الاُولی : فی تعیین المادة الاُولی وکیفیة وضعها
اعلم أنّه قد وقع الکلام بین الأعلام فی تعیین المادّة الاُولی وکیفیة وضعها ، بعد اتّفاقهم علی وجودها بین المشتقّات ، والمحکی عن البصریین : أنّها المصدر ، وعن الکوفیین : أنّها الفعل ، وربّما یظهر من نجم الأئمّة : أنّ النزاع بین الطائفتین لیس إلاّ فی تقدّم تعلّق الوضع بهذا أو ذاک ، لا فی الأصلیة والفرعیة .
وکیف کان : فبطلان الرأیین واضح ؛ لأنّ المادّة المشترکة لابدّ وأن تکون سائرة فی فروعها بتمام وجودها ـ أعنی حروفها وهیئتها ـ ومن المعلوم أنّهما لیسا کذلک ؛ إذ هیئتهما آبیة عن ورود هیئة اُخری علیهما . اللهمّ إلاّ أن یوجّه بما سیأتی بیانه .
والتحقیق : أنّ لمادّة المشتقّات التی هی عاریة عن جمیع الهیئات ولا بشرط من جمیع الجهات إلاّ عن ترتیب حروفها وضعاً مستقلاًّ ، ولولا ذلک للزم الالتزام بالوضع الشخصی فی جمیع المشتقّات ؛ لعدم محفوظیة ما یدلّ علی المادّة لو لا وضعها کذلک ، وهو خلاف الوجدان والضرورة ، بل یلزم اللغویة منه مع إمکان ذلک ، مع ما نشاهد من اتقان الوضع .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 148 ویشهد لذلک : أنّا قد نعلم معنی مادّة ونجهل معنی الهیئة ، کما لو فرض الجهل بمعنی هیئة اسم الآلة فی مضراب ، مع العلم بمعنی الضرب ، فلا إشکال فی أنّا نفهم أنّ للضرب هاهنا تطوّراً وشأناً ، ولیس هذا إلاّ للوضع ، کما أنّ دلالة الهیئة علی معناها مع الجهل بمعنی المادّة دلیل علی وضعها مستقلاًّ نوعیاً ، مع أنّ بعض المصادر قیاسی ، فلابدّ له من مادّة سابقة .
ثمّ إنّ وضع المادّة شخصی ، ولا یلزم من تطوّرها بالهیئات أن یکون نوعیاً کما قیل ـ وهی الحقیقة العاریة عن جمیع فعلیات الصور ـ فکأنّها هیولی عالم الألفاظ ، نظیر هیولی عالم التکوین ، علی رأی طائفة من أهل النظر .
فإن قلت : إنّ اللفظ الموضوع لابدّ وأن یکون قابلاً للتلفّظ به ، والمادّة الخالیة عن التحصّل یمتنع التلفّظ بها .
قلت : إنّ الغایة من وضعها لیست الإفادة الفعلیة حتّی تستلزم فعلیة إمکان التنطّق بها .
والحاصل : أنّ الموادّ موضوعة بالوضع التهیّئی لأن تتلبّس بهیئة موضوعة ، ومثلها لایلزم أن یکون من مقولة اللفظ الذی یتکلّم به .
لایقال : المشهور بین أهل الأدب : أنّ اسم المصدر موضوع لنفس الحدث بلا نسبة ناقصة أو تامّة ، بل المصدر أیضاً ـ کما هو المتبادر منهما ـ وعلی هذا فوضعهما للحدث لا بشرط بعد وضع المادّة له أیضاً فاقد لملاک الوضع ؛ لأنّ الهیئة فیهما لابدّ لها من وضع وإفادة زائدة علی المادّة .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 149 لأنّا نقول : إنّ الغایة من وضع المصدر واسمه إنّما هو لإمکان التنطّق بالمادّة ، من دون أن یکون لهیئتهما معنی وراء ما تفید مادّتها .
