الأمر الأوّل وحدة القضیّة المتیقّنة والمشکوک فیها
وتوضیحه أ نَّه لا إشکال فی أنَّ الیقین والشکّ وکذا الظنّ لا تتعلّق بالاُمور التصوّریة، بل لا یُمکن أن تتعلّق بها، فلا معنیٰ لتعلّق الیقین بزید والقیام والنسبة بمعانیها التصوّریة، بل المُتعلّق لها لیس إلاّ مفاد القضایا، فمعنی الیقین بالطهارة لیس إلاّ الیقین بأنَّ الطهارة موجودة علیٰ نعت الکون المحمولیّ، أو أ نّی متطهّر علی نعت الکون الرابط، کما أنَّ معنی الیقین بوجود زید أو بزید الیقین بأنَّ زیداً موجود.
وبالجملة: لا یتعلّق الیقین والشکّ إلاّ بمفاد القضایا والاُمور التصدیقیّة.
فحینئذٍ: لا بدّ فی الاستصحاب من قضیّة مُتعلّقة للیقین والشکّ، ولا بدّ وأن یتعلّق الشکّ بعین ما تعلّق به الیقین، فلا بدّ من وحدة القضیّة المتیقّنة والمشکوک فیها موضوعاً ومحمولاً، فإذا تعلّق الیقین بوجود زید تکون القضیّة المُتیقّنة «زید موجود» فإذا شکّ فی أنَّ زیداً موجود فی الزمان اللاّحق تستصحب نفس القضیّة المُتیقّنة؛ لوحدة الموضوع والمحمول، وإذا تعلّق الیقین بقیامه یمکن أن یکون الموضوع للأثر هو کون زید قائماً، فتکون القضیّة المُتیقّنة «کونه قائماً» بنحو الهلیّة المُرکّبة، فإذا شکّ فیها تستصحب؛ لوحدة الموضوع والمحمول، ویمکن أن یکون الموضوع للأثر کون قیامه موجوداً علیٰ نعت الکون المحمولیّ، فتکون القضیّة المُتیقّنة «انَّ قیامه کان موجوداً» فإذا شکّ فیها تستصحب.
الإشکال علی الشیخ الأعظمفی مسألة بقاء الموضوع
فتلخّص ممّا ذکرنا: أنَّ المُستصحب هو نفس القضیّة لا موضوعها أو محمولها، واتضح النظر فی ظاهر کلام الشیخ الأعظم قدّس سُّره:
أمّا أوّلاً: فلأنَّ ما أفاده من أنَّ المُستصحب هو عارض الموضوع والموضوع معروضه، ولا بدّ من إحراز بقائه، فیه مسامحة ظاهرة؛ لأنَّ المُستصحب هو مُتعلّق الیقین، ولیس ذلک إلاّ مفاد القضیّة، لا محمولها الذی هو عارض، فإذا تعلّق الیقین بـ «أنَّ زیداً قائم» لیس المُستصحب قیام زید؛ لأنَّ قیام زید فی تلک القضیّة لیس
مُتعلّق الیقین، فإنَّ قیام زید الذی هو عارض له أمر تصوّری غیر مُتعلّق للیقین، فما هو المُتعلّق للیقین هو قضیّة «أنَّ زیداً قائم» علیٰ نحو الکون الرابط والهلیّة المُرکّبة، ففی مثل صحّة الائتمام وشهادة الطلاق یکون موضوع الأثر کون الإمام أو الشاهد عادلاً علیٰ نحو الوجود الرابط والهلیّة المُرکّبة لا عدالتهما، فقوله: (لا تنقض الیقین بالشکّ) معناه لا تنقض الیقین المُتعلّق بقضیّة بالشکّ فیها، فالمُستصحب نفس القضیّة لا المحمول العارض للموضوع.
وأمّا ثانیاً: فلأنَّ إحراز بقاء الموضوع فی الاستصحاب لیس لازماً، بل لیس ممُکناً فی بعض القضایا؛ فإنَّ معنی إحراز بقاء الشیء أنَّ العلم تعلّق بأنَّ هذا الشیء باق؛ لما ذکرنا من أنَّ العلم إنّما یتعلّق بمفاد القضیّة لا بالمعانی التصوّریة، ففی مثل قولنا: «زید موجود» أو «وجود زید محقّق سابقاً» إذا اُرید استصحابه فی زمان الشکّ فی وجوده لا یمکن إحراز بقاء موضوعه فی زمان الشکّ؛ لأنَّ معناه أنَّ زیداً باقٍ فی حال الشکّ یقیناً وهو کما تریٰ.
