استعمال اللفظ فی اللفظ
إذا قیل : «زید لفظ» أو «ثلاثیّ» أو «کیف مسموع» أو قیل: «ضرب فعل ماضٍ» أو قیل: «زید فی قولک هذا: ضرب زید، فاعل» أو قیل: «زید فی جملة ضرب زید، فاعل» فهل هذا من قبیل استعمال اللفظ فی المعنیٰ، إلاّ أنّ المعنیٰ هنا هو اللفظ، فیکون استعمال اللفظ فی اللفظ؟!
أو هو من سنخ آخر فی باب المحاورات العرفیّة، ولیس استعمالاً فیه، بل هو الإلقاء والإطلاق والإیجاد، فیکون من قبیل الإشارة إلی الموجود الخارجیّ والحکم علیه «بأنّه عالم» أو «قائم» فلا تکون القضیّة الملفوظة ذات موضوع ملفوظ، بل هو محذوف ومعلوم، فتکون القضیّة مرکّبة من الموضوع الخارجیّ والمحمول اللّفظی؟
فهاهنا طریقان : المشهور هو الأوّل، والذی اختاره بعض السادة من أساتیذنا هو الثانی، وکنّا فی سالف الزمان نؤیّده.
والحقّ هو التفصیل: بین ما کان من قبیل الإطلاق والإلقاء وإرادة الشخص، کما فی المثال الأوّل، فإنّه من قبیل الثانی، وما کان من قبیل الاستعمال وإرادة النوع والمثل والصنف، کما فی الأمثلة الاُخریٰ، فهو من قبیل الأوّل، وذلک لشهادة الوجدان، ومساعدة البرهان؛ ضرورة أنّ لفظ «زید» فی الجملة المعروفة لایکون
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 173 حاکیاً، ولا دالاًّ، فلا یکون مستعملاً فی شیء لأنّ الاستعمال یلازم الدلالة والحکایة.
ولا أقول هذا للزوم اتحاد الدالّ والمدلول، حتّیٰ تصبح المسألة فی وادٍ آخر خارج عن المقام، بل الوجدان قاضٍ بذلک.
فما هو الموضوع فی القضیّة موجود خارجیّ، ولو کان حاکیاً عن أمر ذهنیّ تکون القضیّة کاذبة؛ لأنّ زیداً المعقول لیس ملفوظاً، ولا شیء آخر حتّیٰ یکون هو الحاکی عنه، ولا داعی إلی الالتزام بالاستعمال، ولا برهان علیه.
وما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فی المقام، یناقض ما أفاده فی حروف الإشارة؛ ضرورة أنّ الخارج یکون موضوع القضیّة، ومحکوماً علیه، کما فی الإشارة بالإصبع إلی العین الخارجیّة؛ والحکم علیها «بأنّها کذا وکذا».
ولیس ذلک معناه نیل الخارج حتّیٰ یلزم الخلف؛ لأنّ ما هو فی الخارج إذا نالته الأنفس یکون ذهنیّاً، بل لو کان ذلک منقلباً إلی الذهن یلزم کذب القضیّة فـ «زید» فی قولنا: «زید لفظ» وإن کان مسبّباً لحصول الصورة المعقولة من الکیف المسموع غیر القارّ، إلاّ أنّ المحکوم علیه لیس تلک الصورة؛ لأنّها لیست ملفوظة.
فما کان هو الملفوظ، هی الحرکة الخارجیّة الصادرة من مخارج الحروف المرکّبة منها کلمة «زید» وسائر الکلمات والحروف والجمل، وهذا هو الموضوع للقضیّة، دون الأمر الآخر، کما إذا قیل : «العدم موجود» مریداً به وجوده اللفظیّ أو الکتبیّ، فإنّ الموضوع فی هذه القضیّة أیضاً نفس ما هو الصادر، ولا أمر وراء ذلک حتّیٰ یکون العدم دالاًّ علیه، وحاکیاً عنه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 174 وأمّا حدیث الاختلاف الاعتباریّ بین الدالّ والمدلول، فیکون ما نحن فیه من قبیل الاستعمال، فهو ـ مضافاً إلی عدم البرهان علیٰ لزومه ـ غیر تامّ؛ للزوم الجمع بین اللحاظین المتنافیین غیر القابل للارتفاع بالاعتبارین المختلفین.
ولو سلّمنا عدم تقوّم الاستعمال بحقیقته باللحاظ الآلیّ والاستقلالیّ، بل ذلک فی نوع الاستعمالات، دون ماهیّتها، فیکون الاستعمال فی المقام بمعنیٰ سببیّة اللفظ الموضوع لحضور الصورة المعقولة منه، ثمّ بعد ذلک تنطبق تلک الصورة المعقولة علی الموضوع الملفوظ المحکوم علیه «بأنّه لفظ» أو «ثلاثیّ» أو «کیف مسموع» أو غیر ذلک، فلا تعدّد فی اللحاظ، بل التعدّد یحصل بالاستعمال الإیجادیّ؛ فإنّه أیضاً نوع من الاستعمال، فلا نسلّم کون ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لشهادة الذوق السلیم علیٰ خلافه.
مع أنّ ما ذکرناه فی الحروف الإیجادیّة، لیس من الاستعمال، فحروف النداء موضوعات لاعتبار النداء بعد الإلقاء والإیجاد، ولیست مستعملات فی المعانی الموجودة بها، فتأمّل.
وممّا یشهد علیٰ ما ذکرناه قولنا: «دیز مقلوب زید» فإنّ ما ذکرناه فیه من الواضح، کالنار علی المنار. هذا مع أنّ الاختلاف الاعتباریّ بین الدالّ والمدلول، لایستلزم تعیّن کون ما صدر دالاًّ، وهو بنفسه مدلولاً؛ لإمکان العکس، ولامعیّن فی البین.
