حول الجامع فی المعاملات
إن قلت : قضیّة ما تحرّر دخول ألفاظ المعاملات فی حریم التشاحّ ومورد النزاع، فلابدّ من تصویر الجامع هنا کغیرها.
قلت : ماهو التحقیق فی أسامی المعاملات، یأتی عند ذکر التحقیق فی أصل المسألة، وما هو المحتملات فیها فهی کثیرة :
فإنّه یحتمل تارة : أن یکون المسمّیٰ هنا؛ هو الأثر القهریّ الحاصل من الملکیّة والانتقال، الذی هو حکم العقلاء بعد وجود الأسباب والمؤثّرات. وهذا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 251 الحکم ـ کما مضیٰ تفصیله سابقاً ـ یکون علیٰ نعت الکلّی بنحو القضیّة التعلیقیّة: «وهو أنّه إذا تحقّق البیع أو سبب النقل، تحصل الملکیّة والانتقال» فلاتخلط.
وعندئذٍ لایمکن الجامع؛ لدوران هذا الأمر المتأخّر المعلول والأثر لما تقدّم علیه، بین الوجود والعدم، ولا أظنّ التزام أحد بذلک؛ أی بأنّ هذا هو المسمّیٰ، فلایعقل الجامع.
وما ربّما یتوهّم من عبائر بعض الأصحاب: «من کون أسامی المعاملات موضوعة للمسبّب» لیس هذا؛ فإنّه الأثر المترتّب ـ بحکم العقلاء ـ علیٰ ماهو «السبب» المقصود فی کلامهم، فلا تغفل.
واُخریٰ : یحتمل کون المسمّیٰ نفس الألفاظ بما لها من المعانی، من غیر کون هذه المعانی دخیلة فی التسمیة؛ بناءً علیٰ إمکان تعقّل مثل ذلک. ولکنّه غیر معقول؛ لأنّ قضیّة ذلک کون الألفاظ بدونها داخلة فیالمسمّیٰ، وهو واضح المنع، فیلزم التقیید.
وما اشتهر : «من إمکان التضییق بدون التقیید» کما عن العلاّمة الأراکی رحمه الله فی نظائر المقام، لایرجع إلیٰ محصّل.
وثالثة : یحتمل کونها أسامی لتلک الألفاظ بما لها من المعانی الإنشائیّة؛ فإن کانت المسمّاة ذاتها فیلزم المحذور السابق.
وإن کانت المسمّاة هی مع المعانی المترتّبة علیها إنشاء، فهو أیضاً أمر دائر بین الوجود والعدم؛ لأنّ المسمّیٰ هو السبب ـ بما هو سبب ـ بالنسبة إلی المعانی المنشأ بها، وهذا لایتّصف بالصحّة والفساد، ولا بالتمام والنقصان؛ لأنّ ما أوجده من الألفاظ غیر الموجد بها المعانی الإنشائیّة، غیر قابل للإتمام، حتّیٰ یقال: «بأنّه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 252 سبب ناقص».
فبالجملة : ترتّب المسبّب وهو المعنی الإنشائیّ علی الألفاظ، ترتّب قهریّ؛ أی لایمکن تحقّق تلک الألفاظ بما لها من المعانی، مع عدم تحقّق تلک المعانی، فیدور أمر سببیّتها لها بین الوجود والعدم، فلا جامع هنا أیضاً حتّیٰ یقع البحث فیما نحن فیه فی ذلک.
ورابعة : یحتمل کونها أسامی لتلک المعانی المنشأة بتلک الألفاظ التی هی السبب لوجودها، وتلک تکون موضوعة لحکم العقلاء، أو سبباً للانتقال، فهی مسبّبات للألفاظ، وأسباب للملکیّة والانتقال، وعند ذلک یمکن دعویٰ إمکان اتصافها بالصحّة والفساد؛ لأنّ ذلک المنشأ العقلائیّ الحاصل من الألفاظ، إن کان دائماً موضوع حکم العقلاء بترتّب الأثر، فلایدور أمره إلاّ بین الوجود والعدم.