ولا یمکن أن یقال: إنَّ المُحرز هو بقاؤه فی التقرّر الذهنیّ؛ لأنَّ الموضوع لیس زیداً المُقرّر فی الذهن؛ لأ نَّه لا یمکن أن یوجد فی الخارج، فالموضوع فی مثل تلک القضایا هو نفس زید عاریاً عن لحاظ شیء معه، وغیر مُتقیّد بالتقرّر الخارجیّ أو الذهنیّ، وهو لا یتّصف بالبقاء والمُحرزیّة إلاّ بتبع الوجود الذهنیّ أو الخارجیّ.
فالإنصاف: أنَّ ما أفاده رحمه الله فی المُستصحب والموضوع وبقائه تبعید للمسافة، وإخلال بما هو شرط فی الاستصحاب؛ إذ لیس شرطه ـ علی ما ذکرنا من حقیقة المُستصحب ـ إحراز بقاء الموضوع، ولا نحتاج إلیه فیه، بل الشرط وحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها، فلا فرق فیه بین بسائط القضایا ومُرکّباتها، فلا ملزم لاشتراطه بشرط
غیر لازم، بل مخلّ حتّیٰ نقع فی حیص بیص فی مثل القضایا البسیطة.
وممّا ذکرنا: یتّضح الدلیل علی الشرط المُتقدّم؛ أی وحدة القضیّة المتیقنّة والمشکوک فیها؛ لأنَّ صدق نقض الیقین بالشکّ یتوقّف علیها.
تمسّک الشیخ الأعظم بالدلیل العقلیّ لمدّعاه وما فیه
وأمّا ما أفاده الشیخ: من الاستدلال علیٰ ما ادّعاه بالدلیل العقلیّ، وهو أ نَّه مع عدم العلم بتحقّق الموضوع لاحقاً إذا اُرید إبقاء المُستصحب العارض له المُتقوّم به، فإمّا أن یبقیٰ من غیر محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن ینتقل إلیٰ موضوع آخر وهو أیضاً محال؛ لاستحالة انتقال العرض، وإمّا أن یحدث مثله فی موضوع آخر، وهذا لیس إبقاءً، فیخرج عن الاستصحاب.
ففیه ما عرفت: من أنَّ المُستصحب لیس العرض القائم بالموضوع، بل هو القضیّة المُتیقّنة، فإذا کان الأثر مُترتّباً علی القضیّة التی مفادها الهلیّة المُرکّبة مثل «کون زید عادلاً» لیس المتیقّن المُترتّب علیه الأثر عدالة زید بنحو الهلیّة البسیطة والوجود المحمولیّ، وإن کانت عدالة زید بنحو الهلیّة البسیطة أیضاً مُتیقّنة ومشکوکاً فیها، لکنّ استصحابها لا یثبت کون زید عادلاً بنحو کان الناقصة إلاّ بالأصل المُثبت، فإذا کان الأثر مُترتّباً علیٰ عدالة زید بنحو الکون الرابط تکون القضیّة المُستصحبة المُترتّب علیها الأثر «أنَّ زیداً عادل» لا «عدالة زید موجودة» واستصحاب القضیّة الثانیة لإثبات «أنَّ زیداً عادل» من الأصل المُثبت.
فلو فرض جواز قیام العرض بذاته، وجواز انتقال العرض، وقامت العدالة فی
زمان الشکّ بذاتها، أو انتقلت إلیٰ موضوع آخر لا یوجب ذلک جواز ترتیب أثر عدالة زید؛ أی« أنَّ زیداً عادل» بنحو الکون الرابط؛ ضرورة أنَّ الأثر المُترتّب علیٰ کون زید عادلاً لا یترتّب علی العدالة القائمة بالذات، أو القائمة بوجود عمرو.
نعم: لو فرض جواز قیام العرض بلا موضوع، وجواز انتقال العرض، وکانت نفس العدالة بوجودها المحمولیّ موضوعاً للأثر یکون منشأ الشکّ فی بقائها ـ زائداً علی الشکّ فی زوالها بالشکّ فی سلب الموضوع أو المحمول ـ الشکّ فی انتقالها أو بقایها بذاتها مع القطع بعدم موضوعها، وهذا أمر آخر.
وبالجملة: ما استدلّ به الشیخ من الدلیل العقلیّ ـ مضافاً إلی عدم وقعه فی المقام الذی کان نظر العرف مُتّبعاً، ومحطّ التعبّد الشرعیّ الذی یرجع إلی لزوم ترتیب الأثر ـ غیر تامّ فی نفسه.
والظاهر أنَّ منشأ هذا الخلط إنّما هو الخلط فی المُستصحب، والذهاب إلی أنَّ المُستصحب نفس العرض القائم بالموضوع، وموضوعه هو معروضه، مع أنَّ المُستصحب علیٰ ما عرفت هو نفس القضیّة من غیر فرق بین الهلیّات البسیطة والمُرکّبة.
