شبهات وتفصّیات
الشبهة الاُولیٰ : قد عرفت من «الکفایة» الشبهة فی أنّ هذا التقسیم لا أثر له، ولایترتّب علیه الثمرة، وبذلک أیضاً صرّح الاُستاذان البروجردی والخمینیّ ـ عفی عنهما :
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 119 فقال الأوّل : «إنّ الالتزام بالشرط المتأخّر والوجوب المتقدّم، کافٍ لترتّب ثمرة الخلاف بین المعلّق والمنجّز.
والثانی یقول: «إنّ التقسیم صحیح، ولکنّه عادم الثمرة بالنسبة إلی المقدّمات المفوّتة التی أثبت وجوبها».
وأنت فی سعة من حلّ هذه الشبهة؛ لما مرّ من أنّ الوجوب المشروط بالمتأخّر، وإن أمکن علیٰ نحو ما ذکرناه، ولکنّه یستلزم بعد ثبوت فعلیّته عدم جواز إعدام الشرط المتأخّر، وعدم جواز الفرار من القید الآتی مثلاً؛ إذا کانت الصلاة قبل الوقت واجبة بالوجوب الفعلیّ المنجّز، فلایجوز للمکلّف الفرار من الزوال إذا تمکّن؛ لأنّ الإرادة الحاصلة لذی المقدّمة علی الإطلاق، تدعو إلیٰ تحصیل المقدّمة والشرط المتأخّر.
ومن عجیب ما أفاده قدس سره: «من أنّ التکلیف مشروط بالقدرة، وهی تحصل حین الامتثال، فالمشروط مقدّم علیٰ شرطه»!!
وأنت قد عرفت سابقاً: أنّ صدور الإرادة الجدّیة من المولیٰ، مشروط بعلم المولیٰ بحصول القدرة، لا بالقدرة الواقعیّة.
نعم، القدرة الواقعیّة تنجّز التکلیف، والعجز الواقعیّ یعذّر العبد، فلاتخلط.
وأمّا إیجاب المقدّمات المفوّتة فی الوجوب المشروط، فهو غیر ممکن؛ لما عرفت : من أنّ اعتبار الوجوب المشروط، متقوّم بأنّ المولی یرید تسهیل العبد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 120 بالنسبة إلیٰ تحصیل المقدّمات قبل تحقّق الشرط، فإذا کانت الصلاة واجبة مشروطة بحسب الدلیل الإثباتیّ، فلابدّ من عدم وجوب مقدّماته علی الإطلاق وإن علمنا بحصول الشرط.
نعم، إذا علمنا من دلیل منفصل ـ کالإجماع ونحوه ـ بوجوب المقدّمات فی خصوص الصلاة مثلاً، فیعلم من ذلک أنّ الشرع ألغیٰ ظاهر القضیّة، ولاحظ الوجوب بحسب اللبّ؛ وهو الوجوب المعلّق، فإیجاب المقدّمات لأجل اعتبار الوجوب المعلّق، کما تحرّر تفصیله.
الشبهة الثانیة : لو سلّمنا الوجوب المعلّق ثبوتاً، ولکنّه غیر ممکن إثباتاً، بل هو فی جمیع القضایا ـ شرطیّة کانت، أو حینیّة ـ یکون من الوجوب المشروط.
وبعبارة اُخریٰ: الوجوب المشروط بحسب اللبّ معلّق، والوجوب المعلّق بحسب مقام الاستعمال مشروط؛ وذلک لأنّ البعث یکون فی القضیّة المشروطة، غیر حاصل إلاّ بعد تحقّق الشرط، ولایکون مفاد الهیئة فی القضیّة المشروطة مفاداً إنشائیّاً حتّیٰ یصیر فعلیّاً، بل کما أنّ الهیئة لاتستعمل فی معناها قبل تحقّقه، کذلک الأمر هنا فی قولک: «صلّ حین الزوال» ضرورة أنّ هیئة «صلّ» موضوعة للمعنی الجزئیّ، أو لابدّ أن تستعمل فی الجزئیّ.
فإذا لایکون شرائط الانبعاث موجودة، فلا بعث فعلیّ، ولا وجوب فعلیّ، حتّیٰ یقال: بأنّ الواجب استقبالیّ، فتلک الشبهة التی أوردتم علی الوجوب المشروط الذی ذکره الجمهور، یرد علیکم هنا، فلاتغفل.
