حکم الشبهة الموضوعیّة
بقی الکلام فیما هو المهمّ فی المقام: وهو فهم حکم الشبهة الموضوعیّة الخارجیّة المردّدة بین کونها مصداقاً للعنوان الخارج عن العامّ أو الإطلاق، أو بقاء الإرادة الجدّیة؛ کی یکون المرجع نفس العامّ حتّیٰ لا یلزم التمسّک به فی الشبهة المصداقیّة.
وحیث إنّ الإطلاق والعموم باقیان علیٰ حالهما، یصحّ إمّا أن یقال: «هذا الحیوان ما کان میتة، فالآن لیس بمیتة» أو یقال: «هذا الحیوان کان لم یُذکَّ» أو «کان غیر مذکّیٰ، والآن کما کان» أو «هذا الحیوان لم یکن قابلاً للتذکیة، فالآن کما کان» فلو کان لعنوان القابلیّة فرضاً أثر، فهو ینتفی بالاستصحاب من غیر حاجة إلیٰ إثبات شیء.
بل ما هو المانع من التمسّک بالعامّ والإطلاق یرفع تعبّداً، فیکون المرجع نفس الدلیل، وهذا هو حقیقة ضمّ الوجدان إلی الأصل؛ لرجوعه إلی التمانع الخارجیّ فی الاحتجاج والتضادّ الوجودیّ، من غیر رجوعه إلی التقیید فی مرحلة الإنشاء والجعل.
نعم، یدور الأمر بین إجراء الاستصحاب المنتهی إلیٰ حلّیة المشکوک لنفی کونه میتة، الذی هو العنوان الخارج عن الإطلاق والعامّ، وبین إجراء الاستصحاب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 494 المنتهی إلی الحرمة، کما فی الفروض الاُخر.
نعم، فی الفرض الأوّل المحرّر عندنا یجری العدم الأزلیّ والنعتیّ؛ لأنّ اختلاف الصورة النوعیّة لا یضرّ بوحدة موضوع القضیّتین.
وبالجملة: حیث إنّ قوله تعالیٰ: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ» یوجب تقیید قوله تعالیٰ: «اُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأنْعَامِ» وغیر ذلک، فلازم جریان الاستصحاب الأوّل جواز التمسّک بدلیل الحلّ.
مع أنّ الأشبه أنّ قوله تعالیٰ: «إلاَّ مَا ذَکَّیْتُمْ» أو موثّق ابن بکیر: «إلاّ ما ذکّاه الذبح» لیس إلاّ إشعاراً بأنّ ما ذکّیتم لیس بمیتة؛ حسبما ورد فی جملة من الأخبار من عدّ ما لا تجتمع فیه شرائط التذکیة من المیتة، وهو المنتفی به.
هذا، ولو قلنا: بأنّ الحیوانات الطاهرة الحیّة وإن کانت طاهرة، ولکنّها لیست حلالاً إلاّ عند ورود التذکیة علیها، ویکون عنوان «البهائم» وسائر الحیوانات المحلّلة حلالاً بحسب الطبع، وإنّما ثبت بدلیل منفصل علیٰ نحو القضیّة الشرطیة أنّها إذا ذکّیت تصیر حلالاً، فهو ذو وجوه واحتمالات، إلاّ أنّ الأشبه والأقرب أنّها بصدد بیان ما یوجب خروجها عن صیرورته میتة عند زهوق الروح، فلا تصل النوبة إلی الاستصحاب التعلیقیّ کی یقال: بأنّ هناک مفهوماً: وهو «أنّ هذا الحیوان کان إذا ذکّی یحلّ» وحیث شکّ فلم یکن ذکّی، فلا یحلّ استصحاباً، بل هو یرجع ـ حسب الجمع بین الأخبار ـ إلیٰ أنّه إذا ذکّی فلا یکون میتة، فیحلّ حسب الإطلاق.