وبالتدبّر فیما ذکرنا: یتّضح المقام مُنقّحاً، وینحلّ الإشکال من أساسه فی الهلیّات البسیطة، ویتّضح لزوم وحدة القضیة المُتیقّنة والمشکوک فیها من غیر احتیاج إلیٰ التشبّث بالدلیل العقلیّ، حتّی یرد علیه ما أورده المُحقّق الخراسانیّ رحمه الله : من أنَّ الاستصحاب عبارة عن وجوب ترتیب آثار العرض لا وجود العرض بلا موضوع، والمحال هو الثانی لا الأوّل.
وهذا الجواب وإن کان منظوراً فیه؛ لأجل ابتنائه علیٰ أنَّ المُستصحب هو العرض، لکنّه متینٌ فی ذاته، فلو فرض أنَّ الأثر کان لنفس العدالة أو البیاض بوجودهما
المحمولیّ، وکان وجودهما مُتیقّناً لأجل تحقّقهما فی موضوعهما، وشکّ فی الزمان اللاّحق فی بقائهما لأجل الشکّ فی بقاء موضوعهما یجری الاستصحاب، ویترتّب علیهما آثار بقائهما فی زمان الشکّ، وموضوع العدالة والبیاض تکویناً غیر موضوع القضیّة المُستصحبة، فإنَّ موضوع الثانیة نفس العدالة والبیاض، کما هو ظاهر بعد التدبّر فیما أسلفناه، بل للشارع أن یحکم بوجود العرض، وعدم المعروض فی عام التشریع والتعبّد؛ لأنَّ معناه إیجاب ترتیب آثار وجود هذا وعدم ذاک وهو بلا محذور.
توجیه شیخنا العلاّمة کلام الشیخ وما یرد علیه
هذا: ولکن تصدّیٰ شیخنا العلاّمة أعلی الله مقامه لدفع الإشکال عن الشیخ الأعظم فقال ما محصّله: أنَّ القضایا الصادرة من المُتکلّم إنشاءً کانت أو إخباراً مُشتملة علیٰ نسب ربطیّة مُتقوّمة بالموضوعات الخاصّة فقولنا: «أکرم زیداً» مُشتمل علیٰ إرادة إیقاعیّة مُرتبطة بإکرام زید، وکذا «زید قائم» مُشتمل علیٰ نسبة تصدیقیّة قائمة بالموضوع والمحمول الخاصّ، وحال هذه النسب فی الذهن حال الأعراض الخارجیّة فی الاحتیاج إلی المحلّ، وامتناع الانتقال.
فلو فرض أنَّ المُتیقّن هو وجوب الصلاة، فالجاعل للحکم فی الزمان الثانی إمّا أن یجعل الوجوب للصلاة، وهو المطلوب من لزوم اتحاد الموضوع، وإمّا أن ینشیء هذه الإرادة الربطیّة من غیر موضوع وهو محال، وإمّا أن یُنشئها لغیر الصلاة وهو محال؛ لامتناع انتقالها، وإمّا أن ینشئ إرادة جدیدة، وهذا ممکن لکن لیس إبقاء لما سبق.
وکذا الحال فی الشبهة الموضوعیّة، فإنَّ المُتیقّن إذا کان خمریّة مائع فإمّا أن ینشئ النسبة التصدیقیّة بلا محلّ، أو فی محلّ غیر المائع وهما محالان، أو ینشئ إرادة جدیدة
فلیس بإبقاء، أو ینشئ فی نفس المائع وهو المطلوب انتهی.
وفیه: ـ مضافاً إلیٰ کونه مخالفاً لظاهر کلام الشیخ أو صریحه ـ أنَّ الاستصحاب عبارة عن حکم ظاهریّ مجعول بقوله (لا تنقض الیقین بالشکّ) لترتیب آثار المُتیقّن فی زمان الشکّ، فقد یوافق الواقع فیکون منجّزاً له، وقد یتخلّف عنه، فإذا وافقه فلا تکون فی البین إلاّ إرادة حتمیّة مُتعلّقة بالصلاة ولیس فی زمان الشکّ إرادة اُخریٰ مُتعلّقة بالصلاة.
نعم: تکون هاهنا إرادة اُخریٰ مُتعلّقة بعنوان عدم نقض الیقین بالشکّ، وإذا تخلّف الاستصحاب عن الواقع فلیست إرادة مُتعلّقة بالصلاة بحسب الواقع، فلا مجال لهذه التشقیقات.
