تقاریب دفع الشبهة وحلّها
إذا تبیّنت هاتان المقدّمتان، وتلک الشبهة والعویصة، فلنشرع فیتعقیبها بذکر التقاریب التی یمکن أن تکون دفعاً وحلاًّ لها، أو لغیرها ممّا یأتی تفصیله:
التقریب الأوّل : أنّ الشبهة فی مقابل البدیهة، والبرهانَ فی قبال الوجدان،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 478 واهیة ثبوتاً، وإن لم یمکن الاطلاع علیٰ جهة الضعف وسرّ الفساد؛ وذلک لأنّ الوجدان شاهد علیٰ أنّ المولیٰ یمکن أن یأمر عبده بالذهاب إلی المدرسة، ویأمره علیٰ تقدیر العصیان بالذهاب إلیٰ أمر کذا، أو أن یجلس فیالدار وهکذا، وهذا شاهد علیٰ وقوع الترتّب؛ فإنّ عصیان الأمر الأوّل شرط فعلیّة الأمر الثانی.
وأنت خبیر بما فیه :
أوّلاً: من أنّ مقتضیٰ فهم العقلاء فی هذه الخطابات العرفیّة، هو التخییر إذا لم یکن مقیّداً بالعصیان، وما هو المتعارف بینهم عدم التقیید بالعصیان، فلایعلم من طریقتهم شیء یفید أرباب الترتّب؛ لأنّه مجرّد فرض، ولیس فیالخطابات العرفیّة منه أثر.
نعم، ماهو المعروف عنهم هو الأمر بالذهاب أوّلاً، ثمّ الأمر علیٰ تقدیر عدم الذهاب بالجلوس فیالدار، وهذه الخطابات الطولیّة المترتّبة، لاتورث استحقاق العبد للعقاب عند ترک الذهاب، وامتثال الأمر الثانی بالضرورة، وکأنّه تخییر یورث أهمّیة الطرف الأوّل، لا إلیٰ حدّ یستحقّ العقوبة علی التخلّف عنه، فیکون الاختیار بیده.
وثانیاً: مع إطلاق الأمر الأوّل بحسب الزمان، فلایتصوّر العصیان إلاّ إذا کان فوریّاً، وإذا کان فوریّاً أو موقّتاً بوقت فیأتی الإشکال المزبور، وإلاّ فلایتصوّر العصیان.
مثلاً : إذا قال المولیٰ فی المثال المزبور : «علیک بالذهاب إلی المدرسة حتّی الساعة الثامنة، مع العصیان فعلیک بالجلوس فی البیت» فإنّ عصیان الأمر الأوّل یتحقّق إذا عجز عن امتثاله، ومع سعة الوقت ـ لتحقّق امتثاله ـ لایتحقّق شرط الأمر الثانی، ولاشبهة فی أنّ أوّل الساعة الثامنة إذاکان داخلاً فی المغیّا، یتمکّن من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 479 الامتثال، ثمّ بعد ذلک یعجز ویتحقّق شرط الأمر الثانی بالضرورة.
فما هو من المتعارف فی الخطابات الطولیّة المترتّبة،هو ما یؤدّی التخییر عرفاً، أو یکون البناء علیٰ ترک الأمر الأوّل، کافیاً لرفع الید عنه، ولانصراف المولیٰ عن أمره، فإنّه کثیراً ما ینصرف المولیٰ عن أمره لأجل ذلک، لا لأجل العصیان المتقوّم ببقاء الأمر إلیٰ وقت العجز عن الامتثال، فلاتخلط جدّاً.
وإن شئت قلت : ماهو المتعارف فی الطولیّات العرفیّة، هوالترتّب الزمانیّ، لا الترتّب العقلیّ، وهذه الخطابات العرفیّة لیست ناظرة إلی الترتّب العقلیّ المقصود فی المقام.
التقریب الثانی : هذه الشبهة فی مقابل الإجماع والاتفاق علیٰ عدّة من الفروع، غیر قابلة للإصغاء إلیها:
ومنها : لو فرض وجوب الإقامة علی المسافر من أوّل الزوال، فیکون وجوب القصر علیه، مترتّباً علیٰ عصیان وجوب الإقامة؛ حیث إنّه لو عصیٰ ولم یقصد الإقامة، توجّه إلیه خطاب القصر.
وکذا لو فرض حرمة الإقامة؛ فإنّ وجوب التمام مترتّب علیٰ عصیان حرمة الإقامة.
ولا نعنی بـ «الترتّب» إلاّ هذا؛ ضرورة أنّ ظرف الوجوب أوّل الزوال، وظرف وجوب الصلاة قصراً أیضاً أوّل الزوال، فإذا قصد الإقامة من أوّل الزوال فقد عصیٰ ووجب، ولکنّ الوجوب الثانیّ مترتّب علی عصیان الوجوب الأوّل، وهکذا فی الفرع الأخیر، فتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 480 أقول : وقد ذکروا فروعاً اُخر لایهمّنا الإشارة إلیها بعد کفایة الواحد منها؛ لاتحاد الکلّ فیما هو مقصودهم، وإن کان لکلّ فرع بعض الخصوصیّات الاُخر الخارجة عن هذه المسألة، والإحالة إلیٰ محالّها أولیٰ وأحسن.