وممّا حصّلناه تبیّن أوّلاً: أنّ التفصیل بین الشکّ فی القابلیّة والتذکیة بحکم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 495 واحد. ولو اُرید التفصیل ـ کما عن العلاّمة الأراکیّ رحمه الله ـ فاستصحاب عدم القابلیّة المنتهی إلی الحرمة، أوضح من استصحاب عدم التذکیة.
وثانیاً: أنّ مقتضیٰ خروج عنوان «المیتة» وورود التقیید حلّیة المشکوک، لا الحرمة.
والذی ربّما یقال: إنّ جریان الاستصحاب علی الإطلاق فی الشبهة الموضوعیّة الخارجیّة ممنوع، وأمّا استصحاب عدم کون شرط الضمان مخالفاً للکتاب فهو المتّبع، کما حرّرناه فی الإجارة؛ ضرورة أنّه فی الفرض الأوّل، لایعقل الإشارة إلی الحیوان الموجود أو الجسم الموجود فی الخارج ـ علیٰ نحو یکون محموله من تبعات الماهیّة، أو الوجود اللازم غیر المفارق ـ لما لا سابقة له بالضرورة، فإنّ الجسم المذکور لا ماهیّة له بلا وجود فی الخارج، کی لا تکون لها لازم الماهیّة وهی القابلیّة؛ لأنّه إمّا وجد مع القابلیّة، أو وجد بدون القابلیّة، فلا یدور الأمر بین کون الأصل مثبتاً، أو کونه بلا حالة سابقة، کما تریٰ فی کلمات جلّهم.
بل حیث لا یتقیّد الإطلاق بقید المقیّد ولا بشیء آخر ـ کما هو المحرّر فی العمومات ـ ینحصر الأمر فی شیء آخر: وهو فقد الرکن الأوّل فی الاستصحاب.
فما هو له الحالة السابقة هو الکلّی؛ فإنّ الحیوان ما کان له القابلیّة، إلاّ أنّه انتقض بیقین آخر؛ لوجود القابلیّة لجملة منه. وهذا المشتبه فی الخارج لا حالة سابقة له کی یشار إلیه ویقال: «هذا الحیوان لم یکن له القابلیّة» ضرورة أنّ القابلیّة والمیتة وغیرهما من تبعات الوجود بالذات، أو الماهیّة المتأخّرة فی الخارج عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 496 الوجود حسبما تحرّر؛ فإنّ للوجود سبقاً بالحقیقة علی الماهیّة بالضرورة، وإلاّ یلزم مفاسد کثیرة محرّرة فی «قواعدنا الحکمیّة» وهکذا الأمر فی المیتة، أو قولک: «هذا الحیوان لم یکن مذکّیٰ».
ولکن الإنصاف: أنّ القضیّة المتشکّلة فی غیر المسائل الشرعیّة، صحیحة من غیر لزوم کون العدم الأزلیّ أو العدم فی الحال أو الاستقبال یختلف، ومن غیر لزوم فساد القضیّة بعد تحقّق الموضوع.
مثلاً: یجوز أن یقال: «هذا الرجل ما کان واجب الوجود، ولیس واجب الوجود، ولا یصیر واجب الوجود» فلو کان لوجوب الوجود أثر فهو ینتفی طبعاً؛ وذلک لأنّ موضوع القضیّة محفوظ فی جمیع القضایا الثلاث.
فلو قلنا: «بأنّ هذه البهیمة ما کانت میتة، ولیست الآن میتة» یرفع حکم المیتة، ویتمسّک بإطلاق قوله تعالی: «اُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأنْعَامِ».
ولو کان العنوان المقیّد الذی یکون قرینة علیٰ عدم الجدّ فی المطلقات غیرَ المیتة، مثل «غیر المذکّیٰ» فرضاً، أو «ما لم یذکّ» یصحّ أن یقال: «هذه الشاة ما کانت غیر مذکّاة» أو «لم تذکّ، والآن کما کان استصحاباً» وکان ذلک بالقیاس إلیٰ تحریم المیتة، أو تنجیس ما لم یذکّ وتحریمه حسب الأدلّة الاجتهادیّة، فإنّه یلزم جواز التمسّک بالإطلاق المذکور، ونتیجته هی الحرمة والنجاسة علیٰ وجه، وهذا أمر مربوط بالفقه.
