التنبیه الثانی : الإشکال فی الطهارات الثلاث ودفعه
قد وقعت الطهارات الثلاث التی جعلت مقدّمة للعبادة مورد الإشکال من وجوه ، ونحن نقرّرها واحداً بعد واحد ، ثمّ نجیب عن الجمیع بجواب واحد :
الأوّل : أنّه لا إشکال فی ترتّب الثواب علیها ، مع أنّ الواجب الغیری لایترتّب علیه ثواب .
الثانی : لزوم الدور ؛ فإنّ الطهارات ـ بما هی عبادات ـ جعلت مقدّمة وعبادیتها تتوقّف علی الأمر الغیری ، ولا یترشّح الوجوب الغیری إلاّ بما هی مقدّمة ، فالأمر الغیری یتوقّف علی العبادیة وهی علیه .
الثالث ـ وهی أصعبها ـ أنّ الأوامر الغیریة توصّلیة ، لایعتبر فی سقوطها قصد التعبّد ، مع أنّ الطهارات یعتبر فیها قصده إجماعاً .
هذا ، ولکن الذی ینحلّ به العقدة هو أنّها بما هی عبادة جعلت مقدّمة ، ولا یتوقّف عبادیتها علی الأمر الغیری بل لها أمر نفسی . بل التحقیق : أنّ ملاک العبادیة فی الاُمور التعبّدیة لیس هو الأمر المتعلّق بها ، بل مناطها هو صلوح الشیء للتعبّد به وإتیانه للتقرّب به إلیه تعالی .
وعلی ذلک استقرّ ارتکاز المتشرّعة ؛ لأنّهم فی إتیان الواجبات التعبّدیة یقصدون التقرّب إلیه تعالی بهذه الأعمال مع الغفلة عن أوامرها المتعلّقة بها . ولو أنکرت إطباق المتشرّعة فی العبادات ، إلاّ أنّ إنکار ما ذکرناه ملاکاً للعبادیة ممّا لا سبیل إلیه . نعم ، لایمکن الاطّلاع علی صلوح العبادیة غالباً إلاّ بوحی من الله تعالی .
وبذلک یستغنی عن کثیر من الأجوبة التی سیجیء الإشارة إلیها ـ بإذن الله ـ من أنّ عبادیتها لأجل تعلّق الأمر الغیری أو النفسی علیها ، فارتقب .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 356 وکما ینحلّ بذلک عبادیة الطهارات ینحلّ أیضاً شبهة ترتّب الثواب علیها لأجل العبادیة وشبهة الدور ؛ لأنّها إنّما ترد لو قلنا بأنّ عبادیتها موقوفة علی الأمر الغیری ، وقد عرفت خلافه .
وممّا ذکرناه من الجواب یقرب ما ذکره المحقّق الخراسانی ، ویفترق عنه بما یسلم عن بعض المناقشات .
فإن قلت : إنّ الالتزام بعبادیة الطهارات الثلاث حتّی التیمّم مشکل جدّاً ؛ إذ لیس الأخیر عبادة نفسیة ، وما ربّما یستفاد من ظواهر بعض أخباره من کونه عبادة ـ علی فرض تسلیمه ـ لیس بحجّة ؛ لإعراض الأصحاب عنها .
قلت : یمکن أن یقال بل یستکشف من احتیاجه إلی قصد التقرّب وترتّب المثوبة ، کونه عبادة فی نفسه ، إلاّ أنّه فی غیر حال المقدّمیة ینطبق علیه مانع عن عبادیتها الفعلیة ، أو یقال بأنّه عبادة فی ظرف خاصّ ؛ وهو کونه مأتیاً به بقصد التوصّل إلی الغایات ، لا بأن تکون عبادیته لأجل الأمر الغیری .
فإن قلت : فعلی ذلک لابدّ أن یؤتی بها لأجل رجحانها الذاتی ، مع أنّ سیرة المتشرّعة جاریة علی إتیانها لأجل التوصّل بها إلی الغایات . وعلیه فلو أتی بها لأجل الغیر تقع صحیحة ؛ وإن غفل عن ملاک العبادیة ، کما علیه بعضهم فی تصحیح العبادیة .
قلت : بل نجد ارتکاز المتشرّعة علی خلاف ذلک ، أتری من نفسک أن ترمیهم بأنّهم لایفرّقون بین الستر وتطهیر الثوب للصلاة وبین الطهارات الثلاث
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 357 لأجل التوصّل إلیها ؟ بل لاشکّ أنّه یقصدون بها التعبّد ، ویجعل ما هو عبادة مقدّمة إلی غایاتها ، فیؤتی بالوضوء متقرّباً به إلی الله تعالی . والغفلة إنّما عن الأمر النفسی والغیری ، وقد تقدّم أنّ العبادة لاتحتاج إلی أزید من کونه صالحاً للتعبّدیة .
هذا هو المختار فی دفع الإشکالات .