والذی هو المهمّ هنا الإشارة إلیٰ جهتین:
الجهة الاُولیٰ : أنّ ما هو الواجب بالنذر وشبهه، لو کان عنوان «الإقامة فی بلد کذا» فرضاً، فیجب قصد الإقامة عشرة أیّام فی أوّل الزوال، وماهو الواجب بدخول الزوال هو الصلاة، سواء کانت قصراً أو تماماً، ولکن إذا کان یقصد الإقامة ـ ولو فی أثناء الوقت ـ فعلیه التمام، وإذا کان یترکها فعلیه القصر، فالوجوب آتٍ علی الإطلاق من غیر التقیید بشیء، ولایکون مترتّباً وجوب صلاة الظهر والعصر علیٰ شیء، ولا موقوفاً علیٰ قصد الإقامة، أو قصد عدم الإقامة، بل «إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور».
فمن نذر أن یقیم فی أوّل الزوال وعصیٰ، أو نذر ولم یعصِ، لایترتّب علیٰ عصیانه وعدم عصیانه شیء.
نعم، إذا قصد فعلیه أن یتمّ، وإذا ترکه وعصیٰ فعلیه القصر؛ لأجل الجهة الاُخری الخارجة عن المسألة.
فما تریٰ فی کتبهم من التمسّک بهذه المسألة وما ضاهاها للترتّب؛ وأنّ وجوب الصلاة قصراً مترتّب علیٰ عصیان وجوب الإقامة، فی غایة الوهن والاشتباه. ومن هنا یظهر السبیل للمناقشة فی سائر ما قالوه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 481 الجهة الثانیة : لو سلّمنا أنّ الوجوب الجائی فی أوّل الزوال، متلوّن بلون القصر والتمام أیضاً، کما هو متلوّن بلون الظهریّة والعصریّة، فیکون الوجوب الآتی فیأوّل الزوال متوقّفاً علیٰ حال المصلّی؛ وأنّه مقیم أو غیر مقیم، فإن کان مقیماً فهو متلوّن بلون التمام، وإن کان غیر مقیم متلوّن بلون القصر.
فعند ذلک إذا دخل الوقت، فهل ینتزع منه عنوان «المقیم» أو عنوان «غیر المقیم»؟ فإن کان قد ترک قصدها کما هو المفروض ، فالوجوب الآتی متلوّن بلون القصر، ویکون العنوان المنتزع منه عنوان «غیر المقیم» وإذا کان هذا العنوان ینتزع منه فلایکون عاصیاً، وإذا لم یکن عاصیاً فلایسقط وجوب الوفاء بالنذر فی هذه الرتبة بالضرورة.
وبالجملة : لنا أن نقول: إنّ ماهو المفروغ عنه عند الفقهاء، والمتسالم علیه فی الفقه؛ هو وجوب الوفاء بالنذر، ووجوب الصلاة بدخول الوقت، ومن کان مقیماً یتمّ، ومن کان غیر مقیم یقصر، وأمّا فروع وحدة رتبة الوجوبین فلا؛ لما یمکن أن یترتّب أحدهما علی الآخر ترتّباً زمانیّاً، لا عقلیّاً. ومن هنا یظهر الخلط فی سائر الفروع.
وما هو الحجر الأساس : أنّ وجوب الصلاة قصراً مقتضیٰ دلیلین :
الأوّل : الأدلّة المتکفّلة لإیجاب الصلوات الیومیّة، وهو غیر مترتّب علی العصیان واللاعصیان.
والثانی: الأدلّة المتکفّلة لإیجاب القصر علی المسافر غیر المقیم، وهو تابع لموضوعه، وإن کان بحسب اللبّ بینهما التقارن، ولکن لاینبغی الخلط جدّاً.
وإن شئت قلت : لیس وجوب الصلاة قصراً من التکالیف النفسیّة الشرعیّة، بل هو من الإرشادات الشرعیّة إلیٰ وظیفة المسافر والحاضر، والمقیم وغیر المقیم، فما هو التکلیف النفسیّ فهو غیر مترتّب علی العصیان، وماهو الإرشاد إلیٰ کیفیّة صلاة غیر المقیم لایعقل لأن یکون مترتّباً علیه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 482 التقریب الثالث : ما أفاده سیّدنا الاُستاذ البروجردیّ قدس سره واعتقد بذلک بداهةَ الترتّب: «وهو أنّ من البدیهیّ أنّ الأمرین إذا کانا داعیین نحو المتعلّقین فی عَرْض واحد، مع القدرة الواحدة، یستتبعان ـ عند الدقّة العقلیّة ـ المحال والمحذور العقلیّ؛ بمعنی امتناع تحقّق الإرادتین الجدّیتین الباعثتین من الملتفت، والمتوجّه إلیٰ عجز العبد.
ولکنّ ذلک لایرجع إلی التکلیف الواحد بالجمع بین المتعلّقین، حتّیٰ یتوهّم أنّ المحذور العقلیّ: هو رجوعهما إلیٰ إرادة باعثة نحو الجمع بین الضدّین، وغیر القابلین للجمع، مثل الإزالة والصلاة.
بل کلّ واحد مع قطع النظر عن الآخر، یدعو نحو متعلّقه، فلایکون طلب کلّ واحد منهما مستقلاًّ محالاً، ولا یتعلّق الطلب الواحد بالجمع بینهما، فلا محذور عقلاً من هذه الناحیة، فلا معنیٰ لتوهّم امتناع الترتّب من تلک الجهة؛ وهی طلب الجمع بین الضدّین.
