الجهة الاُولیٰ فی حقیقة الوضع
المحکیّ عن ابن عبّاد : أنّ الأمر المتوسّط بین اللغات والمعانی مفقود، بل المعانی من لوازم ذات اللغات، کلوازم الماهیّات.
أو یقال : إنّ الأمر المتوسّط بینهما؛ هی السنخیّة الواقعیّة الخارجة عن قدرة الناس، والناس یتوهّمون أنّهم جاعلون الألفاظ حذاء المعانی، أو هم متخیّلون أنّ الأمر بیدهم فی تعهّدهم وتبانیهم، بل الواقع ونفس الأمر بید الله تعالیٰ، وبین الأسماء والمسمّیات جهات طبیعیّة وواقعیّة، یکون الواضع الجزء الأخیر من العلل المادّیة والغیبیّة فی الوضع والجعل؛ أی الإبراز والإظهار بتلک الطریقة الوهمیّة، وهو الإنشاء ف«الأسماء تنزل من السماء».
وممّا یعرب عن ذلک ؛ العلوم الغریبة التی هی من القطعیّات عند أربابها، ومن یطعن فیها فلعدم اطّلاعه؛ و «إنّ الإنسان عدّوّ لما جهله» فإنّ تلک العلوم علیٰ مبانی الأسماء کثیراً، بل کلاًّ، فلا تکون الروابط الطبیعیّة والسنخیّات الواقعیّة بین الأشیاء،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 79 کلّها مقطوعة.
نعم، هذا غیر الدلالة التی هی معلولة الجهات الاُخر غیر تلک السنخیّة الواقعیّة، وهذا لیس مراد مثل ابن عبّاد الذی کان من فضلاء الشیعة، بل ربّما یمکن تفسیر مقصوده بما اُشیر إلیه، فلاینبغی الخلط.
فعلیٰ هذا، فلا شبهة فی نحو ارتباط بمعنی الحاصل من المصدر، أو الحاصل من الاستعمال، من غیر کونه طبیعیّاً.
وقیل : «هو الأمر الواقعیّ، إلاّ أنّه لیس من قبیل الجواهر والأعراض، بل هو من قبیل أعراض الماهیّات» وفیه ما لا یخفیٰ علیٰ أهله.
فهی علی التحقیق ، من الاُمور الاعتباریّة المضافة بین الشیئین، من غیر النظر إلی اللحاظ الآخر وراءهما بذاتهما. والاُمور الاعتباریّة وإن لا ظرف لها وراء الأذهان، إلاّ أنّها تارة: تعتبر فی الخارج کالملکیّة، واُخریٰ: لایعتبر إلاّ نفسها، وهی مثل تلک الملازمة الجعلیّة الموجودة بین الألفاظ والمعانی المتباینة معها.
وتوهّم بقائها مع انتفاء طرفی الإضافة فاسد؛ لعدم إمکانه، فما عن العلاّمة العراقی رحمه الله لایرجع إلیٰ محصّل بالضرورة.
إذا عرفت ذلک، یظهر لک: أنّ کلمات القوم مضطربة؛ فیظهر من جمع منهم أنّ الموضوع المتنازع فیه هی کلمة «الوضع» ومفاده بالحمل الأوّلی، ولذلک نفوا إمکان تقسیمه إلی التعیینیّ والتعیّنی، قائلین: «إنّه جعل الشیء علی الشیء للغایة المخصوصة، کوضع الحجر والعلم لإعلام الفرسخ والمیل». وهذا باطل، لما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 80 عرفت فی المقدّمة.
ویظهر من قوم آخرین : أنّه «التعهّد» و «التبانی» و «الهوهویّة» وغیر ذلک من العبائر، وهذا أیضاً فاسد؛ ضرورة أنّ الوضع ـ بالمعنی المصدریّ ـ لیس هو التعهّد، ولا غیره، وبمعنی الحاصل من المصدر ـ وهو المعنی الذی یدرک بین اللفظ والمعنیٰ ـ أیضاً لیس متّحداً بمفهومه مع مفهوم هذه العبائر بالضرورة.
