معنی الوجوبین النفسیّ والغیریّ
إذا تبیّن لک هذا المجمل فاعلم : أنّ الوجوب النفسیّ والغیریّ، مشترکان فی أصل الوجوب، وممتازان فی خصوصیّة النفسیّة والغیریّة، فما هو الوجوب وما هی الجهة المشترکة، فهل هی الحکم وهو الأمر الاعتباریّ العقلائیّ المنتزع من البعث، کما اختاره الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فعلیه یکون الوجوب النفسیّ ماهو المبعوث إلیه بالبعث الذی لایکون فوقه بعث آخر، أو لایکون لأجل المبعوث إلیه الآخر، والغیریّ ماهو کذلک؟
أو الوجوب یعتبر من البعث بما أنّه کاشف عن الإرادة الموجودة فی نفس الآمر، فإذا کان بهذا اللحاظ یعتبر الوجوب، فلایکون المقسم هو الحکم، بل المقسم أعمّ من الحکم ومن الإرادة البارزة بغیر هیئة البعث. بل لو ظهرت تلک الإرادة بمظهر آخر، فهو أیضاً ینتزع منه الحکم؟
بل وإذا اطلع الإنسان علیٰ تلک الإرادة فی نفس المولیٰ، فیعتبر الوجوب واللزوم، ویجد المعنی القابل للانقسام إلی النفسیّ والغیریّ، لا بشخصه، بل بنوعه، بل لو اطلع علی مرام المولیٰ ومقصوده، أیضاً یکون الأمر کذلک، ویکون هذا أیضاً مثل ذاک، ولکن لا بالمعنی الذی اُشیر إلیه؛ وهو المقصود الذاتیّ.
بل لو اطلع علیٰ مقصود المولیٰ منه؛ أی من العبد، وهذا غیر المقصود الذاتیّ، فإنّه ـ أی هذا المقصود والمطلوب منه ـ أیضاً نفسیّ. ویمکن أن یکون غیریّاً بالوجه الذی اُشیر إلیه. وهذا الأخیر ـ أی ماهو مقسم الوجوب النفسی والغیریّ ـ هذا، لا ذاک.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 134 نعم، مفهوم الحکم ربّما لاینتزع إلاّ بعد البعث، ومفهوم الوجوب أوسع منه، وینتزع من الإرادة الموجودة غیر المظهرة لمانع، ولکن النفسیّة والغیریّة تردان علی المعنی الأعمّ؛ وهو المطلوب والمقصود المضاف إلی العبد. فعند ذلک یظهر ضعف ما قیل أو یقال فی هذه المقالة.
ولمّا کان صدق مقالتنا یظهر من توجیه المتعلّمین إلیٰ مثال، فإنّ فی ذلک برهاناً وإرشاداً وتنبیهاً للوجدان، فنقول: فی الموالی العرفیّة إذا أراد المولیٰ تأسیس بناء مسجد، فلا شبهة فی أنّ غرضه الذاتیّ، ربّما ینجرّ إلی الوصول إلیٰ تلک المقامات التی أشرنا إلیها، ولکنّه ـ تبعاً لغرض تأسیس البناء، واحتیاج البناء إلی الخدّام والعمّال ـ تارة: یأمر المهندس بإیجاد خریطة المسجد.
واُخریٰ : یأمر المعمار برسم هذه الخریطة علی القاع المهیّأة للمسجد.
وثالثة : یأمر البنّاء ببناء المسجد.
ورابعة : یأمر السائق بجلب موادّ البناء للمسجد.
وخامسة : یأمر صانع الطابوق بطبح الطابوق للمسجد.
وسادسة : یأمر العمّال بمعاونة البنّاء فی أمر المسجد وبنائه.
وسابعة : غیر ذلک.
فإذا نظرنا إلی المولی البانی لبناء المسجد، فلانجد منه إلاّ الأوامر النفسیّة متوجّهة إلی الأشخاص المختلفین، وعلیٰ کلّ واحد منهم یجب امتثال الأمر المتوجّه إلیه؛ لأنّه طلب منه شیئاً وبعثه نحوه، من غیر کون هذا البعث فی هذا اللحاظ بالنسبة إلیٰ هذا العامل غیریّاً؛ لأنّ الغیریّ هو البعث أو الإرادة المترشّحة أو المتولّدة منه متوجّهة إلیه علیٰ مقدّمات ماهو المبعوث إلیه.
ففی المثال المزبور، کان قد أمر صانع الطابوق بصنعة الطابوق، وهذه الصنعة متوقّفة علیٰ مقدّمات وشرائط وجودیّة، وتلک المقدّمات والشرائط إذا کانت مورد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 135 الإرادة والبعث، یکون من البعث الغیریّ، ولایصحّ عتاب صانع الطابوق بـ «أنّک لِمَ ما اشتریت التراب حتّیٰ تتمکّن من تسلیم الطابوق» لأنّه أمر غیریّ ومطلوب غیریّ بالنسبة إلیه، وماهو المطلوب النفسیّ منه ویصحّ العقاب والعتاب علیه، تسلیم الطابوق وطبخه، وهکذا بالنسبة إلی المهندس والمعمار.
فالنفسیّة والغیریّة إضافیّتان، فیمکن أن یکون الشیء الواحد نفسیّاً بالنسبة إلیٰ شخص، وغیریّاً بالنسبة إلیٰ شخص آخر.
ثمّ إنّه بعدما عرفت ذلک، فإن علمنا من المولیٰ إرادة الخریطة من المهندس... وهکذا إلیٰ آخر ما مرّ، ولکن لم یظهر تلک الإرادة، فإنّه یصحّ العقوبة علی المرادات النفسیّة، ولایصحّ علی الغیریّة، وینقسم المراد إلی النفسیّ والغیریّ، وإن لم ینقسم الوجوب والحکم؛ لتقوّمهما بالظهور بأیّ مظهر کان مثلاً.
وهکذا إذا کان المولیٰ نائماً، ولکن فهمنا من الخارج تعلّق غرضه ببناء المسجد، وتعلّق غرضه بالنسبة إلیٰ زید لهندسة المسجد، وإلیٰ عمرو لمعماریّة المسجد... وهکذا، یجب الاتباع، ویصحّ التقسیم، ویحصل النفسیّ والغیریّ أیضاً، فافهم واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 136