التحقیق فی المشروط إثباتاً
إذا أحطت خبراً بما فی هذه المقالة فی مرحلة الثبوت، تصل النوبة إلیٰ مرحلة الإثبات فی القضیّة الشرطیّة، فإن کانت تلک القضیّة من قبیل قوله تعالیٰ: «وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجَّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاً» فهو ظاهر فی أنّه اعتبر قید الاستطاعة مفروض الوجود؛ فإنّ الوجوب مطلق، والموضوع له الإطلاق، والقید المأتیّ به بصیغة الماضی؛ لإفادة مفروضیّة وجوده عند الإیجاب. وهذا من الواضح البیّن عند المنصف الخبیر، الواقف علی أسالیب العربیّة.
وأمّا فی القضایا الشرطیّة المتعارفة، مثل قوله تعالیٰ: «إنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأً فَتَبَیَّنُوا» والمثال المعروف: «إن جاءک زید فأکرمه» فلا شبهة فی أنّه لیس ظاهراً فی مفروضیّة وجود المجیء، ولا فی رجوعه إلیٰ عنوان الموضوع، ولا فی کونه قید المادّة اللاّزم تحصیله، فیبقی احتمالان آخران:
أحدهما : ما عن المشهور؛ من کونه قید مفاد الهیئة وهو الوجوب. وقد عرفت الإشکال فیه.
ثانیهما : ما علیه بناؤنا واخترعناه ؛ وهو أن الشرط مورث لتعلیق الاستعمال، ویکون الهیئة قبل تحقّق الشرط غیرَ مفیدة لفائدتها؛ وهی البعث والإغراء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 71 والتحریک الاعتباریّ نحو المطلوب. وهذا الوجه هو الموافق لظاهر الاُسلوب، والمساعد علی البرهان الماضی تفصیله.
إن قلت : بناءً علیه یلزم الاختلاف بین مرحلتی الثبوت والإثبات؛ فإنّه فی مرحلة الثبوت، یکون الطلب قبل المجیء فعلیّاً، وفی مرحلة الإثبات، یکون الهیئة غیر مفیدة للطلب النفسانیّ، وإذن لابدّ من صرف الظاهر إلیٰ ماهو المعلوم ثبوتاً؛ لأنّ الإثبات تابع الثبوت بعد معلومیّته بالدلیل الخارج.
قلت : نعم، ولکن لایلزم ذاک وذلک؛ لأنّ الاطلاع علیٰ إرادة المولیٰ من الخارج، وإن کان یستلزم الإطاعة حسب حکم العقل؛ لعدم الخصوصیّة للألفاظ والإظهار بطریق الاستعمال، ولکن إذا کان المولیٰ بصدد جعل الحکم علیٰ وجه لایورث المشقّة، ولا یولّد الصعوبة علی المکلّفین، أو احتملنا ذلک، فله أن یأتی لإفادة مرامه بالقضیّة الشرطیّة، حتّیٰ یظهر أنّ العباد فی سعة من تحصیل المقدّمات.
وتوهّم : أنّه لایختلف الحال بین کون الوجوب فعلیّاً، والقید مفروض الوجود، وبین کونه غیر فعلیّ، فاسد جدّاً؛ ضرورة أنّ الطلب الفعلیّ باعث نحو المقدّمات، بناءً علیٰ ثبوت الملازمة بحکم العقل، فإنّه إذا کان الإکرام واجباً عند مجیء زید، وکان مجیء زید معلوماً، وماهو مفروض الوجود معلوماً تحقّقه، یجب علی العبد تحصیل مقدّمات الضیافة والإکرام، بخلاف الطلب الإنشائیّ وما بحکمه، فإنّه لایجب عند الأکثر، وإن أوجبه شیخ المشایخ العلاّمة الحائری رحمه الله کما یأتی.
فإذا کان الأمر کذلک، فمن المحتمل أنّ الشرع کان فی هذا الموقف، فاعتبر الاستعمال المعلّق، وإن کان بحسب الواقع لیس تعلیقاً فی الإرادة والطلب، ولا فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 72 مفاد الهیئة، وهذا الاعتبار لإفادة ذلک.
فلاینبغی الخلط بین مقامی الثبوت والإثبات، وبین موقفین: موقف إفادة تمام مرامه علیٰ ما فی طلبه ونفسه، وموقف تسهیله علی العباد؛ وعدم إیقاعهم فی المضیقة والمشقّة. فعلیٰ هذا لایجب التبعیّة لمرحلة الثبوت بعد هذا الاحتمال فی مرحلة الإثبات.
فتحصّل : أنّ الوجوب المشروط ثبوتاً غیر معقول، والوجوب المشروط إثباتاً یرجع إلیٰ مشروطیّة الاستعمال، وإلی التعلیق فی کون الهیئة مفیدة ومستعملة فیما هو الموضوع له، وأنّ اللاّزم هو الاتباع لمقام الثبوت؛ مادام لم یعلم أنّ المولیٰ فی مقام إفادة الأمر الآخر إثباتاً، وفی مقام التسهیل عملاً ، کما نحن فیه؛ فإنّه بالنظر إلیٰ مرحلة الثبوت واللبّ، لابدّ من المحافظة علی المقدّمات المفوّتة، وبالنظر إلیٰ مقام الإثبات والتعلیق، لایجب التحفّظ علیها حسب الصناعة العلمیّة؛ لأنّه فی مقام إفادة عدم فعلیّة الحکم، وعدم فعلیّة روح الحکم وهو الإرادة، وإن کان روح الحکم فعلیّةً.
وبعبارة اُخریٰ : فی مقام إفادة جواز ترتیب آثار الوجوب المشروط قبل تحقّق شرطه، وإن کان طلبه النفسانیّ فعلیّاً وداعیاً ومقتضیاً، فلیتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 73