أقول : إنّ من شرائط استعمال الهیئة فیما هو وضعت له، انبعاث العبد عقیب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 121 البعث، حتّیٰ یقال: بأنّ البعث مطلقاً لایکون علّة الانبعاث، بل الانبعاث معلول المبادئ الاُخر النفسانیّة، وفی صورة العصیان وترک الطاعة، یلزم أن لایکون بعث، بل باعثیّة الهیئة لابدّ وأن تکون من قبل المولیٰ، بالغةً إلیٰ حدّ الفعلیّة، ولایکون هناک حالة انتظاریّة من قبل القانون، کما فی الوجوب المشروط.
وما نحن فیه تقصر الهیئة عن إفادة البعث؛ لأخذ القضیّة حینیّة، فالقضیّة الحینیّة ترجع إلی الشرطیّة حسب الاستعمال، فلایتصوّر البعث الفعلیّ هنا؛ لأنّه إذا کان البعث فعلیّاً فی الوجوب المعلّق، فلابدّ وأن ینبعث العبد نحو المادّة؛ إذا کان شرائط الانبعاث فی نفس المخاطب موجودة، مع أنّه لاینبعث نحو المطلوب ولو کان المخاطب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .
وهذه الشبهة لاتختصّ بمسلکنا فی الوجوب المشروط، بل یشترک فیها الجمهور أیضاً؛ لأنّه إذا کان مفاد الهیئة بعثاً فعلیّاً غیر مشروط واقعاً، فلأیّة جهة لاینبعث نحو المادّة المخاطبُ والمکلّف المنقاد لمولاه، وهل هذا إلاّ لأنّه لیس بعثاً فعلیّاً، بل مشروط؟!
وهذا من غیر فرق بین کون القضایا حقیقیّة، أو خارجیّة، أو شخصیّة، فلا یتصوّر البعث الفعلیّ وإن کانت الإرادة فعلیّة، والطلب فعلیّاً بحسب اللبّ والثبوت.
أقول : أمّا الشبهة فیمکن الذبّ عنها علیٰ مسلک من یقول: باستعمالها فی البعث الفعلیّ نحو المتأخّر، ولایلزم من ذلک قصور فی مفاد الهیئة، ولا کونها موضوعة لأمر کلّی عامّ، أو أنّ الموضوع له عامّ وکلّی، وهکذا المستعمل فیه؛ وذلک لأنّ القید المأخوذ فی القضیة الشرطیّة قید البعث، ویصیر لأجله وجوباً مشروطاً، والقیدَ المأخوذ فی القضیّة الحینیّة قید الانبعاث، فیکون البعث مطلقاً وفعلیّاً.
وأمّا عدم انبعاث المکلّف عقیب هذا البعث الفعلیّ؛ فلعدم تحقّق ذاک الحین؛
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 122 وهو الزوال والاستطاعة. والقصور فی باعثیّة الأمر، کأنّه من قبیل القصور المتصوّر فی العاصی، لا من قبیل القصور المتصوّر من قبل القانون واعتبار الشرط.
ولایمکن الذبّ عنها علیٰ مسلکنا. نعم، ولکن لنا أن نقول: بأنّ المولیٰ إذا کان ذا مرام؛ وهو الصلاة مع الستر، فإن أفاد ذلک المراد بقوله: «صلّ مع الستر» فیعلم منه وجوبه المنجّز.
وإذا أفاده مرامه بقوله : «صلّ إن کان الستر موجوداً» فیعلم منه أنّه فی مقام تسهیل الأمر علی العباد، ویکون الوجوب مشروطاً.
وإذا أفاد مرامه بقوله: «صلّ حین وجود الستر» فیعلم منه أنّه فی مقام إفادة الأمر الثالث، وفی موقف إبراز مرامه علیٰ وجه آخر بین الوجهین؛ وهو الوجوب الفعلیّ مع عدم إیجاب الستر کالأوّل، ومع عدم مراعاة التسهیل بحسب مقدّمات الوجود کالثانی، وإن کان لایمکن لنا ـ حسب النظر العلمیّ ـ استعمال الهیئة فی معناها الموضوع له، ولکن تلک الهیئة فی تلک الجملة تفید مرامه ومسلکه، وتبرز مقصوده وأمله، وهذا هو المتّبع، فافهم واغتنم جیّداً.