نعم، تلک العلاقة والملازمة التی کانت معدومة، وصارت موجودة، کما یمکن أن تحصل بکلمة «وضعت» و «جعلت» حصولاً بالتّبع، یمکن أن تحصل هی بذاتها؛ بأن یقول الواضع بعد شرائطه الآتیة: «أوجدت علقة الدلالة بین اللفظ والمعنیٰ» فعندئذٍ توجد تلک العلاقة الاعتباریّة أوّلاً وبالذات، وتنالها ید الجعل؛ لکونها اعتباریّة، فما توهّمه العلاّمة الحائری من امتناعه، ناشئ من الغفلة عن حقیقة الأمر وماهیّة المسألة.
وکما یمکن أن یتوصّل الواضع بنحو التعهّد والتبانی؛ بأن یقول: «تعهّدت بأن اُرید المعنی الکذائیّ عند إلقاء اللفظ الکذائیّ» یمکن أن یفید ذلک بالحمل الشائع الصناعیّ؛ فیقول: «هذا زید» فإنّ الاتحاد والهوهویّة لایمکن إلاّ بالاتحاد فی الوجود حقیقةً أو ادعاءً.
وهذا کما یمکن دعواه علیٰ أن یکون اللفظ من مراتب المعنی، له العکس؛ بجعل المعنیٰ من لوازم ماهیّة اللفظ، فیحمل علیه؛ لأنّ لازم الشیء متّحد معه. فما عن النهاوندیّ وأتباعه، وبعض الفضلاء وأصدقائه، غیر صالح.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 81 ودعویٰ أنّ الألفاظ وضعت للمعانی بالجعل والتشریع نوعاً، لا بالوجوه الاُخر، لو کان مسموعة لاتفید فیما نحن فیه شیئاً، کما لایخفیٰ. فما رامه العَلَمان؛ الأصفهانیّ، والوالد ـ مدّظلّه أیضاً غیر تامّ.
فبالجملة : توهّم أنّ الدلالة اللفظیّة الوضعیّة متقوّمة بأحد الاُمور المذکورة وجوداً، أو هی إحداها مفهوماً، فاسد قطعاً، بل الدلالة اللفظیّة تعتبر من الدلالات الاُخر العقلیّة، کدلالة المعانی علی المعانی، بل الأضداد علی الأضداد، إلاّ أنّ أنحاء الدلالة مختلفة، واللفظیّة منها بالجعل والمعاهدة والقرار والتبانی وأمثالها.
ثمّ إنّ ظاهر «الکفایة» من تفسیر «الوضع» ـ وهو بالمعنی اللغویّ من مقولة الفعل ـ بـ «الاختصاص» وهو من مقولة الانفعال ـ علیٰ تسامح فیهما ـ ربّما کان لأجل الإیماء إلیٰ ما قرّرناه وحرّرناه، وإلاّ فهو من الواضح الذی لاینبغی صدوره منه رحمه الله.
فتحصّل : أنّ ما یصحّ أن یتنازع فیه لیس مفهوم «الوضع» لغةً؛ لعدم إمکان اختلاف المحقّقین فیه بعد صراحة أهل اللغة فیه، ولا هو تلک العلاقة والارتباط الموجود بین قافلة الألفاظ وسلسلة المعانی من حیث مفاد «کان» التامّة، ولا الناقصة.
نعم، فی أنّه طبیعیّ، أو واقعیّ، أو اعتباریّ، خلاف، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لیس خلافاً واضحاً غیر راجع إلیٰ أمر واحد؛ لما عرفت: أنّ القول بالدلالة الذاتیّة والطبعیّة ممّا لایمکن استناده إلیٰ عاقل، فضلاً عن ابن عبّاد. والعجب من إطالة الکلام حول ردّه، والإصرار علیه من طلاّب الفضل وأرباب العقل؛ بإقامة البراهین
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 82 القطعیّة علیه!!.
وأنّ من یقول : بأنّه الأمر الواقعیّ، لایرید منه الأمر التکوینیّ والخارجیّ، بل أراد أنّه الأمر الاعتباریّ المحفوظ الذی لا یتبدّل بعد تمامیّة الاعتبار.
وقد عرفت : أنّ الاُمور الاعتباریّة ـ سواء کانت من الاعتباریّات بعد الاجتماع، أو من الاعتباریّات الاُخر ـ لا واقعیّة لها إلاّ بالمعتبرین، فبانتفائهم تنتفی قهراً. وهذا لیس معناه أنّه متقوّم بهم مفهوماً، بل هو متقوّم فی الوجود والتحقّق.