وإن شئت قلت: إنَّ الصلاة التی علم وجوبها سابقاً، وشکّ فی بقائه إن کانت واجبة بحسب الواقع فی زمان الشکّ فلا یمکن أن تتعلّق بها إرادة اُخریٰ غیر الإرادة المُتعلّقة بها، وإن لم تکن واجبة فإما أن تنتقل الإرادة المُتعلّقة بها فی زمان الیقین إلی زمان الشکّ فهو محال، وإمّا أن یحدث فیها إرادة اُخریٰ فهو لیس بإبقاء، وإمّا أن تبقیٰ الإرادة بلا موضوع فهو مع کونه محالاً لیس بابقاء أیضاً.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أنَّ الإرادة الواقعیّة المُتعلّقة بالموضوعات الواقعیّة لا تتخلّف عنها، والاستصحاب لا یوجب بقاء تلک الإرادات،؛ فإنَّها إن کانت باقیة لا یوجب الاستصحاب إلاّ تنجیزها فی زمان الشکّ، کما کانت منجّزة فی زمان الیقین لأجل تعلّق الیقین بها، وإلاّ فلا یمکن بقاؤها.
وبعبارة اُخریٰ: أنَّ الجاعل فی الزمان الثانی لا یجعل الوجوب للصلاة، فإنَّ الصلاة إمّا واجبة فی زمان الشکّ بحسب الواقع، فلا معنی لجعله ثانیاً، فیکون
الاستصحاب کسائر المُنجّزات مُنجّزاً له؛ بمعنیٰ أنَّ المُکلّف إذا ترکها مع الاستصحاب تصحّ عقوبته علیٰ ترک الوجوب الواقعیّ، وإن لم تکن واجبة فلا تصیر واجبة بالاستصحاب، ولو فرض صیروتها واجبة بالاستصحاب لیس الوجوب الاستصحابیّ إبقاء للوجوب المُتعلّق بها فی الزمن السابق بالضرورة.
إنَّ الاستصحاب لا یجدیفی إحراز موضوع القضیّة المُستصحبة
ثمَّ إ نَّه بعدما علم لزوم اتحاد القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها موضوعاً ومحمولاً فلا بدّ من إحرازه وجداناً، کما فی الهلیّات البسیطة، فإذا کان زید مسبوقاً بالوجود أو العدم فشکّ فیه یستصحب وجوده أو عدمه لإحراز الاتحاد وجداناً، وکالهلیّات المُرکّبة التی کانت موضوعاتها عرفاً نفس الماهیة ویکون الوجود أو الحیاة مثلاً فیها من الوسائط التعلیلیّة لعروض العوارض علیها مثل «زید متنفّس» أو «متحرّک».
أو من قبیل القضایا الحینیّة، کقولنا: «زید عادل» أو «عالم» حیث تکون العادلیّة والعالمیّة من أوصاف زید عرفاً، ویکون الموضوع للقضیّة نفس زید فی حال الحیاة والوجود، فإذا علمنا أنَّ زیداً کان عالماً أو عادلاً أو قائماً، وشککنا فی بقائها یجری الاستصحاب؛ لوحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها.
وتوهّم أنَّ الموضوع «زید الموجود» أو «زید الحیّ»، فلا یکون محرزاً، مردود بأنَّ الموضوع لدی العرف فی مثل تلک القضایا لا یکون إلاّ ما هیّة زید والحیاة والوجود من الجهات التعلیلیّة، أو اُخذا علیٰ نحو القضیّة الحینیّة لدی العرف.
نعم: لو فرض فی الهلیّات المُرکّبة أخذ بعض الأوصاف فی موضوعها قیداً، وتکون القضیّة وصفیّة مأخوذة فیها الأوصاف علیٰ نحو العنوانیّة والقیدیّة کأن یقال: «إذا کان زید الحیّ بما أ نَّه حیّ عادلاً یجب إکرامه» أو «إذا کان زید العادل بما أ نَّه عادل أعلم یجوز أو یجب تقلیده».
فحینئذٍ: تارة تکون تلک الأوصاف المأخوذة فی الموضوع محرزة بالوجدان فلا إشکال فی جریان الاستصحاب، فإذا اُحرزت حیاة زید وجداناً، وشکّ فی کونه عادلاً ـ مع الیقین بعدالته السابقة ـ لا إشکال فی جریانه، بأن یقال: «کان زید الحیّ عادلاً، وشککت فی بقاء عدالته» لاتحّاد القضیّتین.
وتارة تکون تلک الأوصاف مشکوکاً فیها، کما لو شککنا فی المثال فی حیاة زید وعدالته، ففی هذه الصورة هل یمکن إحراز موضوع القضیّة الوصفیّة بالاستصحاب أو لا؟ فموضوع البحث ومحلّ النقض والإبرام ما إذا کانت قضیّتان متیقّنتان یکون محمول إحداهما موضوعاً للاُخریٰ، فتستصحب القضیّة الاُولیٰ لإحراز موضوع القضیّة الاُخریٰ لتستصحب القضیّة الثانیة.