والذی هو الأشبه: أنّ العمومات أو المطلقات أوّلاً أفادت الحلّیة أو الطهارة، وإذا ذبحت علیٰ طریق غیر مشروع تعدّ نجسة ومیتة وحراماً. فاستصحاب العدم الأزلیّ یجری فی صورة کون المقیّد والمخصّص منفصلاً، إلاّ أنّه یفید الحلّیة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 497 والطهارة، لا الحرمة والنجاسة، خلافاً للکافّة فی المسألة الاُصولیّة والفقهیّة.
نعم، استصحاب عدم القابلیّة لرفع حکم القابلیّة بلا أثر؛ لأنّها غیر موضوعة حسب الظاهر، وإنّما هی أمر اتخاذیّ واصطیادیّ من الموارد الخاصّة.
ولو شکّ، وکان المفروغ منه انحصار الحرمة بعنوان «المیتة» أو ما یرجع إلیها کما عرفت، لا حاجة إلی استصحاب عدم القابلیّة، بل یجری استصحاب عدم کون هذا الحیوان میتة.
فما فی کلام القائلین بجریان العدم الأزلیّ من : ترتیب الحرمة والنجاسة، أو خصوص الحرمة، غیر سدید. کما أنّ ما فی کلمات القائلین بعدم جریانه؛ لکونه إمّا بلا سابقة، أو هو مثبت کما عن الأکثر، غیر صحیح. وما عن شیخ مشایخنا: من التشبّث بذیل العرف لإجرائه والتحریم والتنجیس، غیر تامّ.
نعم، فی کلام سیّدنا الاُستاذ البروجردیّ: دعوی انصراف أدلّة الاستصحاب عن أمثال هذه الموارد، أو خصوص العدم الأزلیّ، وهی غیر ظاهرة الفساد، إلاّ أنّ إجراء العدم النعتیّ دون الأزلیّ غیر تامّ.
وهم ودفع
إنّ أصحابنا أهل الفقه والاُصول، اعتقدوا أنّ حدیث أصالة عدم التذکیة أو عدم القابلیّة، أجنبیّ عن مسألة العامّ والخاصّ المنفصل، بل هو من الشبهة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 498 الموضوعیّة لعنوان هو إمّا «غیر المذکّیٰ» أو «المیتة» علیٰ سبیل منع الخلوّ؛ بمعنیٰ أنّ المذکّیٰ حلال وطاهر، وغیر المذکّیٰ حرام ونجس مثلاً علیٰ سبیل التنویع، کالمسافر والحاضر، لا المطلق والمقیّد.
ولذلک استشکلوا: بأنّ العدم المطلق الأزلیّ لا یعقل أن یکون موضوع حکم إلاّ فی ظرف وجود الحیوان، ولا یثبت به حکمه إلاّ بالأصل المثبت، فالعدم الخاصّ المقرون لا سابقة له، والعدم الکلّی لا یمکن أن یثبت به الحکم. مع أنّه لا یعقل أن یکون موضوعاً لحکم فی الأدلّة الاجتهادیّة؛ کی یقال بکفایة الأثر فی ظرف الشکّ.
ویندفع بما عرفت تفصیله : من أنّ ما هو الموضوع ـ حسب القانون العامّ أو المطلق ـ هو «البهیمة» أو «الأنعام» أو العناوین الخاصّة «کالطائر» الدالّ علیٰ حلّیته الأمارات الخاصّة أو العامّة، أو بعناوینها الخاصّة، وهکذا قضیّة القابلیّة مع قطع النظر عن أنّها اصطیادیّة کمامرّ، وإنّما یکون مقتضیٰ تحریم المیتة وتنجیسها أوتحریم غیر المذکّیٰ وتنجیسه فرضاً، هو عدم تطابق الجدّ والاستعمال فی موارد انطباق هذه العناوین، فیلزم عدم صلاحیّة العموم والإطلاق للاحتجاج فی تلک الموارد.
