حول الهیئات الإخباریة التامّة
وأمّا الهیئات التامّة التی یصحّ السکوت علیها، فهی فی الإخباریّة ـ علیٰ ما فی کتب القوم ـ موضوعة للدلالة علی النسبة التصدیقیّة، أو للدلالة علیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 139 الهوهویّة التصدیقیّة أو لإبراز قصد الحکایة والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.
وأنت خبیر : باشتراک الکلّ فی إشکال ؛ وهو أنّ الدلالة من متفرّعات الوضع، وإبراز القصد من الغایات المترتّبة علی الوضع، فـ «اللام» المأخوذ فی هذه العبارة غیر «اللام» فی قولهم: «من للابتداء» فإنّ الموضوع له فی الکلمة معنی تصوریّ، والموضوعَ له فی الجملة معنی تصدیقیّ، فکون قصد الحکایة أو إبراز قصد الحکایة موضوعاً لها، من المناقضة بین ما هو الموضوع، وما هو الموضوع له.
واختصاص الأوّلَین بأنّ القضایا الکاذبة من القضایا الحقیقیّة؛ أی تکون الهیئة فیها مستعملة فیما وضعت لها، مع أنّها لا محاکاة ولا مدلول ولا نسبة لها وراء الوهم الکاذب. اللهمّ إلاّ أن یقال : هی موضوعة للاستدلال، وهو أعمّ من المطابقة واللامطابقة.
واختصاص الثالث بأنّ مناط القضایا الکاذبة، عدم موافقة مضمون الجملة لما فی الواقع ونفس الأمر، وعلیه یلزم إمّا صدق جمیع القضایا، وهو واضح المنع، وإمّا کون الهیئة ذات مفادین ومضمونین؛ أحدهما: صادق دائماً، وثانیهما: صادق وکاذب؛ حسب التطابق وعدمه، وهذا أیضاً واضح المنع؛ ضرورة أنّ الهیئة موضوعة لمعنی واحد بسیط، کسائر اللغات والهیئات التصوّریة، فلاینبغی الخلط، وتدبّر.
فعلیٰ ما عرفت، لایمکن تصوّر الموضوع له فی الهیئات التصدیقیّة؛ لأنّ تصوّر الهیئة التصدیقیّة لیس إلاّ تصوّر أمر بسیط، والهیئة التصدیقیّة مرکّبة، فلا یعقل إسراء الوضع إلیٰ ما هو المقصود؛ لأنّه غیر ما هو المقصود بالوضع.
إن قلت : نعم، إلاّ أنّه کالحروف والمعانی الاسمیّة الحاکیة عنها فی حال الوضع، فکما أنّ بتلک العناوین الاسمیّة کان یمکن ذلک، فکذلک الأمر هنا، وکما أنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 140 هناک کان الموضوع له عامّاً، کذلک هنا.
قلت : لیس الأمر کما قیل؛ ضرورة أنّ ما ذکرناه هناک: هو أنّ الأمر الواحد البسیط ـ وهی حیثیّة الابتداء ـ یمکن أن یکون معنی اسمیّاً فی موطن، وحرفیّاً فی موطن، کما التزم المشهور من الفلاسفة فی الجوهر والعرض فی مباحث الوجود الذهنیّ.
وأمّا المرکّب والبسیط والقضیّة والتصوّر، فغیر قابلة للانقلاب حسب الخارج والذهن، فعلیه لابدّ من الالتزام بأنّ الموضوع له خاصّ، وقد عرفت أنّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ممتنع، فلابدّ من علاج هذه العویصة جدّاً.
وبعبارة اُخریٰ : أخذ المفاهیم التصوّریة من الهیئات التصدیقیّة، وإسراء الوضع إلی تلک الهیئات ـ کما وضعوا ذلک فی الحروف ـ ممّا لا یعقل، ولو سلّمنا تعقّله فهو ممّا لا یورث السرایة؛ لما عرفت فی أصل المسألة، ولخصوصیّة فی المقام.
فما أفاده جماعة من المحقّقین ومنهم الوالد ـ مدّظلّه : من أنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ، کما فی الحروف، غیر تامّ فی الهیئات الناقصة؛ لأنّها وإن کانت دالّة وکاشفة فی الجمل الإخباریّة عن حیثیّة غیر حیثیّة المضاف والمضاف إلیه بالضرورة، إلاّ أنّ المستکشف بها ـ کما قد عرفت ـ مختلف الأوعیة؛ حسب أوعیة المضاف والمضاف إلیه، والجامع لها لیس إلاّ أمراً کلّیّاً، ولا دلیل علیٰ لزوم کونه جامعاً ذاتیّاً، بل هو باختیار الواضع، فما یأخذه من الشتات والمتباینات، هو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 141 الجامع فی عالم الوضع والألفاظ وإن کان وهمیّاً وعنوانیّاً وعرضیّاً.