الشبهة الثالثة : إنّ القید الذی فرضه صاحب «الفصول» قیداً للواجب، إنّما هو غیر اختیاریّ کالزمان، وهذا لایمکن توجّه التکلیف والطلب إلیه؛ لأنّه غیر مقدور، فلابدّ من أخذه مفروض الوجود، ومعه یعود القید إلی الحکم والوجوب، دون المادّة، ومتیٰ کان کذلک استحال تحقّق الوجوب قبل تحقّق القید؛ بناءً علیٰ ما تقرّر وتقدّم من استنحالة الشرط المتأخّر، فعلیه فالوجوب منحصر بین مشروط ومطلق، ولا ثالث.
وأنت خبیر بما فیه أوّلاً: أنّ هذا التقریب لایفی باستحالة الوجوب المعلّق
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 123 بالنسبة إلی القید الممکن تعلّق التکلیف به. بل غیر خفیّ أنّه لو أمکن، وتعلّق به التکلیف، لخرج عن الوجوب المعلّق، فکأنّه قدس سره لم یصل إلیٰ مغزی المرام فی الوجوب المعلّق؛ حسب ما قرّره بعض تلامیذه.
وثانیاً : لیس القید فی الوجوب المعلّق مورد التکلیف، بل التقیّد مورد التکلیف، وهو ممکن التحصیل؛ ضرورة إمکان إیجاد الصلاة بعد الزوال وإن لم یمکن جرّ الزوال إلیٰ ما قبله.
فبالجملة : القید المأخوذ فی الدلیل بنحو القضیّة الحینیّة ـ أی اُخذ القید خارجاً عن مصبّ الأمر ـ لایجب تحصیله، ولکن عدم وجوب تحصیله، لایستلزم کون الحکم بالنسبة إلیه مشروطاً بحسب الاعتبار، بل الحکم بالنسبة إلیه معلّق؛ أی الوجوب موجود، وظرف الانبعاث متأخّر، لا ظرف البعث، کما هو ممکن فی البعد المکانیّ. فهذه الشبهة وما قبلها لیستا جدیرتین بالذکر:
نعم، ما فی کلمات العلاّمة النائینی رحمه الله ـ علی ما فی تقریرات بعض تلامیذه الاخر ـ أقرب إلیٰ کونه شبهة فی المسألة، وأحریٰ بالذکر.
الشبهة الرابعة : القید المزبور فی القضیّة الحینیّة، إمّا یکون ذا صلاح ومصلحة فی الأمر والمأمور به، أو یکون بلا مصلحة رأساً: لا سبیل إلی الثانی؛ للزوم تجویز الإتیان بالحجّ والصلاة قبل الاستطاعة والزوال.
وعلی الأوّل : فإن کان ذا مصلحة ملزمة، فلابدّ من الأمر بتحصیله، وهذا یستلزم کون الوجوب مطلقاً منجّزاً، ویستلزم إیجاب جرّ الزمان إلی السابق، وتحصیل الاستطاعة، فلا وجوب معلّق.
وإن کان ذا مصلحة غیرملزمة، فإن کانت مصلحة الصلاة والحجّ ملزمة، فیتعیّن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 124 إیجابهما قبل الوقت والاستطاعة، وإن صارت مصلحتهما بتلک المصلحة ملزمة، فلابدّ من عدم الإیجاب بعد حصول المصلحة، فأین تصویر الوجوب المعلّق؟!
وهذا هو بتقریب منّا، یوجد فی خلال کلماته قدس سره مع تغییر ما فی تفسیر مرامه ومقصوده فی الإشکال والشبهة.
أقول : قد عرفت منّا أنّ النظر إلیٰ مرحلة اللبّ والثبوت، یعطی إنکار الوجوب المشروط، لا المعلّق؛ ضرورة أنّ الإنسان إمّا یکون طالباً للصلاة مع الستر، فیکون الطلب والمطلوب متّحدی الزمان؛ وهو الواجب المنجّز.
وإمّا یکون طالباً للصلاة حین التستّر، وطالباً لإکرام زید حین المجیء، وللحجّ حین الاستطاعة وهکذا، فیکون زمان الطلب الفعلیّ وزمان المطلوب بالعرض مختلفین. هذا ما قد أقمنا علیه البرهان والوجدان، فإنکار الوجوب المشروط ـ بحسب اللبّ ـ ممّا لامحیص عنه جدّاً.