فما هو وجه الاستحالة هنا؛ هو امتناع ترشّح الإرادتین من المرید الواحد الملتفت ، متوجّهتین إلی المتعلّقین غیر القابلین للجمع، مع کونهما فی عَرْض واحد.
وأمّا إذا کانا لا فی عَرْض واحد؛ بأن یکونا طولیّین، ویکون أحدهما فی رتبة عدم تأثیر الآخر، وعدم تحریکه نحو ما تعلّق به، فیکون وجود الآخر فی هذه الرتبة والظرف بلا مزاحم؛ إذ المفروض أنّ هذه الرتبة رتبة عدم تأثیر الأوّل، ورتبة خیبته عمّا قصد منه؛ أعنی داعویّته للمکلّف، وانبعاثه بذلک نحو العمل، وفی هذه الرتبة یکون المکلّف فارغاً وقادراً علی امتثال الأمر الثانی.
فالترتّب المصطلح علیه من أوضح الواضحات؛ فإنّ الأمر بالأهمّ ـ وهی الإزالة ـ وإن کان مطلقاً غیر مشروط بشیء، ولکنّ الأمر لیس علّة تامّة لوجود متعلّقه، وإنّما هو لإیجاد الداعی فینفس المکلّف، وتحریکه نحو المأمور به، حتّیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 483 یوجده باختیاره.
فإذا توجّه الآمر بعد إصدار الأمر بالأهمّ، إلیٰ أنّ المکلّف یمکن أن یمتثله، ویمکن أن یعصیه، وأنّ ظرف الفعل فی رتبة العصیان للأهمّ ، یکون فارغاً خالیاً من الفعل؛ بحیث لو لم یشغله المهمّ لکان خالیاً من الأهمّ والمهمّ کلیهما ، فلا محالة ینقدح فی نفسه إرادة البعث نحو المهمّ فی هذه الرتبة؛ حتّیٰ لایکون الظرف خالیاً من الواجب المشتمل علی المصلحة.
ولا مانع من انقداح الإرادة الثانیة حینئذٍ فی نفسه؛ لأنّ المفروض فینفسه خلو الزمان عن الأهمّ، وتمکّن المکلّف من امتثال المهمّ» انتهیٰ.
أقول: ما مرّ من الدلیلین کان من قبیل البرهان الإنّی علی الترتّب، وهذا وما یأتی من قبیل البرهان اللِّمی علیه. وکأنّ القائلین بالترتّب کان همّهم الفرار من العرضیّة بتصویر الطولیّة؛ وأنّ الضرورة قاضیة بأنّ مِن جعلِ عصیان أمرالأهمّ شرطاً لفعلیّة المهمّ، تحصل الطولیّة؛ ضرورة أنّ العصیان معنی متأخّر عن الأمر فی وجهٍ، والشرطَ معنی یتقدّم علی المشروط، فکیف یکون المشروط بالعصیان فی رتبة الأمر المتقوّم به العصیان؟! فإذن لایکون الأمران عرضیّین، فلا استحالة فی البین.
وأنت خبیر : بأنّ معضلة الترتّب لیست فی نفس العرضیّة، حتّیٰ ترتفع بالطولیّة العقلیّة، بل مشکلة الترتّب فی أنّ ما هو الحدّ المتوسّط المتأخّر رتبة عن أمر الأهمّ ، والمتقدّم رتبة علیٰ أمر المهمّ ـ وهو عصیان الأهمّ ـ لایعقل أن یتحقّق فیالرتبة، فإن کان هو ممّا یتحقّق فی الرتبة کان لما أفاده وجهاً وجه.
ولکن قد سبق: أنّ المعتبرفی فعلیّة الأمرالثانی، هو کون المکلّف بحیث ینتزع منه عنوان «العاجز عن امتثال الأهمّ» عجزاً لایعدّ عذراً، المعبّر عنه بـ «العصیان»
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 484 والعجز عن امتثال الأهمّ لایجتمع زماناً مع فعلیّة المهمّ؛ لأنّه فی زمان فعلیّة المهمّ قادر علی امتثال الأهمّ، وإذا کان قادراً لایعدّ عاجزاً، فلایکون عاصیاً، فلاتخلط.
التقریب الرابع : ما نسب إلی العلاّمة الأراکیّ قدس سره وتمام نظره رحمه الله إلیٰ أنّ تصویر الترتّب علی الوجه الرافع للمحذور العقلیّ، لایتوقّف علی القول باشتراط أمر المهمّ بعصیان الأهمّ، بل لنا تصویره علیٰ نعت الوجوب المعلّق.
وما أفاده فی تقریبه لایخلو من التأسّف والغرابة؛ لاشتماله علی المسافة البعیدة، والأکل من القفاء، ولذلک نذکره ببیان منّا؛ حتّیٰ یمکن نیله بأدنی التفات:
وهو أنّ الأمر بالأهمّ یدعو نحو متعلّقه علی الإطلاق ، ویکون مقتضاه لزوم إشغال الوقت بمادّته ومتعلّقه. ولو کان مقتضی الأمر بالمهمّ أیضاً ذلک للزم المحذور.