وأمّا لو کانت النتیجة غیر دائمیّة، کما فی الفضولیّ علیٰ مقالة المشهور، فإنّ ما یصنعه الفضولیّ عین ما یوجده المالک؛ حسب الألفاظ ومعانیها ولکنّ الفرق حاصل بینهما بترتّب الأثر علی منشأ المالک، دون الفضولیّ، فإذن یصحّ أن یقال: بلحاظ ترتّب الأثر یتّصف بالصحّة، وبلحاظ عدم ترتّب النتیجة یتّصف بالباطل والفاسد، فلایدور أمره بین الوجود واللاوجود.
ولو قیل : لایوصف الشیء بالصحّة بلحاظ الأثر، وبالفساد بلحاظ عدمه؛ فإنّ الأثر حاصل من الصحیح، وما لیس بصحیح لا أثر له.
وبعبارة اُخریٰ : لایکون المرکّبات الاعتباریّة التی هی ذات أجزاء، إلاّ وهی إن کانت مستجمعة للشرائط والأجزاء، یترتّب علیها الأثر، فهی فی المرتبة السابقة علیه توصف بالصحّة وإذا لم یترتّب علیها الأثر یکشف عن الإخلال بما هو الشرط فی التأثیر، أو الجزء المعتبر قواماً، فلایوصف إلاّ بالفساد.
قلنا : لا نبالی بذلک بعدما عرفت منّا: أنّ الکلام لیس محصوراً فی مفهوم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 253 «الصحّة» أو «السلامة» أو «التمامیّة» بل هو الأعمّ من ذلک، فإذا وصف بـ «التمامیّة» هنا فهو أیضاً کافٍ. مع أنّ فقد الأثر إذا کان لفقد قید، فهو یستلزم صحّة التوصیف بـ «الصحّة» أیضاً.
فبالجملة : إمکان الجامع قد اتضح هنا، فیصحّ النزاع المذکور. فما یظهر من جمع من خروج ألفاظ المعاملات عن حریم البحث، غیر تامّ، ولاسیّما بعد اشتهار صحّة الفضولیّ عندهم، مع أنّه غیر تامّ بحسب السبب والعلّیة، فلیتأمّل جیّداً.
کما أنّ ما یظهر من جمع من أنّ تلک الألفاظ إن کانت أسامی للأسباب یجری النزاع، غیر ظاهر، إلاّ إذا رجع إلیٰ ما ذکرناه من السبب الثانی الذی هو موضوع حکم العقلاء، أو اعتبر سبباً للملکیّة.
وتوهّم : أنّ النزاع غیر صحیح؛ لأنّ المعروف بینهم أنّها إمّا للأسباب؛ وهی الألفاظ بما لها من المعانی، أو المسبّبات بمعنی الأثر والملکیّة، فی غیر محلّه؛ لذهاب الأکثر إلیٰ ما شرحناه، وإن کان فی کلماتهم الإجمال والإهمال. مع أنّ المقصود تحریر النزاع المعقول.
ومن هذا القبیل توهّماً : أنّ الثمرة لا تترتّب علیٰ هذا النزاع، وسیأتی دفعه. مع أنّ البحث الکلّی لابدّ وأن یکون مثمراً فی الجملة، ولا یلزم کونه فی جمیع جهاته وحیثیّاته ذا ثمرة، کما لایخفیٰ.
وخامسة : یحتمل کونها أسامی لما هو المؤثّر بالفعل، لا المسبّب، ولا السبب الناقص، بل السبب التامّ، وعندئذٍ لایجری النزاع؛ لعدم وجود الجامع بین
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 254 الصحیح والفاسد.
وسادسة : یحتمل کونها أسامی للمعتبر النفسانیّ وإن لم یکن مبرزاً بإحدی المبرزات، فإن کان هذا المعتبر النفسانی والتبادل الذهنیّ من الذی یلیق بذلک، یکون معتبره صحیحاً، وإلاّ فهو فاسد، فإذا اعتبره البالغ الرشید یکون صحیحاً عرفاً وشرعاً، وإذا اعتبره الممیّز الرشید یکون صحیحاً عرفاً فقط، وفاسداً شرعاً، وإذا اعتبره غیر الممیّز یعدّ فاسداً علی الإطلاق.