فما هو الصحیح بأن یتنازع فیه؛ هو السبب الذی یتعقّبه التلازم والعلقة والربط المذکور؛ وأنّه أیّ شیء؟ وقد عرفت تحقیقه.
وما یظهر منهم : من أنّ الوضع هو التبانی، أو هو التعهّد، أو هو الاختصاص، أو هو الجعل، أو غیر ذلک، کلّه بضرب من التسامح؛ لأنّ تلک العلاقة المفروغ عن وجودها بین القافلتین، لیست هی هذه الاُمور؛ لا بالحمل الأوّلی، ولا بالشائع الصناعیّ، من غیر فرق بین أن اُرید منه المعنی اللغویّ والمفهوم الأوّلی المصدریّ الحدثیّ، أو اُرید منه المعنی الحاصل منه؛ لأنّ المعنی الحاصل من الوضع لیس إلاّ الانجعال والاتضاع، دون الاختصاص والربط؛ فإنّه معلول الوضع بالتبع، فتدبّر.
إن قیل : هذا تامّ بحسب مقام الثبوت، وأمّا بحسب مقام الإثبات؛ وأنّ تلک العلاقة حصلت بأیّ طریق من الأسباب المذکورة؟ فهو غیر واضح، واختلاف المحقّقین فی ذلک.
قلنا : بعدما عرفت إمکان استناد الربط المزبور لأنحاء الأسباب المختلفة، لایمکن لنا کشف ماهو السبب من بینها؛ لإمکان اختلاف الواضعین فی ذلک، بل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 83 الواضع الواحد. فعلیه یسقط النزاع المشهور فی الوضع، ویتبیّن أنّ الغفلة عن حقیقة المسألة، أوقعتهم فی ذلک.
إن قیل : ظاهر القول بأنّ الوضع لیس إلاّ التبانی والتعهّد، إنکار وجود الربط الاعتباریّ بین اللفظ والمعنیٰ، فضلاً عن غیره.
قلنا : هذا غیر ظاهر أوّلاً.
وثانیاً : غیر تامّ؛ لأنّ حصول تلک العلقة لیس أمراً اختیاریّاً، بل هی تحصل قهراً، کما فی الاستعمالات الکثیرة.
وثالثاً : هذا یرجع إلی النزاع الآخر غیر النزاعین المعروفین، فیلزم البحث فی مفاد «کان» التامّة؛ وأصل وجود العلقة، ثمّ فی أنّها واقعیّة، أو طبیعیّة، أو اعتباریّة، ثمّ بعد ذلک فی أنّ الأسباب المورثة لها، واحدة، أم کثیرة.
فتحصّل : أنّ الجهة المتنازع فیها لیست مفهوم الوضع المصدریّ، ولا معنی الحاصل منه، ولا فی تحقّق العلاقة والربط المشهود بین الألفاظ والمعانی، بل ما یمکن أن یتنازع فیه إجمالاً؛ هو السبب الموجد لتلک العلقة الاعتباریّة، وهو أعمّ ممّا توهّم.
فعلیه یصحّ أن یقال : إنّ جمیع ما قیل فی معنی الوضع صحیح، وباطل: صحیح؛ لأنّه من الأسباب التی یمکن أن یتسبّب بها إلیها، وباطل؛ لأنّ حقیقة المسبب لیست السبّب بالحمل الأوّلی، حتّیٰ یصحّ تعریفه وتحدیده به.
وإن شئت قلت : الوضع هو إنشاء الربط بین الألفاظ والمعانی، والإنشاء المذکور یتصوّر بطرق مختلفة:
منها : التعهّد .
ومنها : التبانی.
ومنها : بقوله : «أنشأت علقة الدلالة بین اللفظ والمعنیٰ».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 84 ومنها : «جعلت ووضعت» .
ومنها : الهوهویّة.
ومنها : الجمل الخبریّة المفیدة للإنشاء.
ومنها : الاستعمال.
ومنها : کثرة الاستعمال.
ومنها : غیر ذلک.
نعم، بناءً علیه لایعدّ الوضع التعیّنی من الوضع بهذا المعنیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 85