فعلی ما تقرّر ، تکون القضیّة المعروفة «زید لفظ» قضیّة موضوعها الموجود الخارجیّ، ومحمولها المعنی الکلّی؛ بالاستعمال الحقیقیّ، ولا برهان علیٰ لزوم کون القضیّة الملفوظة حذاء القضیّة الخارجیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 175 وإن شئت قلت : إنّ هنا تکون القضیّة الملفوظة عین القضیّة الخارجیّة، أو تکون القضیّة هنا مرکّبة من الموضوع الخارجیّ الذی هو الملفوظ، والمحمول اللفظی المتّحد مع الموضوع خارجاً. هذا کلّه فیما إذا اُطلق اللفظ، واُرید شخصه.
وأمّا فیما وراء ذلک؛ ممّا کان الموضوع غیر مشمول للمحمول، کما فی الأمثلة الاُخر، ومنها: ما إذا اُطلق اللفظ واُرید منه جنسه، کقوله: «ضرب فعل ماضٍ» فإنّ المتبادر منه الانتقال من هذه اللفظة إلی المصادیق المستعملة منه فی الجمل، ولا یکون المقصود ما إذا أطلق واُرید منه نفس الطبیعة النوعیّة؛ لأنّها لیست فعلاً ماضیاً، فما هو الفعل الماضی هو المستعمل فی الجمل، فعلیٰ هذا یکون فی الحقیقة استعمالٌ، إلاّ أنّه مجازیّ.
ولکنّه لا بمعنی استعمال اللفظ فی غیر ما هو الموضوع له، بل بالمعنی الذی عرفت منّا فی الاستعمالات المجازیّة.
إن قلت : مجرّد الانتقال إلیٰ أمر وراء اللفظ، لیس من الاستعمال.
قلت : نعم، إذا اُرید منه الاستعمال الحقیقیّ، وأمّا الاستعمال المجازیّ، فهو لیس إلاّ الانتقال من اللفظ إلیٰ ما اُرید به؛ وما هو المقصود للمتکلّم حین الاستعمال، فحقیقة الاستعمال: هی الاستفادة من اللفظ لإحضار أمر ذهنیّ، هو مقصود المتکلّم ومرامه ومراده، وبهذا المعنیٰ یمکن استعمال «البیاض» فی السواد وبالعکس.
فتحصّل : أنّ کلمة «ضرب» اُطلقت واُرید منها ما هو المستعمل فی الجملة التصدیقیّة، وهذا هو الاستعمال؛ أی الاستفادة من اللفظ لإحضار ما هو الأمر الغائب عن الناس، ویکون ذهنیّاً ونفسانیّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 176 فما ذهب إلیه بعض الأعلام ـ مع الالتزام بالتکلّفات الباردة ـ غیر لازم جدّاً، فلاتغفل.
وإجماله : هو أنّ المتکلّم الموجد للفظة «ضرب» إذا أتیٰ بعد ذلک بقوله: «لفظ» فهو القرینة علیٰ أنّه أراد منه شخص هذا اللفظ.
وإذا أتیٰ بعد ذلک بقوله: «فعل ماضٍ» فهو القرینة علیٰ أنّه أراد منه الطبیعة، مع إلغاء الخصوصیّة، أو عدم لحاظها.
وإذا أتیٰ بقوله: «فعل ماضٍ فی قولی: ضرب زید» فهو القرینة علیٰ إرادته ما یماثله فی خصوص هذه الجملة.
وإذا أتیٰ بقوله: «فعل ماضٍ فی جملة: ضرب زید» فهو القرینة علیٰ إرادة الصنف منه.
ففی جمیع الصور، یکون إلقاء اللفظ وإیجاد الموضوع، وباختلاف الحکم یعلم نظره.
وفیه نقضاً : أنّه یلزم کون الموضوع فی هذه القضایا مشمول المحمول، مع أنّ الأمر واضح المنع.
وتوهّم : أنّه ممّا لا بأس بالالتزام به، من أفحش المفاسد والغرائب؛ ضرورة أنّ کلمة «ضرب» لیس فعلاً ماضیاً، بل الفعلیّة والماضویّة والمضارعیّة من أوصاف المعانی، لا الألفاظ حتّیٰ یقال: بأنّها فی هذه الجملة أیضاً فعل ماضٍ، ولکنّها لم تستعمل فی الفعل الماضی، فلاتخلط.
وحلاًّ : أنّ الوجدان قاضٍ باختلاف إرادة المتکلّم الذی یرید الإخبار عن ماضویّة «ضرب» فی جمیع الجمل بنحو القضیّة الحقیقیّة، والذی یرید إیجاد اللفظ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 177 وإرادة النوع منه؛ فإنّ بین المتکلّمین بعد التحلیل فرقاً واضحاً، وعلیه یمکن الأخذ بالمسلکین: الاستعمال، والإلقاء. ولکنّ الذی هو المتفاهم العرفیّ هو الأوّل، دون الثانی.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الاستعمال المجازیّ فرع الاستعمال الحقیقیّ، فإذا لم یکن الاستعمال الحقیقیّ فیما نحن فیه ـ لعدم الوضع الآخر لکلمة «ضرب» غیر الوضع النوعیّ لمادّتها وهیئتها ـ فلا معنیٰ للاستعمال المجازیّ.
ویمکن دعوی الاستعمال الحقیقیّ؛ لما عرفت: من إمکان الوضع بالاستعمال، فللمتکلّم وضع کلمة «ضرب» بالوضع الشخصیّ، إلاّ أنّه من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فیکون ممتنعاً، إلاّ بالوجه الذی عرفت منّا فی محلّه، فلیتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 178