تحریر محلّ النزاع
لا یخفی : أنّ کلماتهم فی تحریر محلّ النزاع مختلفة جدّاً :
فیظهر من بعضها أنّ النزاع فی تعلّقها بالفرد الخارجی الذی هو منشأ انتزاع الصور الذهنیة أو بالطبائع بما هی هی ، مع قطع النظر عن الوجودین .
ویردّه : أنّ الضرورة تقضی بامتناع کون الفرد الخارجی معروضاً للوجوب ؛ لأنّه ظرف السقوط بوجه لا العروض ، فبعید جدّاً أن یقع النزاع فی شیء أحد شقّیه باطل بالضرورة .
کما یظهر من بعض آخر : أنّ المسألة لغویة ، والنزاع فی مفاد مادّة الأمر والنهی ، وأنّها وضعت للعناوین الکلّیة أو لأفرادها ، وتشبّث فی ذلک بالتبادر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 487 وفیه : أنّ ذلک إعادة بلا عائدة ؛ إذ البحث عنه قد تقدّم مستوفی فی فصل المشتقّ ، علی أنّه نقل عن السکّاکی الإجماع علی أنّ المصادر الخالیة عن اللام والتنوین موضوعة للطبیعة اللابشرط .
والعجب من بعضهم ؛ حیث أبدی قولاً ثالثاً فقال : إنّ النزاع مبنی علی النزاع المعروف فی الفلسفة بأنّ الأصیل هو الوجود أو الماهیة ، أو علی نزاع آخر ؛ وهو أنّ الطبیعی هل له وجود فی الخارج أو لا ، فالمسألة عقلیة محضة أو مبتنیة علیها .
وفیه : أنّ البحث فی المقام إنّما هو فی الأوامر المتوجّهة إلی العرف ، المستبعدین عن المعارف والتحقیقات العلمیة ، فابتناء البحث العرفی علی المسائل الدقیقة بمراحل عن الواقع .
وهناک رأی رابع ؛ وهو أنّ البحث فی سرایة الإرادة إلی الخصوصیات اللاحقة بالطبیعة فی الخارج وعدمها ؛ معلّلاً بأنّ الطبیعة فی الخارج تلحقه قیود وتتعیّن بحدود لا مناص لها عنها ، فالبحث إنّما هو فی أنّ الواجب هل هو نفس الطبیعة ، أو هی مع کلّیات القیود ؛ من الزمان والمکان .
وفیه : أنّ هناک لیس میزاناً یعیّن ذلک ؛ إذ لو کان الغرض قائماً بنفس الطبیعة فلا وجه لتعلّق الأمر بقیودها ، وإن کان قائماً بإضافتها إلی الحدود الفردیة فلا محالة تسرّی الإرادة إلیها ، ویتعلّق الأمر بها .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 488 ثمّ إنّ محطّ البحث لیس فی تعلّقها بالکلّی الطبیعی أو أفراده بما هو المصطلح فی المنطق ؛ فإنّ الماهیات الاعتباریة ـ کالصلاة والحجّ ـ لیست من الکلّیات الطبیعیة ولا مصادیقها مصادیق الکلّی الطبیعی ؛ فإنّ الماهیات المخترعة وکذا أفرادها لیست موجودة فی الخارج ؛ لأنّ المرکّب الاختراعی ـ کالصلاة والحجّ ـ لم یکن تحت مقولة واحدة ، ولا یکون لمجموع الاُمور وجود حقیقی حتّی یکون مصداقاً لکلّی طبیعی . بل المراد من الطبیعی هنا هو العنوان الکلّی ؛ سواء کان من الطبائع الأصیلة أم لا .
ولا یختصّ البحث بصیغة الأمر والنهی ، بل یعمّ متعلّق مطلق الطلب والزجر بأیّ دالّ ؛ ولو بالإشارة أو بالجملة الإخباریة فی مقام الإنشاء .
