بحث وتحقیق
یستظهر من تقریرات جدّی العلاّمة قدس سره: أنّ الشیخ رحمه الله یرید من التقیید المزبور أمراً آخر: وهو أنّ امتثال الأمر الغیریّ، لایحصل إلاّ فیما إذا قصد التوصّل به إلی الواجب النفسیّ، فما هو معروض الوجوب لیس المقدّمة المطلقة، وإن کان بها یحصل الغرض؛ وهو التمکّن من الواجب، ولکنّها لاتوصف بالوجوب الغیریّ إلاّ إذا قصد بها التوصّل إلی الواجب؛ لأنّ الموصوف بالوجوب هو المعنی الذی یصدر عن اختیار.
وربّما یتوجّه إلیه : أنّ امتثال الأمر لایتقوّم إلاّ بقصد الأمر المزبور، فامتثال الأمر النفسیّ، لایکون إلاّ إذا کان الانبعاث من ذلک الأمر، وامتثال الأمر الغیریّ، لایکون إلاّ إذا کان الانبعاث من الأمر الغیریّ.
وهذا المعنیٰ لایمکن إلاّ فیمن کان متوجّهاً إلی الأمر النفسیّ؛ لأنّ تصوّر الأمر الغیریّ، لایعقل إلاّ مع تصوّر الأمر النفسیّ، فیحصل فی نفسه قصد امتثال الأمر الغیریّ؛ لأجل التوصّل به إلی النفسیّ، ولکنّ ذلک لایمنع من اتصاف الفعل المقدّمی بصفة الوجوب؛ إذا أتیٰ به لا لأجل التوصّل.
وفیه : أنّه بعد التوجّه إلیٰ أنّ معنیٰ وجوب الشیء: هو أنّ الشرع بعث المکلّف نحو إیجاده، وخاطبه بذلک إلزاماً ، فإذا أتیٰ به عن اختیار، یکون هو الواجب ولو کان توصّلیّاً.
وأمّا إذا اتفق صدوره منه، فهو وإن کان یحصل به الغرض؛ وهو الغسل مثلاً،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 189 ولکنّه لایوصف بالوجوب.
وحیث إنّ الأمر الغیریّ التوصّلی، متقوّم فی اللحاظ بلحاظ الأمر النفسیّ، فقهراً یحصل قصد التوصّل به إلی الواجب، فما هو معروض الوجوب هو المقدّمة بقصد التوصّل، وماهو یورث تمکّنه من الواجب أعمّ من ذلک.
فتحصّل من هذا التقریب البدیع: أنّ ما هو الموصوف بالوجوب، ومعروض هذه الصفة، غیر ما هو معروض المطلوب وموصوف هذه الصفة، فإنّ للمولیٰ بعد الأمر بالصلاة ـ بناءً علیٰ وجود الملازمة ـ شیئین :
أحدهما : ماهو مطلوبه ومحبوبه.
وثانیهما : ماهو مأموره ومورد تشریعه.
أمّا الأوّل : فهی مطلق المقدّمة؛ لأنّه بها یتمکّن من الواجب النفسیّ، وهذه الملازمة ممّا لاتکاد تنکر عند منکری الملازمة فی الفرض الثانی.
وأمّا الثانی : فهی المقدّمة بقصد التوصّل؛ أی المقدّمة التی تصدر عن اختیار، لأنّ معنیٰ إیجابه، هو بعث العبد بصرف قدرته فی ناحیة الوجود والإیجاد، فیکون المطلوب التشریعیّ هو المعنی المصدریّ، وإن کان المطلوب التکوینیّ هو الوجود والمعنی الاسم المصدریّ.
فإذا اعتبر صدوره عن اختیار فی اتصافه بالوجوب؛ حتّیٰ فی التوصّلیّات النفسیّة، فإذا کان الواجب غیریّاً، فهو کالمتضایفین بالنسبة إلی الواجب النفسیّ، فلاینفکّ تصوّره عن تصوّر ذاک، فیکون معروض الوجوب هی المقدّمة بشرط قصد التوصّل بها إلی الواجب النفسیّ، فافهم واغتنم.
وممّا ذکرناه وحرّرناه، یظهر مواقف النظر فی کلمات القوم والأعلام فی المقام، من غیر الحاجة إلی التشبّث ببعض المقدّمات التی قرّرها بعض المدقّقین من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 190 المحشّین، مع ما فیها من الإشکال أو الإشکالات.
ولایرد علیٰ مقالة الشیخ رحمه الله إلاّ ما نذکره فی الآتی: من أنّ المحبوب هی الموصلة، لا المطلقة، والمشروع أیضاً تابع المحبوب، فانتظر.
وسیظهر فی أصل المسألة: أنّ إیجاب الشیء تأسیساً وشرعاً، لایعقل إلاّ فیما إذا کان المطلوب هو وجوده الصادر عن اختیار، وإلاّ فلو کان مطلوب المولیٰ أصل وجوده بأیّ نحو اتفق، فلا معنیٰ لإیجابه التشریعیّ، بل الأمر هنا یرجع إلی الإرشاد إلی المطلوبیّة المطلقة، ولذلک لایعقل تشریع المقدّمة وإیجابها، فافهم واغتنم.
والذی هو التحقیق : أنّ الامتثال متقوّم بالالتفات والانبعاث من الأمر، وأمّا اتصاف الفعل بالوجوب، فلایتقوّم بذلک، فلو صدّقنا أنّ الوجوب یقتضی اختیاریّة الفعل، والغیریّةَ تقتضی قصد التوصّل قهراً، ولکن لایستلزم ذلک الالتفات والتوجّه، فلو توضّأ أحد للأمر النفسیّ الاستحبابیّ غافلاً عن الأمر الغیریّ، أو معتقداً عدمه، ثمّ تبیّن بعد ذلک وجود ذلک الأمر الغیریّ، فإنّه یستکشف اتصاف العمل بالوجوب بالضرورة، فلاینبغی الخلط بین ماهو شرط اتصاف الفعل بـ «الوجوب» وبین ماهو شرط اتصاف المکلّف بـ «الممتثل والمطیع».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 191