وأمّا إذا کان الأمر الثانی علیٰ نعت القضایا الحینیّة، ویکون القید ـ الذی باعتباره تکون القضیّة حینیّة ـ هو حال عصیان أمر الأهمّ، فإنّه من الحالات التی یمکن أن تتحقّق فی الخارج، ولا تکون هذه الحال داخلة فی مصبّ الأمر الثانی؛ وهو أمر المهمّ، ولاتحت دائرة طلب المهمّ، بل هی من قبیل القیود المفروض وجودها، فإذن یعقل أن یکون الجمع بین الضدّین مورد الطلب؛ لأنّ الطلب الأوّل یقتضی سدّ العصیان عقلاً، والطلبَ الثانی لایدعو نحوه، وبالنسبة إلیه یکون ساکتاً ، وعند ذلک یتحقّق الخطاب الثانی فی زمان الخطاب الأوّل، من غیر استلزام الاستحالة.
وبهذا البیان تندفع بعض الشبهات المتوجّهة إلیه، ولاسیّما ما یتوجّه إلیٰ تعبیره عن الطلب الأوّل بـ «الطلب التامّ» والطلب الثانی: بـ «الطلب الناقص» فإنّه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 485 لو کان صحیحاً، یلزم عدم التهافت بین المطلق والمقیّد فی صورة کون المطلق مراداً جدّاً بتمامه؛ فإنّ الطلب المطلق تامّ، والطلبَ المقیّد ناقص، وهکذا فی العامّ والخاصّ،وکما أنّ المطاردة بین العامّ والخاصّ وبین المطلق والمقیّد، ترتفع باستکشاف أنّ المطلق مورد الإرادة الإنشائیّة، کذلک لابدّ من ذلک هنا، وإلاّ یکون الطلب التامّ طارداً للناقص، وإن کان الناقص غیر طارد له، فلیتدبّر.
وما یتوجّه إلیه : «من أنّ الأمر بالشیء علی الإطلاق، یقتضی سدّ جمیع أعدامه المأتیّة من قبل إعدام مقدّماته، أو من قبل وجود أضداده» انتهیٰ، ومعنیٰ ذلک أنّ الأمر بالشیء یقتضیالنهی عن الضدّ العامّ، وهذا النهی ینحلّ إلی النواهی الکثیرة المتعلّقة بما یورثه، أو ینحلّ إلی النواهی المتعلّقة بالحصص الکثیرة من العدم المطلق، وقد مرّ فساد هذه الاقتضاءات، ولایرضیٰ هو بذلک، فلاتغفل.
أقول : والذی یسهّل الخطب؛ أنّ اهتمامه بتصویر الخطابین ـ علیٰ وجه لاتکون المطاردة فی البین ـ غیر کافٍ، ولایکفی مجرّد کون القضیّة الثانیة قضیّة حینیّة، ومن قبیل الواجبات المعلّقة؛ لأنّ الحال المأخوذ حیناً هو حال العصیان،وهو معناه حال العجز عن الأهمّ بسوء الاختیار، ولا شبهة فی أنّ فی تلک الحال ومقارناً معها، لابدّ من إمکان انتزاع عنوان «القادر» من المکلّف حتّیٰ یتوجّه إلیه الطلب الأوّل والأمر بالأهمّ.
وأنت إذا تأمّلت فی ذلک تعرف أنّ عنوان «القادر والعاجز» من العناوین المتقابلة، ولا یعقل انتزاعهما من الواحد، بالنسبة إلی الشیء الواحد، فی زمان واحد، والترتّب متقوّم بذلک حتّیٰ یکون أمر الأهمّ موجوداً، وأمر المهمّ أیضاً موجوداً،وإلاّ فإن انتزع منه عنوان «القادر» فقط، فلایکون الحین المعتبر لتوجیه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 486 الخطاب الثانی موجوداً.
وإن کان ینتزع منه عنوان «العاجز» فقط، فلایکون أمر الأهمّ متوجّهاً حینئذٍ، فلایتحقّق الترتّب؛ إمّا لأجل عدم تحقّق الترتّب، أو لأجل عدم تحقّق المترتّب علیه.
وإن کان ینتزع منه القادر فیالزمان الأوّل، والعاجز فی الزمان المتأخّر، فلایتحقّق الترتّب العقلیّ الذی هو المقصود هنا.
ولعمری، إنّ المسألة بعد ذلک ممّا لا غبار علیها، ولا شبهة تعتریها.
ومن هنا ینقدح : أنّ تنظیره بالمتساویین ملاکاً؛ بتوهّم أنّ التخییر حکم العقل، من غیر کون منشئه اشتراط وجوب کلّ بعصیان الآخر؛ إذ لازمه تأخّر کلّ واحد من الأمرین عن الآخر، ولا إلی اشتراط کلّ أمر بعدم وجود غیره؛ إذ لازمه أن لایقتضی کلّ أمر إیجاد مقتضاه حال وجود الآخر، بل منشؤه أنّ الطلب فی ظرف المزاحمة یقتضی سدّ جمیع أبواب العدم، إلاّ العدم الطارئ من إتیان ضدّه، لایخلو من تأسّف من جهات شتّیٰ، کما لایخفیٰ. مع أنّ هذا لیس من الترتّب الاصطلاحیّ.
