فی معانی الحروف
وأمّا القسم الثالث ـ أعنی عموم الوضع وخصوص الموضوع له ـ فقد مثّلوا له بالحروف ، فلنبدأ بتحقیق معانیها حتّی تتّضح کیفیة وضعها :
فنقول : إنّک إذا أمعنت النظر ولاحظت الموجودات ـ من شدیدها إلی ضعیفها ـ تری بعین الدقّة انقسام الموجودات الإمکانیة إلی أقسام وشعب :
فمنها : ما هو تامّ ماهیةً ووجوداً ؛ أی یوصف حقیقتها ویدرک جوهرها مستقلّة فی المدارک العقلیة بلا توسیط شیء ، کما أنّه یتحقّق ویحصل فی الأعیان کذلک ، من دون أن یعتمد علی شیء أو یحصل فی موضوع ـ کالجواهر بأنواعها العالیة والسافلة ـ ویعبّر عنه بالموجود لنفسه وفی نفسه .
ومنها : ما هو تامّ ماهیة ومفهوماً ، ویتصوّر ماهیة العقلانیة فی نشأة الذهن بحیالها ، ولا یحتاج فی التحدید إلی أمر آخر ، ولکنّه غیر تامّ وجوداً ، ولایمکن أن یتحقّق فی نفسه مستقلاًّ ، ولا أن یشغل الأعیان إلاّ بالحصول فی موضوع والعروض علی معروض ، کالأعراض بأسرها .
ومنها : ما هو قاصر فی کلتا النشأتین ، فلا یجعل فی الذهن إلاّ تبعاً وتطفّلاً للغیر ، ولایوجد فی الخارج إلاّ مندکّاً فی طرفیه ، کالنِسَب والإضافات والوجودات
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 32 الرابطة ؛ فإنّ لها محکیات ومسمّیات فی الخارج ، لاتخرج من حدود الوجود ، ولها حظّ منه . تجد جمیع هذه فی قولنا : «الجسم له البیاض» ؛ فإنّ محکی الجسم والبیاض غیر حصول البیاض للجسم ، وحصوله للجسم لیس کلا حصوله ، ووقوع زید فی الدار لیس کلا وقوعه . نعم لیس لهذا القسم الأخیر ماهیة معقولة مستقلّة ؛ بأن یدرک ما هو ربط بالحمل الشائع ، من دون إدراک الأطراف ، کما أنّ موجودیته أیضاً بعین موجودیة الطرفین .
وأمّا مفهوم الربط والنسبة التی تدرک مستقلّة فلیس نسبة ولا ربطاً إلاّ بالحمل الأوّلی الذاتی ، لا بالحمل الشائع ؛ إذ للعقل أن ینتزع منها مفهوماً مستقلاًّ یجعله حاکیاً عن الروابط الحقیقیة ومشیراً إلیها بنحو من الحکایة والإشارة ، لا کحکایة الماهیة عن مصداقها ؛ إذ لایمکن استحضار حقائق النِسب فی الذهن بذاتها بتوسّط هذه العناوین .
ولا یتعقّل ذواتها بنحو الاستقلال ـ لا بالذات ولا بالعرض ـ إذ المفروض : أنّ حقیقتها عین الربط بالطرفین والفناء والاندکاک فیهما ، فلا یمکن الاستحضار إلاّ تبعاً لهما ، کما لایوجد فی وعاء الخارج إلاّ کذلک .
وإن شئت قلت : إنّ الفرق بین القضیة المعقولة وما تنطبق علیه خارجاً لیس إلاّ باختلاف الموطن ؛ بحیث لو أمکن قلب أحدهما إلی الآخر لحصل التطابق بلا زیادة ونقصان .
فحینئذٍ : فکما أنّ الربط التکوینی بین الجواهر والأعراض إنّما هو بوجود النسب والوجودات الرابطة ـ بحیث لولاها یستقلّ کلّ فی مکانه ،ولم یکن زید مثلاً مرتبطاً بالدار ، ولاالدار مرتبطة بزید ـ فکذلک حال المعقولات ؛فإنّه لایلتئم
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 33 الجواهر المعقولة مع الأعراض فی الذهن إلاّ ببرکة النسب والإضافات الذهنیة .
والحاصل : أنّه قد یکون المعقول منّا مطابقاً لما فی الخارج ، کما إذا تصوّرنا الجسم والبیاض مرتبطاً وجود أحدهما بالآخر ، من دون أن یکون لهذا الارتباط صورة مستقلّة ، ففی هذا النحو من التعقّل یکون حقیقة الربط والنسبة متحقّقین فی الذهن ، کتحقّقهما فی الخارج ؛ أعنی مندکّاً فی الطرفین .
وقد یکون المعقول منّا مخالفاً لما فی العین ، کما إذا تعقّلنا مفهومی الإنسان والدار ومفهوم الربط بالحمل الأوّلی ، فیکون الکلّ مفاهیم مفردة استقلالیة ، لا یرتبط بعضها ببعض .
هذا حال العین والذهن مع قطع النظر عن الوضع والدلالة .
وأمّا بالنظر إلیهما : فإن أراد المتکلّم أن یحکی عـن ارتباط الجواهـر بالأعـراض فـی الخـارج ، أو عـن الصورة المعقولـة المـرتبط بعضها ببعض لا محیص له إلاّ بالتشبّث بأذیال الحروف والهیئات ، فلو تکلّم موضعها بألفاظ مفردة اسمیـة ؛ من الابتداء والانتهاء والربط لایکون حینئذٍ حاکیاً عن نفس الأمر ، ولم ینسجم کلماته .
وبالجملة : لولا محکیات الحروف ومعانیها لم یرتبط الجواهر بأعراضها فی الخارج ، ولا الصور المعقولة الحاکیة عن الخارج بعضها ببعض ، ولولا ألفاظها لم یرتبط الکلمات ، ولم تحصل الجمل .
والخلاصة : أنّ حصول الربط بها لیس معناه أنّها موضوعة لإیجاد الربط فقط ـ کما سیجیء نقله ـ بل حصوله إنّما هو لأجل حکایتها عن معانٍ خاصّة مختلفة مندکّة فانیة ؛ من الابتداء والانتهاء والاستعلاء والحصول الآلیات التی بها
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 34 حصل الربط فی الخارج وفی وعاء التکوین ، فأوجب حکایةُ هذه المعانی المختلفة بألفاظ مخصوصة الربطَ فی الکلام وانسجام الجمل ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 35