وربّما یجاب عن الإشکال الأوّل ـ أعنی ترتّب المثوبة ـ بأنّ الثواب جعلی وهو تابع للجعل ، فکما یجعل علی نفس العبادات یجعل علی مقدّماتها .
وفیه : أنّ ملاک الإشکال إنّما هو علی مسلک الاستحقاق فی الثواب ، وهو فرع کونه مأتیاً للتقرّب منه تعالی ، لا لأجل التوصّل إلی غایات .
وربّما یجاب عن الإشکال الثانی ـ کما عن بعض أهل التحقیق ـ بأنّ الأمر الغیری المتوجّه إلی المرکّب ینحلّ إلی أوامر ضمنیة غیریة ، فیکون ذوات الأفعال فی الطهارات مأموراً بها بالأمر الضمنی من ذلک الأمر الغیری ، وإذا أتی بها بداعی ذلک الأمر الضمنی یتحقّق ما هو المقدّمة ویسقط الأمر الضمنی المتوجّه إلی القید ؛ لحصول متعلّقه قهراً ، انتهی .
قلت : ما ذکره وإن کان کافیاً فی دفع الدور إلاّ أنّه لایصحّح عبادیته ؛ إذ الأمر الغیری لایصلح للداعویة .
وربّما یقرّر الدور علی وجه آخر ؛ وهو أنّ الأمر الغیری لایدعوا إلاّ إلی ما هو مقدّمة ، والمقدّمة هاهنا ما یؤتی بها بدعوة الأمر الغیری ؛ فإنّ نفس الأفعال الخاصّة لم تکن مقدّمة بأیّ نحو اتّفقت ، فیلزم أن یکون الأمر داعیاً إلی داعویة نفسه .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 358 وأنت خبیر : بأنّ التقریر المزبور هو عین ما تقدّم فی مبحث تعبّدیة الأوامر وتوصّلیتها ، ولیس مخصوصاً بهذا الباب ، وقد أشبعنا الکلام فی رفع الشبهات هناک ، فراجع .
وأمّا الإشکال الثالث : فربّما یصار إلی تصحیح عبادیتها بالأمر الغیری ، أو النفسی المتعلّق بذیها أو النفسی المتعلّق بها نفسها . والأخیر لا محذور فیه ، بل یمکن إرجاع روایات الباب إلیه ، کما احتملناه فی مبحث الوضوء ، إلاّ أنّ الذی یبعّده مغفولیة هذا الأمر النفسی ـ علی فرض صحّته ـ عند المتشرّعة ، لو کان هو المناط لعبادیتها .
وما ربّما یتوهّم مـن امتناع اجتماع الوجـوب الغیری والاستحباب النفسی فی موضوع واحـد ، بل یجب الحکم بتبدّل الاستحباب بالوجوب مـع اندکاک الملاک الاستحبابی فی الملاک الوجوبی ـ نظیر اندکاک السواد الضعیف فی السواد الشدید ـ مدفوع بما سیأتی فی النواهی ؛ مـن أنّ الأمـر یقف علی العنوان الـذی تعلّق به ، ولایتجافی عنه ، ولایسری إلی الخارج أصلاً ؛ ضرورة أنّه ظرف السقوط لا العروض .
فحینئذٍ فموضوع الأمر الاستحبابی ـ علی فرض صحّته ـ هو نفس الغسلات ، کما أنّ الموضوع للأمر الغیری هو الوضوء الذی تعلّق به الأمر العبادی الاستحبابی . بل التحقیق ـ علی ما سیأتی ـ أنّ الأمر الغیری علی فرضه إنّما یتعلّق بحیثیة ما یتوصّل به إلی ذی المقدّمة ، وحینئذٍ فامتثال الأمر الوجوبی عقلاً لیس إلاّ إتیان الوضوء بأمره الاستحبابی ، وإلاّ لم یأت بما هو المتعلّق .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 359 وما فی کلام القائل فی نذر صلاة اللیل من أنّ الأمر الاستحبابی إنّما تعلّق بـذات صلاة اللیل ، لا بما أنّها مستحبّة ، والنذر أیضاً إنّما یتعلّق بالـذات ؛ إذ لا یمکن أن یتعلّق النذر بصلاة اللیل بوصف کونها مستحبّة ؛ لأنّها بالنذر تصیر واجبة . . . إلی آخره .
لایخلو عن مغالطة ؛ لأنّ ما هو الواجب إنّما هو عنوان الوفاء بالنذر لانفس الصلاة ، نعم یتوقّف امتثال الخطاب الوارد فی قوله : «ف بنذرک» علی إتیان الصلاة استحباباً ، وهو غیر کون الصلاة متعلّقة للوجوب ، فالخلط وقع بین ما هو متعلّق بالذات وما هو مصداق بالعرض . وللمقال تتمّة یأتی فی محلّه .
