الأمر السادس فی أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعانی
التحقیق : أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی الواقعیة ؛ تعلّقت بها الإرادة أولا ، ولا دخل لها فیها ـ لا شطراً ولا شرطاً ـ ویتّضح حالها ببیان أمرین :
الأوّل : ما أسمعناک فی صدر الکتاب من أنّ حقیقة الوضع لیس إلاّ تعیین اللفظ فی مقابل المعنی ، من دون حصول علاقة تکوینیة ، وما ربّما یقال من التعهّد والالتزام فی تفسیره فهو تفسیر له بالآثار والنتائج ، وقد تقدّم الکلام فیه .
فبطل ما یؤیّد به القول الشاذّ المخالف للتحقیق من أنّ الوضع فی الألفاظ وضع حیثی ؛ بمعنی أ نّه لایجعل اللفظ فی مقابل المعنی إلاّ بحیث لو أطلقه الواضع أو غیره لکان مریداً لمعناه ؛ وذلک لما تری من بنائه علی القول المردود فی باب الوضع ؛ من حدیث التعهّد والالتزام فی تفسیر معنی الوضع .
الثانی : قد قام البرهان فی محلّه علی أنّ الأفعال الصادرة من ذوی العقول
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 69 والشعور معلّلة بأغراض وغایات ؛ حتّی فیما یراه العرف عبثاً ولغواً ، کیف ، والعلّة الغائیة واقعة فی سلسلة العلل ، وتعدّ علّة لفاعلیة الفاعل ، وإن کانت تتأخّر بوجودها العینی لکنّها مؤثّرة فی تحریک الفاعل بوجودها الذهنی .
وحینئذٍ : فالمعلول بما أ نّه رشحة من رشحات العلّة أو مظهر ناقص لها ، ولا استقلال له إلاّ ممّا اکتسبه من جانب علّته فهو لا محالة یتضیّق بضیقها ، ولا یمکن له أن یکون أوسع منها ، لکن لا علی نحو التقیید ، بل تضیّقاً ذاتیاً تابعاً لاستعداده .
فإذن : یقع الکلام فی أنّ الغایة لفعل الواضع ـ التی هی إظهار المرادات وإعلان المقاصد ـ هل توجب تضیّقاً فی المعنی الموضوع له ؛ لیکون الوضع للمعنی المراد من جهة أنّ الوضع لذات المعنی علی إطلاقه بعد کون الداعی منحصراً فی إفادة المراد لغو أولا توجب ذلک ؟
التحقیق : أنّ الغایة للوضع شیء آخر غیر ما تصوّروه ؛ فإنّ الغرض منه إفادة ذوات المرادات لا بما هی کذلک ، بل بما هی نفس الحقائق ؛ فإنّ المتکلّم إنّما یرید إفادة نفس المعانی الواقعیة ، لا بما هی مرادة . علی أنّ کونها مرادة إنّما یکون عند الاستعمال أو من مقدّماته التی لا ترتبط بالوضع ، بل کونها مرادة مغفول عنه للمتکلّم والسامع .
أضف إلیه : لو سلّمنا کون الغایة هی إفادة المرادات ، لکن کون شیء واقعاً فی سلسلة العلل الفاعلیة یقتضی حصوله عند حصول الوضع والمواضعة بین اللفظ والمعنی ، وأ مّا أخذه فی المعنی الموضوع له فلا .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 70 وأعجب منه : ما استدلّ به علیه من أ نّه لو لم توضع للمراد منها لزم اللغویة ؛ إذ ذلک إنّما یلزم لو لم یترتّب علی وضعه لذات المعنی أثر أصلاً ، وأ مّا إذا ترتّب الأثر علیه ـ ولو علی نوع منه ؛ وهو ما إذا کان المعنی متعلّقاً للإرادة ـ فلا تلزم اللغویة ، کما هو ظاهر ، وسیوافیک أنّ جعل الحکم علی الطبیعة یخالف فی کثیر من الأحکام لجعله علی الأنواع والأصناف والأفراد ، ومنها هذا المقام .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ القول بکونها موضوعـة للمرادة مـن المعانی یتصوّر علی وجوه :
منها : أخـذ الإرادة بالحمل الأوّلی جـزءً للموضوع له ، وهو ممّا لایلتزم به ذو مسکة .
ومنها : أن تکون موضوعة لما هو بالحمل الشائع مراد ومقصود بالذات ؛ أعنی الصورة القائمة بالنفس ـ قیاماً صدوریاً أو حلولیاً ـ إذ الإرادة کالعلم إنّما تکون من شؤون النفس ، وهی لاتنال الخارج عن حیطتها ، فلا تنال من الخارج إلاّ صورة ذهنیة ، کما أنّ شؤونها کالإرادة لاتتعلّق إلاّ بالصورة المتقوّمة بالنفس .
فحینئذٍ : ما هـو المراد بالذات ـ أی وقـع متعلّقاً للإرادة فی اُفق النفس ـ لیس إلاّ الصورة العلمیة الحاکیة عن الخارج ، وبذلک تصیر هی مرادة بالذات والخارج مراداً بالعرض ، فهو المراد بوجه والمطلوب فی المرتبة الثانیة ؛ لفناء الصورة فیه وآلیتها له .
وعلیه : لو وضعت الألفاظ للمراد بالذات لما صحّ الحمل ولم تنطبق علی الخارج ـ ولو مـع التجرید ـ مضافاً إلی لزوم کـون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً فی جمیع الأوضاع .
ومنها : کونها موضوعة للمراد بالعرض ، فیرد علیه ـ مضافاً إلی خصوصیة
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 71 الموضوع له ـ عدم صحّة الحمل إلاّ بالتجرید ، مع بداهة صحّته بدونه .
وهناک قسم آخر ـ وإن شئت فسمّه رابع الأقسام ـ : وهو أن یکون الوضع للمعنی المراد علی نحو الحینیة الممکنة ، لا علی نحو المشروطة العامّة لیکون الوصف من قیودها وعناوینها ، وقد عرفت ما یمکن الاستدلال به علیه من حدیث الغایة والغرض ، کما عرفت دفعه أیضاً .
وإلی ذلک یمکن صرف کلام العلمین من کون الوضع لذات المراد بلا تقیید ؛ وإن کان بعیداً عن مساق کلامهما ـ وأبعد منه توجیه المحقّق الخراسانی من صرف کلامهما إلی الدلالة التصدیقیة ، وکونها مرادة للافظها تابعة لإرادته ؛ تبعیة مقام الإثبات للثبوت ؛ إذ عبارة العلاّمة فی «الجوهر النضید» التی نقلها عن اُستاذه وشیخه المحقّق الطوسی صریح فی الدلالة الوضعیة ، علی أنّ هذا التوجیه توجیه مبتذل لایناسب مقامهما الشامخ ـ بل لیس صحیحاً فی نفسه ؛ لأنّ نسبة المتکلّم إلی أ نّه أراد معنی تلک الألفاظ تتوقّف علی أمر آخر ، لایکفی فیه مجرّد وضع الألفاظ للمرادات ، بل لابدّ من ضمّ قاعدة عقلائیة من أصالة تطابق الجدّ والاستعمال .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 72