وبالجملة: إنّه قدس سره قد تصدّیٰ لتصویر الأمرین الفعلیّین العرضیّین زماناً، من غیر کون أحدهما مترتّباً علی الآخر؛ لانتفاء الاشتراط الذی هو أساس الترتّب عقلاً، فلایکون أمر المهمّ تنجّزه مترتّباً علیٰ ترک الأهمّ فی ظرفه؛ سواء کان ترکاً ینتزع منه العصیان،أوترکاً لاینتزع منه العصیان.
ولکنّک عرفت : عدم إمکان اندفاع عویصة المسألة بذلک، فلاحظ وتدبّر جیّداً، وسیأتی زیادة بیان ینفعک إن شاء الله تعالیٰ.
التقریب الخامس : أنّ الإطاعة والعصیان فیالاعتبار، متأخّران عن الأمر، ولایجتمعان معه فی الرتبة؛ ضرورة أنّ الإطلاق اللحاظیّ بالنسبة إلیهما غیر ممکن؛
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 487 أی لایعقل أن یلاحظ الآمر إیجاب الإزالة سواء اُطیع أمره أو عصی، بل مع الإطاعة لا أمر، ومع العصیان لابقاء لاقتضائه.
فهذا کاشف عن تأخّرهما عنه، من غیر الحاجة إلیٰ إثبات معیّة العصیان فی رتبة الإطاعة المتأخّرة عن الأمر، حتّیٰ یتوجّه إلیه: بأنّ ما مع المتأخّر رتبة لایکون متأخّراً.
فإذن ترتفع غائلة الترتّب، وتوهّم استلزامه الجمع بین الضدّین، بل یمتنع عند ذلک هذا الاستلزام. ونسبة هذا إلی العلاّمة المحشّی الأصفهانیّ قدس سره فی غیر محلّه ظاهراً؛ لأنّه تعرّض له، ونفیٰ صحّته.
أقول : لسنا بصدد ذکر جمیع نقاط ضعف هذه التقاریب، والإشکالات المتوجّهة إلیها،والخلطات الواقعة فیها؛ من توهّم الرتب العقلیّة بین الاعتباریّات، بل نظرنا إلیٰ أنّ مشکلة الترتّب لاتنحلّ بمثله، کما عرفت مراراً.
التقریب السادس : ما أفاده العلاّمة المحشّی الأصفهانیّ قدس سره : «وهو أنّ الأمر بالإضافة إلیٰ متعلّقه، من قبیل المقتضی بالإضافة إلیٰ مقتضاه، فإذا کان المقتضیان المتنافیان فیالتأثیر لا علی تقدیر، وکان الغرض من کلّ منهما فعلیّة مقتضاه عند انقیاد المکلّف له، فلا محالة یستحیل تأثیرهما وفعلیّة مقتضاهما وإن کان المکلّف فی کمال الانقیاد.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 488 وإذا کان المقتضیان مترتّبین؛ بأن کان أحد المقتضیین لا اقتضاء له إلاّ عند عدم تأثیر الآخر، فلا مانع من فعلیّة مقتضی الأمر المترتّب، وحیث إنّ فعلیّة أصل اقتضاء المترتّب، منوطة بعدم تأثیر المترتّب علیه، فلا محالة یستحیل مانعیّته عن تأثیر الأمر المترتّب علیه؛ إذ ما کان اقتضاؤه منوطاً بعدم فعلیّة مقتضی سبب من الأسباب، یستحیل أن یزاحمه فیالتأثیر، ولا مزاحمة بین المقتضیین إلاّ من حیث التأثیر، وإلاّ فذوات المقتضیات بما هی لاتزاحم بینها» انتهیٰ بألفاظه مع تصحیح.
أقول : هذا هو ما سمعت من السیّد البروجردیّ قدس سره ولایبعد أن یکون نظره الشریف إلیٰ أنّ بالتقیید الحاصل عقلاً بالنسبة إلی المهمّ، یرتفع الإشکال؛ سواء کان ترتّب اصطلاحاً، أم لم یکن ترتّب، وسواء کان بنحو الشرطیّة، أو بنحو الحینیّة. وإنّی لست فی موقف المناظرة معه فی جزئیّات کلامه، ولکنّک تعرف قصور هذا التقریب أیضاً عن حلّ المعضلة التی قرّبناها علی الترتّب، وذکرناه غیر مرّة.
التقریب السابع : وربّما یمکن توهّم أنّ نظره ونظر العلاّمة الأراکیّ، إلیٰ إثبات الترتّب حال العصیان، وحال ترک الأمر بالأهمّ وإن لم یکن عصیان، وإذا صحّ الترتّب حال ترک المأمور به بالأمر الأوّل، صحّ حال عصیانه؛ لعدم دخالة علم المکلّف وجهله فیما یریده الآمر والشرع.
بیانه : أنّه إذا کان العبد مأموراً بالأمر الأوّل وأمر الأهمّ، وکان جاهلاً بذلک، واشتغل بالصلاة فی أوّل الزوال وفی زمان فعلیّة أمر الأهمّ، فهل تجد قصوراً فی إمکان تحقّق الإرادتین معاً زماناً، مع کون الثانیة متوجّهة إلیه، وتکون هی المنجّزة دون الاُولیٰ؛ لتحقّق شرط الثانیة والاُولیٰ؟!
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 489 أمّا شرط الثانیة ، فهو کونه تارک الأمر الأوّل فی أوّل الزوال.
وأمّا شرط الاُولیٰ، فهوکونه قادراً. ولایضرّ جهله بفعلیّة التکلیف، وإن یضرّ بتـنـجّـزه.
