول المطلوب فقط ، فتدبّر .
وبعبارة اُخری : لا کلام فی أنّ الداعویة لاتنفکّ عن الأمر ومتعلّقه مطلقاً ، ولکن الکلام فی أنّ هذه الدعوة هل تعلّقت بذات العمل ، أو به مع قید آخر کقصد الامتثال أو غیره ؛ حتّی یکون القید مأخوذاً فی المتعلّق قبل تعلّق الدعوة ، لاجائیاً من قبلها ومنتزعاً من المتعلّق بعد تعلّقها به .
ولا شکّ فی أنّ الأوّل هو المتعیّن ؛ ضرورة أنّ البعث تعلّق بنفس الطبیعة بلا قید ، وما جاء من قِبل الأمر لایکون مدعوّاً إلیه ، ولا العبد مأخوذاً بإتیانه . فالکلام فی الإطلاق المقابل للتقیید هو إطلاق متعلّق الأمر ، لا سلب داعویة الأمر .
ثمّ إنّ شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ بعد ما کان بانیاً علی جواز الأخذ فی المتعلّق ، وأنّ الأصل فی الأوامر کونها توصّلیاً رجع فی أواخر عمره الشریف إلی أصالة التعبّدیة ، وبه عدل عن کثیر من مبانیه السابقة .
وملخّص ما أفاده مبنی علی مقدّمات :
منها : أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بنفس الطبائع ؛ أی المفاهیم الکلّیة اللابشرطیة العاریة عن کلّ قید ، لا بصرف الوجود أو الوجود السعی .
ومنها : أنّ العلل التشریعیة کالعلل التکوینیة طابق النعل بالنعل ، فکلّ ما هو من مقتضیات الثانیة یکون من مقتضیات الاُولی أیضاً ، کتکثّر المعلول بتکثّر علّته ، وکعدم انفکاک المعلول عنها ، وغیر ذلک . وعلی ذلک بنی قدس سره القول بعدم التداخل فی
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 225 الأسباب ، والقول بظهور الأمر فی الفور ودلالته علی المرّة .
ومنها : أنّ القیود اللبّیة ، منها ما یمکن أخذها فی المتعلّق علی نحو القیدیة اللحاظیة کالطهارة ، ومنها مالایمکن أخذها فی المتعلّق وتقییده بها ، إلاّ أنّه لاینطبق إلاّ علی المقیّد ؛ بمعنی أنّ له ضیقاً ذاتیاً لایتّسع غیره بدون دلیل یوجب التوسعة ، کمقدّمة الواجب ـ بناءً علی وجوبها ـ فإنّ الإرادة من الآمر المستتبعة للبعث لا تترشّح علی المقدّمة مطلقاً ـ موصلة کانت أم لا ـ لعدم الملاک فیها ، ولا علی المقیّدة بالإیصال ؛ لاستلزامه الدور المقرّر فی محلّه ، ولکنّها لا تنطبق إلاّ علی المقدّمة الموصلة . وکالعلل التکوینیة ؛ فإنّ تأثیرها لیس فی الماهیة المطلقة ، ولا المقیّدة بقید المتأثّرة من قِبَلها ؛ فإنّها ممتنعة ، بل فی الماهیة التی لا تنطبق إلاّ علی المقیّد بهذا القید کالنار ؛ فإنّ معلولها لیست الحرارة المطلقة ـ سواء کانت مولدة عنها أم لا ـ ولا المقیّدة بکونها من علّتها التی هی النار ، لکنّها لاتؤثّر إلاّ فی المعلول المنطبق المخصوص .
إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول : إنّ المأمور به لیس إلاّ نفس الطبیعة القابلة للتکثّر بحکم المقدّمة الاُولی ، کما أنّ المبعوث إلیه لیست الصلاة المطلقة ؛ سواء کانت مبعوثاً إلیها بهذا الأمر أم بغیره ، ولا المقیّد بکونها مأموراً بأمرها المتعلّق بها ، بل مالاینطبق إلاّ علی الأخیر لابنحو الاشتراط ، بل له ضیق ذاتی لایبعث إلاّ نحو المأمور بها ، کما فی العلل التکوینیة .