وبعبارة اُخریٰ: محلّ الکلام فیما کانت وحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها غیر محرزة، وأردنا إحرازها باستصحاب قضیّة اُخریٰ یکون محمولها موضوعاً لتلک القضیّة، کما إذا ورد «أنَّ زیداً العالم بما أ نَّه عالم إذا کان عادلاً یجب إکرامه» فشککنا فی علمه وفی عدالته، فأردنا إحراز علمه بالاستصحاب لإحراز موضوع القضیّة الثانیة أی کونه عادلاً.
فنقول: تارة یکون الشکّ فی القضیّة الثانیة مُسبّباً عن الشکّ فی الاُولی، وتارة لا یکون کذلک، وعلی الأوّل تارة یکون التسبّب شرعیّاً، وتارة یکون عقلیّاً، ففی جمیع الفروض لا یمکن إحراز موضوع القضیّة المُستصحبة بإجراء استصحاب القضیّة الاُولیٰ إذا فرض أنَّ الوصف اُخذ فی موضوع القضیّة الثانیة مفروض الوجود، کما هو محلّ
الکلام؛ لأنَّ الاستصحاب لا یحرز الموضوع وجداناً، ولا تکون وحدة القضیّتین من الآثار الشرعیّة حتّیٰ تترتّب علیه، فاستصحاب کون زید حیّاً لا تترتّب علیه إلاّ الآثار الشرعیّة المُترتّبة علیٰ کونه حیّاً، کنفقة زوجته، وأمّا صیرورة الشکّ فی عدالة زید شکّاً فی أنَّ زیداً الحیّ عادل حتّی تتّحد القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها، فلیست أثراً شرعیّاً.
وکذا لو شککنا فی تغیّر الماء، فلا یحرز استصحاب بقاء التغیّر موضوع استصحاب نجاسة المُتغیّر بما أ نَّه مُتغیّر، ولو فرض أنَّ المُتغیّر بما أ نَّه مُتغیّر موضوع للنجاسة، ویکون التسبّب شرعیّاً لأنَّ إحراز وحدة القضیّتین لیس من الآثار الشرعیة.
نعم: باستصحاب التغیّر یترتّب علی الماء أثره الشرعیّ أی النجاسة وهو غیر استصحاب نجاسة المُتغیّر الذی کلامنا فیه.
فتحصّل ممّا ذکر: أنَّ إحراز وحدة القضیّتین ممّا لا یمکن بالاستصحاب مُطلقاً ولو فی الآثار الشرعیّة والتسبّبات التعبّدیة.
الخلط الواقع فی کلام بعض الأعظام
وإذ قد عرفت محلّ الکلام فی المقام یتَّضح لک الخلط الواقع فی کلام بعض أعاظم العصر رحمه الله ؛ حیث تفصّیٰ عن الإشکال بأنَّ الموضوع لجواز التقلید مُرکّب من الحیاة والعدالة، وهما عرضان لمحلّ واحد، فیجوز إحرازهما بالاستصحابین کما یجوز إحراز أحد جزئی الموضوع المُرکّب بالاستصحاب، والآخر بالوجدان، فإذا کان زید العالم الحیّ موضوعاً لجواز التقلید، وشککنا فی الوصفین فنستصحب کلا الوصفین للموضوع الذی هو زید، ونرتّب الأثر علی الموضوع المُحرز کلا جزءیه بالأصلانتهیٰ.
وهذا کما تریٰ خروج عن محلّ البحث؛ لأنَّ الکلام لیس فی أنَّ الأوصاف المُتعدّدة لموضوع واحدٍ إذا کانت موضوعة لحکم شرعیّ هل یمکن إثباتها بالأصل أم لا؟ بل الکلام فی أ نَّه هل یمکن إثبات موضوع القضیّة المُستصحبة ووحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها بالأصل أم لا؟ لأنَّ الشیخ الأعظم وبعد ما قال: إنَّ المُعتبر فی الاستصحاب هو العلم ببقاء الموضوع ولا یکفی احتمال البقاء أشکل علیه إحرازه بالاستصحاب إذا کان محتمل البقاء، ففصّل فی الجواب بما فصّل، فموضوع البحث ما إذا کان عنوانٌ موضوعاً للقضیّة المُستصحبة، وشکّ فیه، واُرید إثباته بالاستصحاب، فما أفاده المُحقّق المعاصر خارج عن موضوع البحث، کما أنَّ کلام الشیخ أیضاً لا یخلو من خلط فراجع وتدبّر.