وإذا کان الوضع أمراً اعتباریّاً، فما هو اللابدّ منه کونه قابلاً للاعتبار فی الخارج، وهذا ممّا لا شبهة تعتریه، فعلیه کما یعتبر الواضع الجامع موضوعاً له فیکون کلیّاً، کذلک یعتبره فی الخارج، فیکون ما هو الجامع موجوداً فی الخارج سنخَ موجودیّة الطبیعیّ فی الخارج، وبهذا تنحلّ الشبهة فی الحروف أیضاً.
وهذا طریق آخر لحلّ الشبهات فی عموم الموضوع له فی الحروف، ولحلّ الشبهة فی أخذ المفاهیم الاسمیّة من المصادیق الحرفیّة، وحملها علیها.
وأمّا فی الهیئات التامّة، فقد عرفت الشبهة فیها.
وقال صاحب «المقالات» بعموم الموضوع له فی الهیئات التامّة والناقصة، قائلاً: إنّ الهیئة الناقصة تحکی عن النسبة الثابتة، والهیئة التامّة تحکی عن إیقاع النسبة، نحو «زید قائم» و «عبدی حرّ» فی مقام إنشاء العتق، والإنسان یریٰ بالوجدان: أنّ المتکلّم یری الموضوع عاریاً عن النسبة التی یرید إثباتها إخباراً أو انشاءً، وهو بالحمل والإنشاء یوقعها بین الموضوع والمحمول، بخلاف النحو الأوّل فإنّ المتکلّم یری النسبة فیه ثابتة للموضوع أو المحمول، انتهیٰ ما هو لبّ مرامه.
وأنت خبیر بما فیه؛ لما عرفت من أنّ قولنا : «الربط بین غلام زید ربط إضافیّ» جملة صحیحة، ولا واقعیّة للنسبة الناقصة، فیعلم أنّ المحکیّ بالهیئة الناقصة والمدلول علیه مختلف:
فتارة : یکون تکویناً مقوّماً لطرف الإضافة، کقولنا: «إله العالم» فإنّ هذه الإضافة تحکی عن الإضافة الإشراقیّة.
واُخریٰ : یکون من قبیل «بیاض الجسم».
وثالثة : یکون من قبیل «غلام زید».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 142 ورابعة : من قبیل ما اُشیر إلیه.
وخامسة : غیر ذلک.
والذی هو الجامع هو الموضوع له. ولا وجه لدعویٰ خصوص الموضوع له؛ لوقوع هذه النسبة مورد الأمر، مع فقد المضاف والمضاف إلیه مجموعاً، کما إذا قیل: «صلّ صلاة الکسوف والخسوف» وهکذا، والقیام بحلّ هذه الاُمور بطریق خارج عن المتعارف ـ بعد عدم لزومه ـ مستهجن.
هذا وفی قوله : «تحکی عن إیقاع النسبة» تناقض ظاهر، وکان ینبغی أن یقال: «آلة لإیقاع النسبة» وسیظهر ما هو التحقیق فی مفاد الهیئة التامّة إن شاء الله تعالیٰ.
والذی هو التحقیق فیها : أنّ الواضع فی هذه المواقف بالاستعمال یتمکّن من أداء وظیفته، فإذا أراد إفادة مفاد القضیّة، فیقول: «زید قائم» مریداً به أنّ الهیئة فیها تکون ذات دلالة علیٰ أمر غیر ما یدلّ علیه المفردات هیئةً ومادّة، وفی هذا الاستعمال لایلتزم بالصدق والکذب، بل المقصود فیه المعنی الأعمّ من ذلک؛ لإمکان أداء وظیفته بقوله: «شریک الباری موجود» فیعلم من ذلک أنّ ما هو مفاده؛ إثبات الاتحاد والهوهویّة فی الحملیّات.
وأمّا فی الفعلیّة من الجملة، وهکذا فی الاسمیّة غیر الحملیّة، فلعلّ الهیئة فیهما موضوعة بوضع آخر ـ یطلب تفصیله فی المشتقّات ـ لا الحکایة عن الهوهویّة، ولا إیقاع النسبة، کما لایخفیٰ.
والعجب من صاحب «المقالات» رحمه الله حیث توهّم: «أنّ الفرق بین مفاد الناقصة والتامّة؛ هو أنّ فی الاُولیٰ یکون المحکیّ هی النسبة بلحاظ نفسها، مع قطع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 143 النظر عن وجودها وعدمها، وفی الثانیة هو وجودها» انتهیٰ .