وأمّا القول بصیرورتها عبادة بواسطة الأمر الغیری فلا یخلو من غرابة ؛ لأنّه ـ بعد تسلیم إمکان داعویته ، والغضّ عمّا تقدّم من الإشکال فیه ـ یرد علیه : أنّ دعوته لیست إلاّ إلی إتیان المقدّمة للتوصّل إلی ذیها ، ولیست له نفسیة وصلاحیة للتقرّب ، ولم تکن المقدّمة محبوبة للمولی ، بل لو أمکنه أن یأمر بإتیان ذیها مع عدم الإتیان بمقدّمته لأمر به کذلک ، فالأمر بها من جهة اللابدّیة ، ومثل ذلک لایصلح للمقرّبیة ؛ ولهذا لو أتی بالمقدّمة ـ بناءً علی وجوب المقدّمة المطلقة ـ بانیاً علی عدم إتیان ذیها لما استحقّ الثواب .
وأمّا ما عن بعض الأکابر ـ أدام الله أظلاله ـ من دعوی صیرورتها عبادة بواسطة الأمر المتعلّق بذی المقدّمة فتوضیحه أن یقال : إنّ إتیان المقدّمة لأجل الأمر العبادی المتعلّق بذیها یجعلها عبادة ، ویکفی فی المقرّبیة وفی تعنون الشیء
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 360 بالعبادیة کون تحصیل الشیء لأجل امتثال الأمر العبادی .
وفیه : أنّه لا تخلو عن نظر ؛ لأنّ الأمر ـ کما تقدّم ـ لایمکن أن یتجافی عمّا تعلّق به من العنوان ، أو یبعث ویدعو إلی غیرما تعلّق به ، وحینئذٍ فما هو المدعوعین ما تعلّق به من الصلاة ، وما خرج من تحت الأمر ـ کالمقدّمات ـ لایعقل أن یدعو إلیها ؛ لعدم تعلّقه بها ، فلا یکون الإتیان بها إطاعة له .
وبالجملة : أنّ الأمر النفسی لایدعو إلاّ إلی متعلّقه ، ولایعقل أن یدعو إلی المقدّمات ؛ لعدم تعلّقه بها . فلایکون الإتیان بها إطاعة له ، بل إطاعة للأمر المقدّمی ـ لو فرض الملازمة ، مع الغضّ عن الإشکال المتقدّم ـ أو لحکم العقل .
وحینئذٍ : القول بأنّه یکفی فی عبادیة الشیء أن یؤتی به لأجل المولی ـ ولو بمثل هذه الدعوة ـ لایخلو عن مصادرة . أضف إلیه : أنّ العبادیة فرع صلوح الشیء للتقرّب ، والمقدّمة لاتصلح لذلک . ولعلّه وقع الخلط بین حکم العقل وداعویـة الأمر .
وبما ذکرنا یتّضح : ما عن بعض الأعاظم من أنّ عبادیة الوضوء من ناحیة الأمر النفسی المتوجّه إلی الصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط ؛ بداهة أنّ نسبة الوضوء إلی الصلاة کنسبة الفاتحة إلیها من الجهة التی نحن فیها ؛ حیث إنّ الوضوء قد اکتسب حصّة من الأمر بالصلاة لمکان قیدیته لها ، انتهی ملخّصاً .
فراجع مجموع کلامه تجد فیه ما یقضی منه آخر العجب ؛ فإنّ ما توجّه إلیه الأمر لیس إلاّ التقیّد ؛ وهو کون الصلاة مع الطهارة ، وهو لایوجب کون القید عبادة ،
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 361 وهو وإن استشعر علی ما ذکرنا وصار بصدد الجواب إلاّ أنّه ما أتی شیئاً یصحّ الاتّکال علیه ، فراجع .
ثمّ إنّه لو قلنا بکون الوضوء مستحبّاً نفسیاً أو بوجود ملاک العبادة فیه یصحّ التوضّی قبل الوقت ، ویجوز الدخول معه فی الصلاة بعد حضور الوقت ، کما أنّه لو لم یکن للمکلّف داعٍ إلی إتیان الوضوء الاستحبابی قبل الوقت لکن رأی أنّ الصلاة فی الوقت مشروطة بـه ، فصار ذلک داعیاً إلی إتیانه لله یقع صحیحاً أیضاً . هذا کلّه إذا کان التوضّی قبل الوقت .
وأمّا بعده : فإن أتی به بداعی التوصّل إلی الغیر ، من دون قصد التقرّب فلا یقع صحیحاً ، وإن أتی به بداعی أمره الغیری لکن متقرّباً به إلی الله یصحّ ویحصل الشرط ، وأمّا إذا أتی بداعی أمره الاستحبابی فصحّته منوطة ببقاء أمره ، وسیأتی ما یتّضح منه أنّ الأمر الاستحبابی علی عنوانه محفوظ ، وأنّ متعلّق الأمر الغیری علی فرض الملازمة عنوان آخر غیر متعلّق الأمر الاستحبابی ، وحینئذٍ فلا إشکال فی صحّته بداعی أمره .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 362