فإذا صحّ ذلک، فکیف یعقل أن یکون علم المکلّف بالأمر الأوّل، موجباً لامتناع تحقّقهما علی الوجه الذی قد تحقّقتا فی حال الجهل، مع أنّ علمه لایفید إلاّ صحّة العقوبة والتنجّز، ولا مدخلیّة له فی الفعلیّة؟!
وهذا التقریب من مبدعاتنا لحلّ مشکلة الترتّب، فلاتغفل.
وبعبارة اُخریٰ : لایکون الشرط حال الجهل عصیان الأهمّ، بل الشرط ترک الأهمّ، فلایلزم المحذور المزبور.
أقول : لایمکن الفرار من المحذور؛ ضرورة أنّ مجرّد الترک لایکفی ، لأنّ الترک الباقی معه الأمر بالأهمّ بشخصه لا بسنخه، غیر کافٍ، ولیس شرطاً، بل ماهو الشرط أو اُخذ حیناً هو الترک الخاصّ؛ أیالترک الملازم للعجز المضرّ بفعلیّة الأهمّ، وإذا تحقّق ما یضرّ بفعلیّة الأهمّ فی الآن الأوّل وفی أوّل الزوال، یتحقّق تنجّز المهمّ أو فعلیّته وتنجّزه،وما هو إلاّ العجز المقارن مع القدرة بالنسبة إلی الشیء الواحد فی زمان واحد، کما سبق.
التقریب الثامن : ما أفاده العلمان؛ شیخ مشایخنا العلاّمة الحائریّ جدّ أولادی، والعلاّمة النائینیّ وتبعهما جمع من تلامذتهما. وقد مهّدوا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 490 ـ تبعاً لاُستاذهما السیّد الفشارکیّ قدس سرهـ مقدّمات عدیدة، بین ماهی الناقصة، وبین ما لا مدخلیّة لها فی مهمّة المسألة، ونحن نشیر إلیها فی ضمن مقدّمة، مع اختلافهما فی تصویرها:
وهی أنّ الأمر بالأهمّ لا شبهة فی إطلاقه، کما لاشبهة فی أنّ زمان عصیان الأمر وزمان إطاعته، متّحدان مع زمان فعلیّة الأمر؛ ضرورة أنّ العصیان والإطاعة متأخّران عن الأمر تأخّراً بالرتبة. هذا حول الأمر بالأهمّ.
وأمّا الأمر بالمهمّ، فلاشبهة فی عدم إمکان انحفاظ إطلاقه؛ لما أنّ من إطلاقه یلزم المحذور المزبور ، فلابدّ من الخروج عن إطلاقه بالتقیید والاشتراط.
وحیث إنّ القضایا الشرطیّة حسبما تحرّر، ترجع إلی القضایا البتّیة؛ لرجوع الشروط المأخوذة فی الأدلّة إلیٰ عناوین الموضوعات، وذلک قضاءً لحقّ ما سبق: من أنّ القضایا الشرعیّة قضایا حقیقیّة، وتکون الأحکام ـ حسب الموضوعات المأخوذة فی القضایا الحقیقیّة ـ فعلیّة، إلاّ أنّها لاتخرج بذلک عن الشرطیّة؛ ضرورة أنّ کلّ حکم بالنسبة إلیٰ موضوعه محدَّد ومشروط. وما توهّم من انقلاب الشرطیّة إلی المطلقة بعد تحقّق الشرط باطل.
فإذا تبیّن ذلک، فلابدّ من جعل موضوع الأمر بالمهمّ عنوان «العاصی» فیکون موضوع دلیل الأهمّ عنوان «القادر».
وعلیٰ هذا ، وإن لم یکن بین الأمرین ـ الأمر بالأهمّ والأمرّ بالمهمّ ـ ترتّب؛ لأنّ الترتّب هو کون أحدهما علّة للآخر، أو فی حکم العلّة، ولا شبهة فی أنّ الأمر بالأهمّ لیس علّة، ولا من شرائط علّة تحقّق المهمّ، ولکن هنا نحو ترتّب آخر؛ فإنّ الأمر بالأهمّ وعصیانه فی زمان واحد، والأمرَ بالمهمّ وشرطه أیضاً فی ذلک الزمان؛ لأنّ شرطه هو العصیان، فما هو موضوع الأمر بالمهمّ زمانه مع زمان الأمر بالأهمّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 491 واحد، إلاّ أنّ تقدّم الشرط والموضوع علی الحکم، وتأخّر العصیان عن الحکم، یستلزم طبعاً تقدّم الأهمّ علی المهمّ علی المهمّ، لا تقدّماً بالترتّب، ولکن لایلزم من اجتماعهما التهافت، وطلب الجمع بین الضدّین.
وإن شئت قلت : لسنا فی مقام إثبات مفهوم الترتّب، بل النظر إلیٰ أنّ من تقیـید إطلاق المهمّ، لایلزم طلب الجمع بین الضدّین، سمّی ذلک «ترتّباً» أو لم یسمّ به، فلاتخلط.
فالترتّب المزبور وإن کان مورد المناقشة، ولکنّه لأجل هذه النکتة یرفع الغائلة من البین.