والذی یصلح لأن یقع محطّ البحث ، ویظهره النظر فی کثیر من مقالاتهم : هو أنّ الأمر إذا تعلّق بماهیة بالمعنی المتقدّم هل یسری إلی الأفراد والمصادیق المتصوّرة بنحو الإجمال منها ؛ بحیث تکون الطبیعة وسیلة إلی تعلّقه بالمصادیق الملحوظة بنحو الإجمال ، لا بقید کون الأفراد ملحوظة ومتصوّرة ، بل نفس ذات الأفراد ، کما فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ .
فیکون معنی «صلّ» أوجد فرد الصلاة ومصداقها ، لا بمعنی أنّ الواجب هو الفرد الخارجی أو الذهنی بما هو کذلک ، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً ؛ فإنّ الأفراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها ، کما أنّ الطبیعة قابلة للتصوّر کذلک .
إذا عرفت ذلک فنقول : الحقّ أنّ متعلّق الحکم ـ بعثاً کان أو زجراً ـ هو نفس الکلّی والعنوان بما هو هو ، مع قطع النظر عن الوجودین والنشأتین ، لا مقیّداً بالوجود الذهنی ـ کما هو واضح ـ ولا بلحاظ اتّحاده مع المعنون فی الخارج ـ کما
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 489 جنح إلیه بعض محقّقی العصر رحمه الله إذ لحاظ الاتّحاد مرتبة حصول وجود المأمور به وحصول الغرض ، فلا معنی للحاظه عند البعث ، بل المأمور به هو نفس الکلّی وذات العنوان الذی إذا وجد فی الخارج یصیر منشأً للآثار .
والوجه فی ذلک : أنّ البعث الحقیقی لا یمکن أن یتعلّق بما هو أوسع أو أضیق ممّا هو دخیل فی الغرض ؛ للزوم تعلّق الإرادة والشوق بغیر المقصود أو به مع الزیادة جزافاً .
فإذا لم یکن للخصوصیات الفردیة دخالة فی غرض الآمر فلا یعقل البعث نحوها ـ ولو إلی العنوان الکلّی من الخصوصیات ـ لأنّ البعث تابع للإرادة التشریعیـة التابعة للمصالح ، وتعلّقها بما لا دخل له فی تحصیلها ممتنع ، کتعلّقها ابتداءً بأمر بلا غایة .
وتوهّم تعلّقها بها تبعاً لما هو من ملازمات المراد باطل ؛ لأنّه مع خروجه من محطّ البحث ـ لأنّ الکلام لیس فی استلزام إرادة لإرادة اُخری کباب المقدّمة ، بل فی متعلّق الأمر ـ قد فرغنا من بطلانه .
فإن قلت : إنّ الطبیعة بما هی هی غیر محبوبة ولا مبغوضة ولا متعلّقة للأمر والنهی ؛ إذ لیست إلاّ هی من حیث إنّها هی ، کما هو المراد من التعبیر المعروف بتأخیر قید الحیثیة عن السلب ، فکیف یتعلّق به الطلب ویعرض علیها الوجوب ؟ إن هذا إلاّ شیء عجاب .
قلت : معنی الکلمة الدارجة بین الأکابر هو أنّ الوجود والعدم والحبّ
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 490 والبغض وغیرها لیس عین الطبیعی ولا جزئه ، بل هو فی حدّ الذات خالٍ عن هاتیک القیود عامّة ، وهذا لا ینافی أن یعرض علیها الوجود والعدم ، ویتعلّق بها الأمر والنهی .
وإن شئت قلت : إنّ سلب هذه المفاهیم عنها سلب بالحمل الأوّلی ؛ فإنّ مرتبة الماهیة مرتبة حدّ الشیء ، ولا یعقل فی هذه المرتبة أن یوجد فیها الوجود والعدم ، وإلاّ یصیر الوجود أو العدم جزء المفهوم أو عینه ، ویکون واجب الوجود أو ممتنعه بالذات ؛ إذ البحث عن ذاتیات الشیء وما به الشیء هو هو ، ولا یعقل أن یکون الوجود جزء ماهیة الممکن أو عینه ، وإلاّ لزم الانقلاب . نعم یعرضها الوجود والعدم ، وینطبق کلّ واحد علیها انطباقاً بالحمل الشائع العرضی . وقس علیهما إمکان تعلّق الأمر والنهی .