هل یؤخذ الموضوع من العرف أولا؟
ثمّ بعد ما علم لزوم وحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها، فهل الموضوع فیها یؤخذ من العقل، أو من الدلیل، أو من العرف؟
وبعبارة اُخریٰ: أنَّ المیزان فی وحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها أن یکون موضوعهما واحداً بحکم العقل وتشخیصه، أو بحکم العرف وتشخصیه، أو أنَّ الموضوع فی القضیّة المشکوک فیها لا بدّ وأن یکون هو الذی اُخذ فی الدلیل الدالّ علی الحکم فی القضیّة المتیقّنة؟
والفرق بین الأخذ من العقل وغیره واضح؛ لأنَّ العقل قلّما یتّفق أو لا یتّفق أن
لا یشکّ فی بقاء الموضوع فی استصحاب الأحکام، حتّی فی باب النسخ؛ لأنَّ الشکّ فی الحکم لا یکون إلاّ من جهة الشکّ فی تغییر خصوصیّة من خصوصیّات الموضوع.
وجمیع الجهات التعلیلیّة ترجع إلی الجهات التقییدیّة لدی العقل، وتکون دخیلة فی موضوعیّة الموضوع، فإذا ورد حکم علی موضوع لا یکون تعلّقه علیه جُزافاً بحکم العقل، فلا بدّ من خصوصیّة فی الموضوع لأجلها یکون مُتعلّقاً للحکم، ومع بقاء تلک الخصوصیّة الموجبة أو الدخیلة فی المُتعلّق مع سائر الخصوصیّات لا یمکن رفع الحکم عن الموضوع، فإذا علم تعلّق حکم علیٰ موضوع، وشکّ فی نسخه فلا یمکن أن یشکّ فیه مع العلم ببقاء جمیع خصوصیّات الموضوع الدخیلة فی تعلّق الحکم علیه: من القیود الزمانیّة والمکانیّة وغیرها؛ لأنَّ ذلک یرجع إلی الجزاف المُستحیل.
وکثیراً ما یقع الإشکال فی الاستصحابات الموضوعیّة أیضاً، کاستصحاب الکرّیة.
وأمّا الفرق بین الأخذ من العرف أو موضوع الدلیل، فهو أنَّ الحکم فی الدلیل قد یثبت العنوان أو الموضوع المتقیّد بقید؛ بحیث یکون الدلیل قاصراً عن إثبات الحکم لغیر العنوان أو غیر مورد التقید، فإذا ارتفع العنوان أو القید یرتفع موضوع الدلیل، کما إذا قال: (التراب أحد الطهورین)، و «وعصیر العنب إذا غلیٰ یحرم» فانطبق الحکم علی الموضوع الخارجیّ، فیشار إلی تراب خارجیّ، أ نَّه أحد الطهورین، وإلی رِطل من العنب أنَّ عصیره إذا غلیٰ یحرم، فإذا صار التراب الخارجیّ اَجراً أو خزفاً، والعنب زبیباً، وشککنا فی طهوریّة الأوّل وحرمة عصیر الثانی إذا غلی، فلا إشکال فی قصور الأدلّة الواقعیّة عن شمول غیر العناوین المأخوذة فی موضوعها؛ لتغیّر موضوعها، فلا یمکن
التمسّک بدلیل طهوریّة التراب، وحرمة مغلیّ عصیر العنب لإثبات الحکم لهما، ولو بنینا علیٰ أخذ موضوع القضیّة المُتیقَّنة والمشکوک فیها من الدلیل لا یجری الاستصحاب أیضاً لتغیّر الموضوع، وعدم اتحاد القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها.
وأمّا لو کان الاتحاد بنظر العرف، فجریانه ممّا لا مانع منه؛ لإنَّ هذا الآجر والخزف الخارجییّن کانا معلومی الحکم قبل طبخهما، وبواسطة طبخهما لم یتغیّرا إلاّ تغیّراً عَرَضیاً، وکذا العنب الخارجیّ إذا یبس وصار زبیباً یکون عین الموضوع المُتیقّن، ولیست الیبوسة مُغیّرة له إلاّ فی حاله وعَرَضه.
وهذه التغیّرات العَرَضیّة لا تنافی وحدة الموضوع الخارجیّ، وإن لم تصدق معها علی الموضوع العناوینُ الکلّیةُ، فالتراب غیر الآجر بحسب العنوان الکلّی المأخوذ فی الدلیل، والعنب غیر الزبیب کذلک، لکنّ التراب والعنب الخارجیّین إذا طبخا ویبسا لا یتغیّران إلاّ فی الحالات الغیر المُضرّة ببقاء موضوع القضیّة المتیقّنة فی زمان الشکّ.
فإذا قال المولیٰ: «أکرم العلماء والشعراء» واحتملنا کون العنوانین واسطة فی الثبوت، ومن کان عالماً وشاعراً فی زمان یجب إکرامه مُطلقاً، فلا إشکال فی أنَّ الدلیل قاصر عن إیجاب الإکرام إذا صار العالم جاهلاً، والشاعر غیر شاعر، کما أ نَّه لا إشکال فی أنَّ موضوع الدلیل غیر باقٍ، فلا مجال لجریان الاستصحاب فیما إذا اُخذ موضوع القضیّة المُستصحبة من الدلیل.