وحیث إنّ القدرة التی تکون مأخوذة موضوعاً لأمر الأهمّ، معناها أنّ کلّ ماهیّة تحت الاختیار فعلاً وترکاً، ولایرجع ذلک إلیٰ أنّ بإعمال القدرة فی طرف، وترجیح أحد جانبیها علی الطرف الآخر، یخرج الطرف الآخر عن تحت القدرة، فلایکون عنوان «القادر» الموضوع لأمر الأهمّ ساقطاً حال العصیان، فما هو شرط فعلیّة الأهمّ متّحد زماناً مع ما هو شرط فعلیّة المهمّ؛ وهو عنوان «العاصی».
فعلیٰ هذا، اتحد زمان فعلیّة الأمر بالأهمّ، وعصیانه، وزمان تحقّق شرط المهمّ، وفعلیّته،وعصیانه، وتلک الأزمنة الخمسة واحدة خارجاً، مع اختلاف الرتب بین هذه الاُمور الزمانیّة.
وإن شئت قلت بتعبیر منّا: کما أنّ بعضاً ممّا سلف کان ـ بتقریب منّا ـ أنّ الوجدان قاضٍ بعدم التهافت بین الآمر المنادی بقوله: «اترک عصیان الأهمّ» وبین الآمر المنادی بأنّه «أیّها العاصی صلّ» فهل تریٰ فی نفسک بعد ذلک شیئاً؟!
أقول: یتوجّه إلیهم مضافاً إلیٰ أنّ المعضلة التی وجّهناها إلیٰ أرباب الترتّب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 492 باقیة بحالها؛ ضرورة أنّ عنوان «العاصی» وعنوان «القادر» لایجتمعان؛ لأنّ عنوان «العاصی» معناه العاجز عن الأهمّ، وعن امتثاله، وتطبیقه علی الوقت المضروب له، أوتطبیقه علی الکیفیّة المأخوذة فی الدلیل؛ وهی الفوریّة مثلاً، فلو کان عنوان «القادر» باقیاً حال عنوان «العاصی» یلزم کون الأهمّ مورد القدرة ومورد العجز، وهو محال بالضرورة ، وابقاء عنوان «القادر» حال تحقّق عنوان «العاصی» معناه ذلک، فلاتخلط.
أنّ الالتزام بمعیّة عنوان «القادر» مع «العاصی» غیر ممکن؛ لأجل أنّ إعمال القدرة فی أحد الطرفین، لا معنی له إلاّ بالإرادة، وإلاّ فنسبة الشیء إلی القدرة بالإمکان دائماً، فیخرج الفعل بالإرادة من أحد الطرفین إلی الطرف المعیّن، فإذن یصیر الشیء واجباً بالغیر ویوجد؛ فإنّ الشیء مالم یجب لم یوجد، کما تحرّر عند أهله، ومن أنکر هذه القاعدة فهو لأجل جهله بالعقلیّات، وکفیٰ به عذراً.
هذا مع أنّ کثیراً من تلک المقدّمات مخدوشة، ولاسیّما مسألة رجوع الشرط إلیٰ عنوان الموضوع، وأسوأ حالاً من ذلک توهّم: أنّ القضایا الشرطیّة لأجل ذلک، لاتخرج عن الشرطیّة إلی الإطلاق، وسیأتی أنّ هذا التقریب وغیره ، لاینحلّ به مشکلة طلب الجمع بین الضدّین، فضلاً عن هذه العویصة إن شاء الله تعالیٰ.
ولعمری، إنّ العلاّمة النائینیّ قدس سره کان تمام همّه حول حفظ القضیّة الشرطیّة علیٰ حالها بعد تحقّق الشرط، غافلاً عن أنّ الأمر کذلک ولکن تنجّز القضیّة الشرطیّة بتحقّق موضوعها، وإذا تحقّق الموضوع فکیف یمکن الجمع بین الأمرین المتنجّزین المختلفین فی الاقتضاء؟!
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 493 مثلاً: هل تریٰ فی نفسک صحّة قول المولیٰ لأحد، مع القدرة الواحدة، بعنوان القادر عقلاً: «أدِّ دینک» وبعنوان المستطیع : «حجّ» أم مجرّد کون القضیّة الثانیة شرطیّة لایکفی لإمکان الجمع بین الخطابین فی زمان واحد؟!
وهکذا فیما نحن فیه، هل یمکن أن یخاطبه بقوله له: «أزل النجاسة عن المسجد» وبقوله فی زمان التکلیف الأوّل: «أیّها العاصی، صلّ مع تحقّق العصیان ووجود الأمر الأوّل» أم یلزم کون التکلیفین متهافتین؛ فإنّ اجتماع موضوع الأهمّ وهو «القادر» وموضوع المهمّ وهو«العاصی» معناه توجّه الإرادتین المنجّزتین المختلفتین فی الاقتضاء فی زمان واحد؟! وسیمرّ علیک زیادة تحقیق من ذی قبل إن شاء الله تعالیٰ.
ولو سلّمنا إمکان اندفاع غائلة طلب الجمع، فما هو أسّ الغائلة وأساسها غیر قابل للدفع، وهم غیر متوجّهین إلیه، وإلاّ فما کان لأحد من أرباب العلم والفضل، توهّم صحّة الترتّب جدّاً.
وبالجملة : مقتضیٰ هذا التقریب تثبیت الشبهة المزبورة؛ لأنّ أربابه قد تصدّوا لإثبات أنّ موضوع الأهمّ هو«القادر» وموضوع المهمّ هو «العاصی» غافلین عن أنّهما غیر قابلین للجمع فی زمان واحد، بالنسبة إلیٰ شیء واحد، فافهم واغتنم.