وبعبارة أوضح : أنّ الأوامر تحرّک المکلّف نحو الطبیعة التی لا تنطبق إلاّ علی المتقیّدة لبّاً بتحریکها إیّاه نحوها . فإذا أتی المکلّف بها من غیر دعوة الأمر لایکون آتیاً بالمأمور به ؛ لأنّه لاینطبق إلاّ علی المقیّد بدعوة الامر ، فمقتضی الأصل اللفظی هو کون الأوامر تعبّدیة قربیة ، انتهی بتوضیح .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 226 لکن النظر الدقیق یقضی علی خلافه :
أمّا أوّلاً : فلأنّ قیاس التشریع بالتکوین قیاس مع الفارق ؛ لأنّ المعلول فی العلل التکوینیة ـ خصوصاً فی الفاعل الإلهی الذی هو العلّة الحقیقی ، لا الفاعل المادّی الذی هو فی سلک المعدّات والعلل الإعدادیة ـ إنّما هو ربط محض بعلّته لا شیئیة له قبل تأثیر علّته ، ففعلیته ظلّ فعلیة علّته ، وهذا بخلاف التشریع ؛ فإنّ تشخّص الإرادة التی تعدّ علّة تشریعیة من تشخّص المراد ؛ إذ هی من ذوات الإضافة لایعقل تعلّقها بشیء مجهول ، وهکذا الأمر ؛ فإنّ المبعوث إلیه فی الأوامر یکون رتبته ـ تصوّراً ـ مقدّماً علی البعث ، وقس علیهما نظائرهما .
وأولی منه بعدم التسلیم : ما اختاره فی باب تعدّد الأسباب ؛ فإنّ اقتضاء کلّ علّة تکوینیة معلولاً مستقلاًّ إنّما هو لقضیة إیجاب کلّ علّة مؤثّرة وجوداً آخر یکون معلولاً ووجوداً ظلّیاً له . وأمّا الإرادة فلا معنی لتعلّقها بشیء واحد زماناً ومکاناً مرّتین ، بل لایقع الشیء الواحد تحت دائرة الإرادة إلاّ مرّة واحدة ، ولا تحت أمر تأسیسی متعدّد ؛ فإذن تکثّر الإرادة تابع لتکثّر المراد . وأمّا المعلول التکوینی فتکثّره تابع لتکثّر علّته . وأیضاً عدم انفکاک المعلول عن علّته إنّما هو لکون وجود العلّة التامّة کافٍ فی تحقّقه ، فلا معنی للانفکاک . وأمّا الإرادة فیمکن أن یتعلّق بأمر استقبالی وحالی ، فإثبات الفوریة من هذه الجهة مخدوش أیضاً .
وأمّا ثانیاً : فلأنّ ما ذکره من المقدّمة الاُولی کافٍ فی نقض مراده ؛ إذ الواجب هو ما وقع تحت دائرة الطلب ، والقیود المنتزعة من تعلّق الأمر بها لاتکون مأموراً بها إلاّ أن تؤخذ فی المتعلّق ، کسائر القیود .
وبالجملة : أنّ الواجب التوصّلی والتعبّدی یشترکان فی أنّه إذا تعلّق الأمر بشیء ینتزع منه عنوان کونه مبعوثاً إلیه ، ویفترقان فی أنّ المطلوب فی الأوّل هو
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 227 نفس الطبیعة وفی الآخر هی مع قصد التقرّب . وبما أنّ الأمر لایکون محرّکاً إلاّ إلی نفس الطبیعة لا إلی غیرها فلابدّ وأن یکون مثل تلک القیود مورداً للبعث ، لو کانت دخیلة فی الغرض .
وأمّا ثالثاً : فلأنّ ما هو المعلول فی کلتا العلّتین إنّما هو نفس الطبیعة ، لا مالاینطبق إلاّ علی المقیّد ؛ إذ النار إنّما تحرق نفس القطن وتتعلّق بنفس الطبیعة ، والتقیید منتزع بعد التعلّق والإحراق .
والحاصل : أنّه بتعلّق الإحراق بها یصیر الطبیعة موصوفة بوصف أنّها لایمکن أن تنطبق إلاّ علی المقیّد ، لکن رتبة هذا القید والوصف بعد تحقّق الإحراق ، ولا یمکن أن یصیر موجباً لضیق الطبیعة المتعلّقة بالإحراق .
وقصاری الکلام : أنّ المادّة موضوعـة لنفس الطبیعة ؛ والهیئة دالّـة علی البعث إلیها . والذی قام به البیان هو ذات الطبیعة ، وانتزاع عناوین مـن تعلّق الأمـر عـن المأمور به لایوجب أمراً ، بل لایمکن وقوعها تحت الطلب ، ومعه لامعنی لوجوب إتیانها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 228