وأمّا لدی العرف فیکون زید وعمرو واجبی الإکرام؛ لکون الأوّل مصداق العالم؛ والثانی مصداق الشاعر، وعنوان «العالم» و «الشاعر» و إن کانا مُختلفی المصادیق مع العنوان المقابل لهما، ولکنّهما من الحالات العارضة للأفراد الخارجیّة، والموضوعات المُتحقّقة، فإذا زال عنوان العالمیّة من زید، والشاعریّة من عمرو، وشکّ فی إکرامهما؛ للشکّ فی أنَّ العنوانین من الوسائط الثبوتیّة أو العروضیّة یجری الاستصحاب فیهما؛
لوحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها، لأ نّک کنت علیٰ یقین من إکرام زید وعمرو، لکون الأوّل مصداق العالم، والثانی مصداق الشاعر، ومع زوال العنوانین نشکّ فی بقاء وجوب إکرامهما (ولا ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ)، بخلاف ما لو اُخذ موضوع القضیّة من الدلیل؛ لعدم صدق عنوان «العالم» و «الشاعر» علیٰ غیرهما.
وقد اتّضح ممّا ذکرنا: أنَّ کلمات الشیخ الأعظم قدّس سُّره ومن بعده من المُحقّقین لا تخلو من خلط وخلل، حتّیٰ کلمات شیخنا العلاّمة رحمه الله ، مع أنَّ ما ذکرناه من إفادات مجلس بحثه.
کلامُ المحقّق الخراسانیّ وما یرد علیه
فما أفاده المُحقّق الخراسانیّ رحمه الله فی المقام الأوّل: من أنَّ موضوع الدلیل قد یکون بحسب المُتفاهم العرفیّ عنواناً، ولکنّ أهل العرف یتخیّلون ـ بحسب ارتکازهم ومناسبات الحکم والموضوع ـ أنَّ الموضوع أعمّ من ذلک، لکن لا بحیث یصیر ذلک الارتکاز وتلک المُناسبة موجبین لصرف الدلیل عمّا هو ظاهره المفهوم عرفاً، کما إذا دلّ الدلیل: علیٰ أنَّ العنب إذا غلیٰ یحرم، وفهم العرف منه أنَّ الموضوع هو العنب بحسب الدلیل، لکن یتخیّل بحسب ارتکازه تخیّلاً غیر صارف للدلیل أنَّ الموضوع أعمّ من الزبیب، وأنَّ العنبیّة والزبیبیّة من حالاته المُتبادلة؛ بحیث لو لم یکن الزبیب محکوماً بما حکم به العنب یکون عنده من ارتفاع الحکم عن موضوعه.
فالفرق بین أخذ الموضوع من العُرف وبین أخذه من الدلیل بحسب ما ذکر: أنَّ موضوع الدلیل هو العنوان حقیقة، ولکنّ العرف تخیّل موضوعاً آخر غیر موضوع
الدلیل، بل أعمّ منه، ویکون الموضوع الحقیقیّ غیر باقٍ، والموضوع التخیّلی باقٍ انتهیٰ محصّله بتوضیح منّا.
وهو کماتریٰ؛ لأنَّ بقاء الموضوع التخیّلی لا یفید فی الاستصحاب، ولا یجوز أن یکون موضوع القضیّة المُتیقّنة ما یتخیّل العرف خلاف ما یدلّ علیه الدلیل، فإذا دلّ الدلیل علی أنَّ العنب بخصوصه موضوع الحکم تکون القضیّة المُتیقّنة «أنَّ العنب إذا غلیٰ یحرم» ویمکن تعلّق الیقین بأمر أعمّ من غیر دلالة دلیل، فضلاً عن دلالته علیٰ خلافه.
ولقد عدل بعض أعاظم العصر رحمه الله عمّا ذکر، والتزم: بأنَّ موضوع الدلیل عین الموضوع العُرفیّ، وأ نَّه لا وجه للمقابلة بینهما؛ فإنَّ مفاد الدلیل یرجع بالآخرة إلی ما یقتضیه نظر العرف؛ لأنَّ المُرتکز العُرفیّ یکون قرینة صارفة عمّا یکون الدلیل ظاهراً فیه ابتداءً، ولو کان الدلیل ظاهراً بَدْواً فی قیدیّة العنوان، وکانت مُناسبة الحکم والموضوع تقتضی عدمه، فاللاّزم هو العمل علی ما تقتضیه مناسبة الحکم والموضوع؛ لأ نّها بمنزلة القرینة المُتّصلة، فلم یستقرّ للدلیل ظهور علی الخلاف.