والحاصل : أنّ المادّة وضعت لنفس الحدث ، لکن لایمکن التنطّق بها ، وربّما یقع فی الخواطر إظهار ذلک ، فوضعت هیئتها لا لإفادة معنی من المعانی ، بل لکونها آلة للتنطّق بالمادّة . وبذلک یصحّح قول البصریین بأصالة المصدر ، وقول بعض الأعلام بکون الأصل هو اسم المصدر ؛ لأنّهما کالمادّة بلا زیادة .
فإن قلت : إنّ لازم ذلک هو دلالة المادّة علی معناها ، وإن تحقّقت فی ضمن هیئة غیر موضوعة .
قلت : إنّ وضع الموادّ تهیّئی للازدواج مع الهیئات الموضوعة ، وبذلک یحصل لها ضیق ذاتی ، لا مجال معه لتوهّم الدلالة ؛ ولو فی ضمن المهملات ، وسیأتی أنّ دلالة الموادّ کنفسها ، وتحصّلها مندکّة فی الصورة ، وبه یدفع هذا الإشکال .
ثمّ إنّ هنا إشکالاً آخر ، أشار إلیه سیّد مشایخنا ، المحقّق السیّد محمّد الفشارکی قدس سره ، وهو : أنّه یلزم علی القول باستقلال کلّ من المادّة والهیئة فی الوضع دلالتهما علی معنیین مستقلّین ، وهو خلاف الضرورة . وحدیث البساطة والترکّب غیر القول بتعدّد المعنی ، وهذا ممّا لم یقل به أحد .
قلت : إنّ دلالة المادّة علی معناها ـ کوجودها ـ مندکّة فی دلالة الهیئة وتحصّلها ؛ بحیث لایفهم منها إلاّ معنی مندکّ فی معنی الهیئة .
وبالجملة : أنّ المادّة متحصّلة بتحصّل صورتها ، وهی مرکّبة معها ـ ترکیباً اتّحادیاً ـ ودلالتها علی المعنی أیضاً کذلک . فبین معانی المشتقّات ـ کألفاظها
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 150 ودلالتها ـ نحو اتّحاد ، مثل اتّحاد الهیولی مع صورتها .
وأمّا ما أجاب به المحقّق المزبور قدس سره ـ من أنّ المادّة ملحوظة أیضاً فی وضع الهیئات ، فیکون الموضوع هو المادّة المتهیّئة بالهیئة الخاصّة ، وهو الوضع الحقیقی الدالّ علی المعنی ولیس الوضع الأوّل إلاّ مقدّمة لهذا الوضع ، ولا نبالی بعدم تسمیة الأوّل وضعاً ؛ إذ تمام المقصود هو الثانی ـ فلا یخلو من غموض ؛ إذ ما یرجع إلی الواضع هو الوضع فقط ، وأمّا الدلالة فهی أمر قهری الحصول بعد الاعتبار . وکونه مقدّمیاً لایوجب عدم الدلالة .
فحینئذٍ یلزم التعدّد فی الدلالة علی نفس الحدث ؛ إذ یستفاد من الوضع الأوّل ذات الحدث ، ومن الثانی الحدث المتحیّث بمفاد الهیئة . فحینئذٍ یلزم الترکیب مع تعدّد الدلالة ، وهو أفحش من الإشکال الأوّل .
علی أنّ هنا فی الوضع الثانی تأمّلاً ؛ إذ وضع کلّ مادّة مع هیئتها یستلزم الوضع الشخصی فی المشتقّات ، ولو صحّ هذا لاستغنی عن وضع المادّة مستقلاًّ .
والقول بأنّ معنی الوضع النوعی هو أنّ المشتقّات وُضعت بالوضع النوعی فی ضمن مادّةٍ ما فاسد غیر معقول ؛ إذ مادّةٌ ما بالحمل الشائع غیر موجودة ؛ لأنّه یساوق وجود المادّة المستلزم لتعیّنها وخروجها عن الإبهام ، وبالحمل الأوّلی لا ترجع إلی معنی معقول . فالتحقیق فی دفع الإشکال هو ما عرفت .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 151