وأنت خبیر : بأنّ عمدة البحث فی الهیئات الناقصة، هی الواقعات فی الجمل التامّة، کقولنا: «زید العالم قائم» و «غلام زید فاضل» وهکذا، ولو کان القائم والفاضل زیداً الجاهل، وغلامَ عمروٍ، لکان هو الکاذب بالضرورة، ویؤخذ کذبه من عدم المحکیّ للنسبة الناقصة، المستلزمة لعدم النسبة التامّة کما هو الواقع، فلیتدبّر.
وما قیل : «من أنّ مناط کذبه عدم مطابقة مضمون الهیئة التامّة للواقع» إن کان یرجع إلیٰ ما أشرنا إلیه فهو، وإلاّ فهو ضروریّ الفساد بالوجدان، فما أفاده بقوله: «مع قطع النظر عن وجودها» لا فائدة فیه.
فتحصّل : أنّ الهیئة تکون موضوعة لمعنی تصدیقیّ، فلا یکون وعاؤه الخارج؛ لأنّه وعاء الوجود وکماله، وأمّا التصدیق والإذعان فهو من الاُمور الذهنیّة والنفسانیّة، ووعاؤها الذهن، فما هو فی الخارج کما یمکن لحاظه بالنسبة التصوّریة، یمکن لحاظه بالنسبة التصدیقیّة، فهذا کاشف عن أنّ هذه الاُمور لیست واقعیّة، بل تختلف باختلاف الأغراض والمقاصد.
نعم، لابدّ من ملاک الاتحاد فی الحمل بلا شبهة، ولکنّه غیر ما هو الموضوع له فی الهیئة؛ ضرورة أنّ العنوان الذاتیّ کعنوان «الإنسان» والعنوانَ العرضیّ کـ «العالم» ونحوه، لا یکونان متّحدین فی الخارج، بل ما هو المتّحد هو وجود الأعراض مع الجواهر اتحادَ الشیء مع کماله.
فجمیع العناوین اختراعیّة، والحمل بینها إبداعیّ، والهیئة موضوعها إثبات الاتحاد، وقد مضیٰ أنّ ملاک الصدق لیس إلاّ تمامیّة مضمون الجملة ممّا هو فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 144 نفس الأمر، والمراد من «نفس الأمر» أعمّ من الخارج، والذهن، ودرک العقل صحّة الحمل، کما فی قولنا: «الإنسان إنسان» فلا محکیّ فی مجموع القضایا حتّیٰ تکون الهیئة موضوعة للحکایة، أو لإبراز قصد الحکایة، أو لأمثالها ممّا لاتخفیٰ.
فبالجملة : لاینبغی الخلط بین حیثیّة الحمل، وحیثیّة الاتحاد؛ فإنّ الاُولیٰ ذهنیّة، والثانیة خارجیّة، فالذی هو الحامل بین العنوانین هی نفس الإنسانیّة، والهیئة لاتکون إلاّ موضوعة لما یتصدّیٰ له النفس؛ وهو حمل شیء علیٰ شیء.
وتوهّم : أنّ الموضوع له کلّی إذا کان ذهنیّاً، فی غیر محلّه؛ لتشخّصه به.
کما لاینبغی الخلط بین مباحث الألفاظ، ومسائل الفلسفة، وقد وقع ذلک فی هذه المباحث وأشباهها لکثیر من أهل الفضل والعلم. وارتباط مسائلها بعضها ببعض أحیاناً لایورث جوازه، ولایستلزم اقتناص الحقائق الحکمیّة من الإطلاقات العرفیّة والاستعمالات الدارجة فلیتأمّل؛ فإنّ التحفّظ علیه صعب جدّاً.
ثمّ إنّ فی قولنا : «إنّ مفاد الهیئة التامّة إثبات الاتحاد» إشکالاً أو إشکالین؛ وذلک لأنّ إثبات الاتحاد یستلزم دوام الصدق، ولأنّ مفاد القضایا فی الحملیّات الأوّلیة هو الاتحاد فی الذات والمفهوم، وفی الشائع الصناعیّ هو الاتحاد فی الوجود، وفی مثل «الإنسان نوع» هو الأمر الآخر.
ویمکن حلّ الأوّل : بأنّ الإثبات أعمّ من الثبوت الواقعیّ، فإن کان ثابتاً فالقضیّة صادقة، وإلاّ فهی کاذبة.
وحلّ الثانی: بأنّ المراد من «الاتحاد» هو المهمل منه، لا القسم الخاصّ، فإذا کان بین الموضوع والمحمول، نوعَ اتحاد فی وعاء من الأوعیة، فالهیئة متکفّلة لإثباته والحکم به.
وإن شئت قلت : مفاده إثبات نوع اتحاد بین الموضوع والمحمول، وأمّا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 145 خصوصیّات الاتحاد فتعرف فی موقف الاستعمال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 146