وأمّا تحلیل المصلحة والمفسدة، فقد مرّ: أنّ القید ربّما یکون ذا مصلحة ملزمة، إلاّ أنّ الشرع ـ بملاحظة ملاک التسهیل ـ لایوجّه التکلیف إلیه، ولکن یریٰ صحّة التکلیف إذا حصل لا عن کلفة وتکلیف، کما فی الاستطاعة، فعند ذلک لایرجع الوجوب إلی المشروط ؛ لأنّ الطلب فعلیّ فی النفس بالنسبة إلی الحجّ حین الاستطاعة، لا أنّ الإرادة تصیر مشروطة، والطلب یصیر مشروطاً، کما توهّم؛ لعدم معقولیّة الاشتراط فی التکوین لو أمکن فی التشریع.
فما هو عقدة هذا الفاضل العلاّمة فی الوجوب المعلّق: هو أنّه کان یریٰ عند
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 125 عدم تحقّق الوجوب المنجّز، ماهو الحکم هو الوجوب المشروط لا غیر، وکان یأخذ المدّعیٰ فی الدلیل، کما هو کثیراً ما سلک هذا المسلک، فافهم وتدبّر.
الشبهة الخامسة : وممّا ذکرناه یظهر ـ کما ظهر فی بحث الوجوب المشروط ـ : أنّ القضیّة الحینیّة فی الاُمور الاعتباریّة، لا أساس لها، بل القضایا تابعة للملاک النفس الأمریّ، فالقیود إذا کانت دخیلة فی المصلحة، تکون القضیّة شرطیّة، وإذا کانت غیر دخیلة وأجنبیّة، تکون القضیّة حینیّة، ولا شبهة فی دخالة الاستطاعة والوقت فی الحکم، فکیف تکون القضیّة بالنسبة إلیهما حینیّة؟! لأنّ القضایا الحینیّة من القضایا البتّیة، لا المشروطة، فلاتذهل.
أقول : نعم، الأمر کما حرّر، إلاّ أنّ الشرع المقدّس لمصالح اُخر، یلاحظ فی الاعتبار ما هو الدخیل فی المصلحة غیر الداخل، ولکن لا بنحوٍ لا مدخلیّة له أصلاً؛ حتّیٰ یکون إیجاب الحجّ والصلاة حین الاستطاعة والزوال لغواً، بل لإرادة التسهیل اعتبر هکذا، فإذا تحقّق القید طبعاً یتنجّز ماهو الواجب.
الشبهة السادسة : ومن عجیب ما قیل فی المقام أیضاً: «إنّ جمیع القیود المأخوذة فی التکلیف، لابدّ وأن تکون من قیود الموضوع، والتکلیف فی جمیع القضایا الحقیقیّة بالنسبة إلی القیود المزبورة مشروط، من غیر فرق بین القید الاختیاریّ وغیر الاختیاریّ، فعلیٰ هذا فما الجهة فی عدّ الواجب بالنسبة إلی الوقت مثلاً أو إلی الاستطاعة معلّقاً، دون سائر القیود؟!»!!
أقول : هذه جملة ربّما سبقت فی کلمات بعض الأفاضل أیضاً، وأنت بعدما أحطت خبراً بمیزان القیود والملاکات، وأنّ الأمر بحسب اللبّ لایکون خارجاً عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 126 الوجوبین: المعلّق، والمنجّز، فلاتحتاج إلیٰ مؤونة زائدة فی حلّ أمثاله.
فالمحصول ممّا قدّمناه إلیٰ هنا : هو أنّ فی القضایا الشرعیّة، یمکن أن یؤخذ بعض القیود، ولایکون هو راجعاً إلی الهیئة، ولا إلی المادّة، بل یکون فی الاعتبار مأخوذاً ظرف الانبعاث، وإن کان بحسب الثبوت داخلاً فی مصلحة المادّة.
وأمّا الشبهة التی توهّمها رکن الشبهات: وهو لزوم التفکیک بین العلّة والمعلول، والإرادة والمراد، فقد مرّ ـ بحمد الله ـ دفعها بما لا مزید علیه فی مقدّمات المسألة، فلاتغفل، ولاتخلط.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 127