ولا یلزم من تعلّقهما علیها أن تکون هی منشأ للآثار ومحبوبة ومبغوضة ، بل المولی لمّا رأی أنّ الطبیعة فی الوجود الخارجی منشأ للأثر المطلوب فلا محالة یبعث العبد إلیها حتّی ینبعث ویوجدها خارجاً بالأمر ، فالأمر متعلّق بالطبیعة ؛ لغرض انبعاث العبد وصیرورتها من اللیس إلی الأیس ، فتعلّق الأمر بالطبیعة طریق إلی حصول المطلوب والمحبوب ، وسیأتی توضیحه .
فتحصّل ممّا مرّ : أنّ الطبیعة ـ أ یّة طبیعة کانت ـ لا یعقل أن تکون مرآة لشیء من الخصوصیات الفردیة اللاحقة لها فی الخارج ، وقد تقدّم أنّ مجرّد اتّحادها معها لا یوجب الکشف والدلالة ، فلا تکون نفس تصوّر الماهیة کافیة فی تصوّر الخصوصیات ، فلابدّ للآمر أن یتصوّرها مستقلاًّ بعنوانها أو بعنوان غیر عنوان الطبیعی ؛ ولو بالانتقال من الطبیعی إلیها ، ثمّ ینقدح إرادة اُخری متعلّقة بها مستقلاًّ غیر الإرادة المتعلّقة بنفس الطبیعة ، أو یتّسع الإرادة الاُولی من جهة المتعلّق ، وتتعلّق
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 491 بوحدتها علی الطبیعة مع الخصوصیات الفردیة . ولکن الإرادة الثانیة أو توسّع الإرادة الاُولی جزاف محض ؛ لأنّ الغرض قائم بنفس العنوان لا مع قیوده ، فتدبّر .
وبتقریب آخر : أنّ تصوّر الأفراد غیر تصوّر الطبیعة ؛ لأنّ القوّة التی تدرک الأفراد غیر القوّة التی تدرک الطبیعی ؛ لأنّ تصوّر الخاصّ الجزئی من شؤون القوی النازلة للنفس ، وتعقّل الطبیعة من شؤون القوی العاقلة ، بعد تجرید الخصوصیات . فربّما یتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبیعة وبالعکس .
فالآمر إذا أراد أن یوجّه الأمر إلی الطبیعة فلابدّ من لحاظها فی نفسها ، وإذا أراد الأمر بالأفراد لابدّ من لحاظها إمّا بعنوان عامّ إجمالی ؛ وهو مباین لعنوان الطبیعة فی العقل ، وإمّا بلحاظ الأفراد تفصیلاً لو أمکن إحضار الأفراد الکثیرة تفصیلاً فی الذهن ، ولکن لحاظها تفصیلاً غیر لحاظ الطبیعة أیضاً .
وحینئذٍ لو فرض أنّ ذات الطبیعة یترتّب علیها الأثر فی الوجود الخارجی فلابدّ للآمر من تصوّرها وتصوّر البعث إلیها وإرادته ، ففی هذا اللحاظ لا یکون الأفراد ملحوظة ؛ لا إجمالاً ولا تفصیلاً ولا ملازمة بین اللحاظین ، وصرف اتّحاد الخصوصیات الخارجیة مع الطبیعة خارجاً لا یوجب الملازمة العقلیة ، فلابدّ فی تعلّق الأمر بها من لحاظ مستأنف وإرادة مستأنفة ، ولکن مع ذلک یکون کلّ من البعث والإرادة جزافیاً بلا غایة ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج.۱): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 492