التقریب التاسع : موضوع الأدلّة الشرعیّة لیس عنوان «القادر» خلافاً لما توهّمه جمع، بل موضوعها ما هو المأخوذ فی نفسها؛ من عنوان «النّٰاس» و«المؤمن» وغیر ذلک.
نعم، قد خرج منها حسب الدلیل اللبّی، عنوان «العاجز» لامتناع توجیه الخطاب إلیه، ولایلزم من ذلک محذور.
ومقتضیٰ ذلک هو الاشتغال عند الشکّ فی القدرة؛ حسب ما تقرّر فی العامّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 494 والخاصّ: من أنّ فی الشبهات المصداقیّة للمخصّص اللبّی، یتمسّک بالعمومات.
فعلیٰ هذا، لایلزم هنا محذور؛ لأنّ تمام الشبهة والعویصة کانت حول انتزاع العنوانین المتقابلین وهما «القادر والعاصی» ـ علی التفسیر الذی عرفت منّاـ من المکلّف الواحد، فی الزمان الواحد، بالنسبة إلیٰ شیء واحد، وإذا لم یکن عنوان «القادر» موضوع دلیل الأهمّ، بل کان موضوعه عنوان «النّٰاس» فلایلزم المحذور المزبور بالضرورة. وهذه الشبهة کانت تتوجّه إلیٰ مقالة من یعتبر عنوان «القادر» موضوعاً فی الأدلّة الشرعیّة.
فعلیٰ هذا، لایلزم من تقیید إطلاق أمر المهمّ محذور؛ لا محذور طلب الجمع بین الضدّین، ولا المحذور المزبور.
أقول أوّلاً : مقتضیٰ هذا عدم انحلال الشبهة؛ بالنسبة إلیٰ صورة وقوع التزاحم بین الدلیلین اللّذین یکون الأهمّ منهما موضوعه «الاستطاعة والقدرة» کما لایخفیٰ.
وثانیاً : قد أشرنا فیأوائل تقریب هذه الشبهة والعویصة: إلیٰ أنّ تمام الإشکال ناشئ من أخذ العصیان شرطاً لفعلیّة المهمّ، مع أنّ بالعصیان ینتهی أمد الإرادة بالنسبة إلی الأهمّ؛ لأنّ العصیان حقیقته ـ علیٰ ماعرفت ـ تعجیز العبد نفسه عن إمکان القیام بالتکلیف؛ عجزاً لایعدّ عذراً، ومع العجز لایعقل بقاء التکلیف حسب اتفاقهم علیه.
فعلیٰ هذا، کیف یمکن الجمع بین تکلیفیّ الأهمّ والمهمّ فیالفعلیّة، مع کون ما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 495 هو شرط فعلیّة المهمّ، کاشف عن انتفاء فعلیّة الأهمّ بانتهاء أمد الإرادة؟!
وحیث إنّ ماهو الشرط هو العصیان الخارجیّ، والطغیان بوجوده الاعتباریّ فی الخارج، بل ولو کان العصیان أمراً انتزاعیّاً، فلابدّ من تحقّق منشأ انتزاعه فی الخارج؛ حتّیٰ ینتزع منه، ومعنیٰ ذلک هو تحقّق عجز العبد ـ خارجاً ـ عن امتثال الأهمّ، فالمکلّف بشروعه فی الصلاة یحقّق العصیان، أو منشأ انتزاعه، ولکن بذلک یذهب بالأهمّ، ویأتی بالمهمّ، فکیف یجتمعان فی زمان واحد، مع أنّ المقصود اجتماعهما فی زمان واحد؟!
نعم، یتّحد زمان فعلیّة المهمّ، وزمان انتفاء الأهمّ، وزمان تحقّق شرط المهمّ، وزمان ما به یعلم انتفاء الأهمّ؛ وهو العصیان، وإذا کان بین زمان فعلیّة المهمّ وزمان انتهاء أمد الأهمّ وحدة، فکیف یعقل اتحاد زمان اجتماعهما؛ للزوم الجمع بین المتناقضین: وهما وجود الأهمّ، وعدم الأهمّ؟!
أمّا وجود الأهمّ، فلأنّه مدّعی الترتّبی.
وأمّا عدم الأهمّ؛ فلأنّه معنیٰ تحقّق شرط المهمّ، فافهم وتأمّل؛ فإنّ الأمر بعد ذلک کلّه ممّا لا خفاء فیه.
إن قلت : «عصیان الأهمّ» عنوان، و «الشروع فیالعصیان» أو«حال العصیان» عنوان آخر، وماهو الشرط هو حال العصیان، لا العصیان، وما یلزم منه المحذور هو الأوّل، دون الثانی.
قلت : إن کان معنیٰ «حال العصیان» یرجع إلیٰ إمکان أن لایعصی العبد بعدُ بالرجوع والعود، فلایکون الشرط ـ وهو حال العصیان ـ متحقّقاً.
وإن یرجع إلیٰ عدم إمکان ذلک فهو متحقّق، ولیس وراء العصیان أمر یسمّیٰ «حال العصیان» فالأمر علیٰ هذا لایخلو من أحد الفرضین. وعلیٰ کلّ لایتمّ المطلوب.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 496