وإذا جرت الاُصول النافیة لإخراج مورد الشبهة الموضوعیّة من عنوان المقیّد والمخصّص، یکون العامّ والمطلق صالحاً للاحتجاج، کما فی العدم النعتیّ، وعندئذٍ إن قلنا: بأنّ «غیر المذکّیٰ» فی الشریعة توضیح المیتة علیٰ سبیل العموم، کما هو الأشبه بالکتاب والسنّة، فلا یجری إلاّ استصحاب عدم کون هذه البهیمة میتة، فیکون المرجع بعد ذلک نفس المطلقات.
وإن قلنا: بأنّ «المذکّیٰ» عنوان للحلّیة والطهارة، و«المیتة» للحرمة والنجاسة، و«غیر المذکّیٰ» للحرمة والنجاسة مثلاً علیٰ سبیل التنویع، فهو فاسد. إلاّ أنّه لا سبیل إلی القول بجریان العدم الأزلیّ علی الإطلاق، ولا منعه علی الإطلاق؛ ضرورة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 499 أنّه یصحّ جعل الحکم علیٰ عنوان «المیتة» وأمّا جعله علیٰ عنوان «غیر المذکّیٰ» علیٰ وجه یشمل العدم الأزلیّ والسلب التحصیلیّ، فغیر ممکن.
اللهمّ إلاّ أن یقال: کما یمکن علیٰ نعت السلب التحصیلیّ سلب عنوان «المیتة» یمکن سلب عنوان «غیر المذکّیٰ» فیقال: «لم یکن هذا الحیوان» أو «هذا الموجود والجسم غیر مذکّیٰ» لأنّ عنوان «غیر المذکّیٰ» معدولة المحمول المفروض وجود موضوعه فی القانون والأدلّة، فإذا شکّ فی الحیوان المذبوح یصحّ أن یقال: «إنّه ما کان غیر مذکّیٰ» أی ما کان موضوعاً للحکم الإلٰهیّ «والآن کما کان» وتصیر النتیجة سلب التحریم والتنجیس، فعلیٰ هذا یجری العدم الأزلیّ علی الإطلاق.
نعم، هو معارض؛ لأنّه کما یصحّ أن یقال: «هذا الطیر أو هذه البهیمة لم تکن غیر مذکّاة» یصحّ أن یقال: «ما کانت مذکّاة» فإذا لم تکن مذکّاة ینتفی حکم المذکّیٰ؛ وهو الحلّیة والطهارة مثلاً، وإذا لم تکن غیر مذکّاة ینتفی حکم غیر المذکّیٰ؛ وهو الحرمة والنجاسة مثلاً.
وعلیٰ کلّ تقدیر: تبیّن طریق حلّ مشکلة المسألة حسب مجاری الاُصول. إلاّ أنّ المهمّ فهم کون الحرمة والحلّیة، والطهارة والنجاسة، مترتّبین علیٰ نعت العامّ والخاصّ، أو التنویع، وعلی الفرض الأوّل هل العامّ والإطلاق هو حلّیة البهیمة وخروج المیتة، أو حرمة غیر المذکّیٰ وخروج المذکّیٰ؟ وقد عرفت أنّ الأوّل هو التحقیق، والتفصیل یطلب من محلّه.
وغیر خفیّ: أنّه لا یکون فرق بین کون مفاد القید تحریماً نفسیّاً، أو قرینة محضة علیٰ عدم ثبوت الحکم الفعلیّ بالنسبة إلیٰ مورده، فلا فرق بین أن یکون المخصّص تحریم إکرام الهاشمیّ، أو کان المخصّص رفع الوجوب المتوهّم فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 500 مورده، ففیما نحن فیه ـ ولو کان المقیّد مورد تحریم الأکل، والعامّ مورد ترخیص الأکل یجری الاستصحاب، کما فی غیر العدم الأزلیّ، وتصیر النتیجة حسب ما حقّقناه جریان الأزلیّ وحلّیة الأکل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 8)صفحه 501