الصورة الرابعة :
ما إذا کان أحدهما موسّعاً، والآخر مضیّقاً، فإنّ بین الأصحاب ـ رضی الله عنهم ـ من توهّم وقوع التضادّ؛ وأنّ النوبة تصل إلیٰ معالجته بما یعالج به غیره، ومن قال : بأنّ المزاحمة منتفیة.
وقد شرحنا ذلک عند قول المحقّق الثانی قدس سره، وذکرنا أنّ الأمر دائر بین أحد أمرین: إمّا الالتزام بالتزاحم هنا وفی المضیّقین بالعرض، أو الالتزام بعدم التزاحم مطلقاً حتّیٰ فی المضیّقین بالعرض؛ ضرورة أنّ الواجب الموسّع لاینقلب إلی المضیّق بضیق الوقت، بل کیفیّة الإرادة والحکم فی أوّل الزمان، عین تلک الکیفیّة فی أثنائه وفی آخره، فتأمّل.
فبالجملة : لا فرق بین الصور الثلاث الأخیرة ـ أی الواجبین المضیقیّن بالعرض، والواجبین الموسّعین، والواجبین اللّذین أحدهما موسّع، والآخر مضیّق ـ فی أنّها مندرجة فی کبریٰ باب التزاحم، فإن قلنا بالانحلال، یکن العبد واقعاً فی محذور الجمع بین التکلیفین مع القدرة الواحدة، ولایتمکّن من الجمع بین التکلیفین، فلابدّ من علاجهما، والعلاج ما عرفت.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 360 نعم، إذا قلنا: بعدم الانحلال فلایقع فی المحذور المزبور؛ لإمکان الجمع بینهما إلاّ فی آخر الوقت، فإنّ مع فعلیة الخطابین والقدرة واحدة لایتمکّن من تطبیقهما، فلابدّ من علاجهما بما عرفت تفصیله.
وأمّا ما اُشیر إلیه: من أنّ بعضاً منهم قال: «بأنّ المزاحمة تقع بین المضیّق والموسّع، ولاتقع بین الموسّعین» فهو غیر تامّ؛ لأنّ وجه الوقوع هو الانحلال، فإذا انحلّ کلّ من خطابی الواجبین الموسّعین تقع المزاحمة، ویقع المکلّف فی المحذور.
وتوهّم : أنّ الوجه هو أنّ الإطلاق عنده هو جمع القیود، فإذا کان من القیود قید المزاحمة مع الواجب الآخر المضیّق، وکان هذا التقیید ممتنعاً، فیکون الإطلاق ممتنعاً، فیرجع الأمر إلی المحذور، فلابدّ من رفع الید: إمّا عن دلیل الواجب المضیّق، أو إطلاق الواجب الموسّع، وعند ذلک لایعقل الجمع بین الخطابین الفعلیّین العرضیّین، فلابدّ من الالتزام بالترتّب الذی هو العلاج المشهور، أو الالتزام بسقوط الکلّ أو أحدهما، وهو علاج أبدعناه فی المقام.
فاسد؛ ضرورة أنّ مقتضیٰ هذا انقلاب کبری التزاحم إلی التعارض، وتکون المعارضة بعد ذلک فی المدلولین؛ أی مدلول خطاب الواجب المضیّق، ومدلول خطاب الواجب الموسّع، ویصیر المرجع عندئذٍ العرف، وهو حاکم بالتقیید؛ أی عدم وجوب الفرد المزاحم.
بیان ذلک : أنّ التعارض هو تعاند الأدلّة وتکاذبها فی مرحلة التشریع والتقنین والجعل، فإذا ورد «أنّ فعل الإزالة واجب» وورد فی دلیل آخر «إنّ الصلاة واجبة»
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 361 یقع التکاذب بینهما فی مرحلة الدلالة والإنشاء؛ بمعنیٰ أنّ قضیّة إطلاق الدلیل الثانی ـ حسب الإنشاء الصوریّ ـ وجوب الفرد المزاحم، وحیث هو غیر ممکن إیجابه؛ لأنّ التقیید ممتنع، فلابدّ وأن یرفع الوجوب عن هذا الفرد، وحینئذٍ بین دلیل الواجب المضیّق وهذا الواجب الموسّع یمکن الجمع العقلائیّ؛ بإخراج الفرد المزاحم.
وبعبارة اُخریٰ : کون المسألة من صغریات باب التزاحم، مشروط بأن یستکشف الملاک والمطلوبیّة من إطلاق کلّ واحد من الدلیلین مثلاً، ولأجل المحذور العقلیّ لایتمکّن العبد من الجمع، فیتوصّل إلی الخطاب الترتّبی، أو إسقاط أحدهما، وإثبات الآخر؛ بالوجه المحرّر عندنا.
وأمّا إذا امتنع التقیید والإطلاق، فلا یعقل کشف الملاک فی مورد القید، فعند ذلک کیف یعقل الأمر الترتّبی؟! فلابدّ أوّلاً من کون ملاک کلّ واحد غیر مقیّد بالآخر، ویکون مطلوبیّة کلّ فی عَرْض مطلوبیّة الآخر وإن کان الخطاب لیس کذلک.
وأمّا علیٰ ما سلکه، یلزم عدم إمکان تصویر الأمر بالمهمّ؛ لأنّه لا دلیل لکشف الملاک حتّیٰ یرفع الید عن الإطلاق بالمقدار اللاّزم عقلاً؛ وهو صورة إطاعة الأهمّ دون عصیانه.
ثمّ إنّ کون الإطلاق جمع القیود من الأباطیل، وإنّ امتناع التقیید یستلزم امتناع الإطلاق مخدوش، بل امتناع التقیید یستلزم وجوب الإطلاق. وقد مرّ ما یتعلّق بذلک فی مباحث التعبّدی والتوصّلی.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 362 وغیر خفیّ : أنّ هذه المسألة غیر مرتبطة بکون النسبة بین الإطلاق والتقیید العدمَ والملکة، أو التضادّ، أو السلب والإیجاب، کما هو الموافق للتحقیق.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 363