ثمّ إنّه قد یقال : بإمکان تصویر الجامع بالنظر إلی الشرائط الشرعیّة، فیکون المسمّیٰ ماهو المستجمع للشرائط العرفیّة، فإن کانت جامعة للشرائط الشرعیّة أیضاً فهی الصحیحة، وإلاّ فهی الفاسدة.
فالصحّة والفساد تارة : یلاحظان فی اُفق العرف بالنسبة إلی الماهیّة العرفیّة، فعندئذٍ لا یدور الأمر إلاّ بین وجودها وعدمها.
واُخریٰ : یلاحظان فی نظر الشرع بالنسبة إلی تلک الماهیّة، فعندئذٍ تتّصف تلک الماهیّة بـ «الصحّة» و «الفساد».
وتمامیّة النزاع علیٰ هذا، متوقّف علیٰ إمکان الالتزام بالحقیقة الشرعیّة فی المعاملات، حتّیٰ یقال: بأنّ الشرع تصرّف فی محیط العرف ولغتهم، واختار وضع تلک الألفاظ لما هو الصحیح عنده؛ والمؤثّر فی نظره. ولکنّه ممّا لایلتزم به الأخصّی؛ لرجوعه إلی أنّ الأعمّی یدّعی: أنّ ماهو المسمّیٰ هو المؤثّر العرفیّ وإن کان باطلاً شرعاً، والأخصّی یدّعی: أنّ ما هو المسمّیٰ هو المؤثّر الشرعیّ الذی إذا تحقّق ینتزع منه عنوان «الصحّة».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 255 وربّما یخطر بالبال أن یقال : بأنّ مفهوم «الصحیح» لیس إلاّ ماهو المستجمع المؤثّر، وما لا یکون مستجمعاً لشرائط التأثیر والسببیّة أو الموضوعیّة، یکون فاسداً، فإذا کانت معاملة عند الشرع باطلة، فلیس یعقل ذلک إلاّ باعتبار قید أو شرط فی التأثیر والموضوعیّة، فیلزم التصرّف القهریّ ـ بنحو القانون الکلّی ـ فی ماهیّة البیع ونحوها؛ باعتبار الجزء أو الشرط فیها، فعندئذٍ لابدّ من الالتزام بالأخصّ فی تلک الألفاظ، أو یلزم صحّة الاحتمال المذکور، فیجری النزاع المشهور.
وأمّا نظر العرف، فإن کان من الملّة الإسلامیّة مثلاً التابعة للقوانین الإلهیّة، فبعد مضیّ المدّة الطویلة، تصیر تلک الألفاظ حقیقة عرفیّة ثانویّة عندهم فیما هو المؤثّر فی القانون الإسلامیّ؛ ضرورة انقلاب العنایات العرفیّة حسب إعمال القوانین الشرعیّة، أو القوانین العرفیّة المخلوقة لمجامیع البشر، فافهم وتدبّر.
وبالجملة : الاعتبارات المخلوقة للبشر الأسبق، لاتکون دائمة الوجود، بل هی دائماً تابعة للمعتبرین، فإذا تبدّل فی محیطٍ واُفقٍ بناءُ المعتبرین إلیٰ تغییر القانون الموجود عندهم، أو تصرّفوا فی قیوده نفیاً أو إثباتاً، تتبدّل المعتبرات الموجودة، وتضمحلّ إلیٰ ما اعتبر بعد ذلک، فلایکون ما هو السبب للملکیّة فی الأسبق، سبباً فی تلک الحیطة، لا أنّه سبب عند الآخرین؛ فیتّصف بالفساد عند اللاّحقین، بل هو بماهیّته ینعدم.
نعم، الاعتبار الانفرادیّ، أو من القانون غیر النافذ فی ملّته، لایورث تغییر المعتبرات قهراً، فیبقیٰ ما کان نافذاً بینهم علیٰ حاله، فیلاحظ حینئذٍ أنّ الشرائط علیٰ قسمین: شرائط نافذة فی الملّة وما لیس نافذاً، ولکنّه دخیل عند القانون، فافهم وتدبّر فیما أسمعناک، وسنزیدک توضیحاً من ذی قبل إن شاء الله تعالیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 256