وضع الألفاظ لذوات المعانی
هل الألفاظ موضوعة لذوات المعانی، فیکون «الإنسان» موضوعاً لطبیعة الحیوان الناطق؟
أو هی موضوعة لتلک المعانی المتقیّدة بالإرادة بالحمل الشائع، أو المتقیّدة بها بالحمل الأوّلیّ؟
أو المتضیّقة علیٰ نعت القضیّة الحینیّة، فلا یکون تقیید فی جانب الموضوع له، ولکن مع ذلک لا إطلاق فی مقام الوضع؛ لأنّ التقیید یستلزم المحذور، وهکذا الإطلاق؟
أمّا محذور التقیید ؛ فللزوم کون الموضوع له خاصّاً فی الفرض الأوّل، ولزوم کون جمیع الاستعمالات مجازاً فی الفرض الثانی.
وأمّا محذور الإطلاق، فهو اللغویّة؛ لأنّ الأعمّیة ممّا لا معنیٰ لها بعد کون الوضع بداعی الإفهام، فعلیه یتعیّن الحدّ الوسط، وهو خیر الاُمور.
أقول : البحث هنا مخلوط، وقد وقع الأعلام فی الخلط بین الأغراض والمقاصد المتأخّرة ـ وهی التی تکون ملحوظة فی الاستعمالات ـ وبین ما هو الملحوظ تصوّراً حین الوضع وإنشاء العلقة الاعتباریّة، والذی هو محلّ الکلام فی المقام هو الثانی، والأوّل من توابعه، ولایجوز لحاظ الجهات الموجودة فی مرحلة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 181 الاستعمال فی مرحلة الوضع والإنشاء.
وقد تقرّر : أنّ تلک العلقة بین الألفاظ والمعانی، تحصل بالأسباب المختلفة، ومنها: التعهّد والتبانی، فإنّه یورث حصولها وإن لم یکن استعمال، وإلاّ یلزم عدم الموضوع له للألفاظ، ویکون کتب اللغة لغواً؛ لأنّ ما هو الموضوع له هو المعانی حال الاستعمال، لا الأعمّ، مع أنّ ضرورة الوجدان قاضیة علیٰ خلافهم. فما فی «الدرر» لشیخ مشایخنا الحائری رحمه الله لایخلو من تأسّف.
وتوهّم : أنّ ذکر المعنیٰ بعد إلقاء اللفظ فی عالم التصوّر من أجل شدّة الاُنس ـ مع أنّه منقوض بما إذا لم یکن العالم بالوضع مأنوساً ـ یستلزم المحذور الآخر: وهو أنّ المتکلّم بقوله: «الأسد یرمی» مادام لم یفرغ من الکلام، لایخطر بالبال لأجل الوضع من کلامه شیء، بل الخطور لأجل الاُنس أوّلاً، ثمّ بعد تمامیّة قوله: «یرمی» یخطر ثانیاً لأجل الوضع، والالتزام بهذا المحذور کالالتزام بالتناقض جدّاً.
فما نسب إلی العلمین البلخیّ والطوسی رحمه الله من إنکار الدلالة الوضعیّة، وإثبات انحصار الدلالة بالتصدیقیّة؛ أی بالجمل المستعملة، أو نسب إلیهما: من کون الموضوع له مقیّداً بالإرادة والقصد، غیر قابل للتصدیق؛ ضرورة أنّ القضیّة مرکّبة من الدلالة التصوّریة والتصدیقیّة، ولا یعقل دلالة الموضوع علی التصدیق، أو علی التصوّر والتصدیق، کما لا یعقل إنکار دلالته، ولا شبهة فی أنّ الدلالة من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 182 متفرّعات الوضع، وعدم دلالة کلمة «الأسد» علیٰ شیء بالوضع عند الإلقاء، لاینافی دلالته علیه حین إفادة الجملة.
مع أنّ الإرادة لا تتعلّق بالمعنی التصوّری، بل تتعلّق بالمعنی التصدیقیّ، فالمتکلّم ناهض ومرید لإثبات رمی الأسد؛ وأنّه یرمی، ولا یکون مریداً للأسد، فـ «الأسد» یدلّ علی المعنی مع أنّه لیس مراداً قطعاً، والإرادة المتعلّقة بالاستعمال موجودة فیما إذا أراد إلقاء الأسد؛ یعلم أنّ المخاطب یفهم منه شیئاً ویخطر بباله معنی، أم لا، فهی مشترکة بین الصورتین والفرضین.
فتحصّل : أنّ احتمال دخول الإرادة فی الوضع، منشأه الغفلة عن أنّ تلک الصفة، من الأوصاف المتعلّقة بالمعانی التصدیقیّة، ولا یعقل تعلّقها بالمعانی التصوّریة؛ سواء کانت هی مصحوبة بالتصدیقیّة، أو کانت خالیةً عنها؛ وکانت لمجرّد الاطلاع علیٰ أنّ المخاطب عالم باللغة أم لا. وما یستظهر من کلمات القوم صدراً وذیلاً، لایخلو من مناقشات لا خیر فی إظهارها وإفشائها.
هذا، وکان الأولیٰ أن یجعل عنوان البحث حول أنّ الهیئات التامّة موضوعة للمعانی المرادة، أم لا، حتّیٰ یقال: بأنّها موضوعة لإثبات المعانی المرادة، کما عرفت منّا تفصیله. فما اشتهر فی عنوان البحث لایخلو من التناقض؛ لأنّ معانی الألفاظ لیست قابلة لتعلّق الإرادة بها، وما هو قابل لتعلّق الإرادة به فرضاً هو معنی الهیئات، فافهم وتدبّر جیّداً.
وإن شئت قلت : ما یمکن أن یجعل عنواناً فی البحث هنا: «هو أنّ الألفاظ هل هی موضوعة للمعانی المتصوّرة بما هی متصوّرة، أم لا» والجواب: هو أنّها
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 183 لذوات المعانی؛ بحکم التبادر.
ولک إحداث البحث الآخر حول ما هو الموضوع للهیئات التامّة، کما اُشیر إلیه، والجواب ما عرفت الإیماء إلیه: وهو أنّ الضرورة قاضیة بأنّ الإرادة تتعلّق بإثبات المحمول للموضوع؛ وإثبات نحو من الاتحاد بینهما، فهی علّة، وذاک معلول، ولا وجه لکون العلّة بعنوانها قیداً لمعلولها.
مع أنّ المتبادر من معنی الهیئات، هو الأمر الخالی من هذه الجهات، وما قیل: من لزوم اللغویّة، واضح المنع؛ لأنّ اللغو الباطل، هو الوضع للمعنیٰ مع العلم بعدم الاستعمال أبداً، دون الوضع للمعنیٰ مع العلم بالاستعمال فی الجملة، ولا حاجة إلی جعل الألفاظ موضوعة للمعانی المضیّقة غیر القابلة للانطباق إلاّ علی المراد.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 184