فالمقابلة بین العُرف والدلیل إنّما هی باعتبار ما یکون الدلیل ظاهراً فیه ابتداءً، مع قطع النظر عن المُرتکز العرفیّ، وإلاّ فبالآخرة یتّحد ما یقتضیه مفاد الدلیل مع ما یقتضیه المُرتکز العرفیّ، انتهی.
ولعلّه إلیه یرجع کلام الشیخ الأعظم فی ذیل الأمر الأوّل.
وهذا الکلام کماتریٰ خلاف مفروض کلام المُحقّق الخراسانیّ؛ لأنَّ مفروضه ما إذا لم تَصِر المُناسبة موجبة لصرف الکلام عن ظاهره.
والحقّ فی الجواب عنه أن یقال: إنَّ المُناسبة إن لم تَصِر موجبة لصرف ظاهر الکلام فلا یُعقل أن تکون القضیّة المُتیقّن موضوعهاما هو مرتکز العُرف تخیّلاً وإن صارت موجبة لذلک، فلا یرجع الفرق إلیٰ محصّل.
هذا مُضافاً إلیٰ أنَّ ما أفاده المُحقّق المعاصر رحمه الله یرجع بالآخرة إلیٰ العجز عن تصوّر الفرق بین الأخذ من العُرف والدلیل، وأنت إذا تأمّلت فیما ذکرنا من أخذ الموضوع من العُرف أو الدلیل لا تضح لک النظر فی کلام هؤلاء الأعلام، وأنَّ ما أفاده هذا المُحقّق ـ من أنَّ المُقابلة بینهما فی غیر محلّها ـ منظور فیه، وأنَّ المُقابلة بینهما فی محلّها.
المُراد من العُرف لیس العُرف المسامِح
ثمّ إنَّ المُراد بالعُرف فی مقابل العقل لیس هو العرف المسامح، حتّی یکون المُراد بالعقل العرف الغیر المسامح الدقیق؛ ضرورة أنَّ الألفاظ کما أ نّها وضعت للمعانی النفس الأمریّة تکون مُستعملة فیها أیضاً عند إلقاء الأحکام، فالکرّ والمیل والفرسخ والدم والکلب وسائر الألفاظ المُتداولة فی إلقاء الأحکام الشرعیّة لا تکون مُستعملة إلاّ فی المعانی الواقعیّة الحقیقیّة، فالکرّ بحسب الوزن ألف ومائتا رِطل عراقیّ من غیر زیادة ونقیصة، لا الأعمّ منه وما یسامح العرف، وکذا الدم لیس إلاّ المادّة السیّالة فی العروق التی تکون بها الحیاة الحیوانیّة، لا الأعمّ منها وما یطلق علیه اسم الدمّ مُسامحة، ولیس التسامح العُرفیّ فی شیءٍ من الموارد میزاناً لا فی تعیین المفاهیم، ولا فی تشخیص المصادیق.
بل المُراد من الأخذ من العُرف هو العُرف مع دقّته فی تشخیص المفاهیم
والمصادیق، وأنَّ تشخیصه هو المیزان، مقابل تشخیص العقل الدقیق البرهانیّ.
مثلاً: لا شبهة فی أنَّ الدم عبارة عن المائع المعهود ـ الجاری فی القلب والعروق، والمسفوح منه ـ موضوع للحکم بالنجاسة، ولیس ما یتسامح فیه العرف ویطلق علیه الدم تسامحاً موضوعاً لها، لکنّ العرف مع کمال دقّته فی تشخیص مصادیقه یحکم بأنَّ اللّون الباقی بعد غسل الثوب لیس بدم، بل هو لون الدم، لکنّ البرهان العقلی قام علی امتناع انتقال العرض، فیحکم العقل لأجل ذلک بأنَّ اللّون هو الأجزاء الصغار من جوهر الدم.
والکلب لیس عند العُرف إلاّ الجثّة الخارجیّة، والحیاة من حالاتها، ومیتة الکلب کلب عندهم حقیقة، وعند العقل البرهانیّ لمّا کانت شیئیّة الشیء بصورته، وصورة الکلب نفسه الحیوانیّة الخاصّة به، فإذا فارقت جثّته سلب منها اسم الکلب، وتکون الجثّة جماداً واقعة تحت نوع آخر غیر النوع الکلبیّ، بل یسلب عنها اسم جثّة الکلب وبدنه أیضاً، ویکون إطلاق بدن الکلب علی الجثّة المُفارقة لها الروح مُسامحة لدی العقل، کما هو المُقرّر فی محلّه من العلوم العالیة، مع أ نّها کلب لدی العرف حقیقة.
وبالجملة: لیس المُراد من کون تشخیص المفاهیم ومصادیقها موکولاً إلی العُرف هو التسامح العرفیّ، فالتسامح العُرفی فی مقابل الدقّة العقلیّة البرهانیّة، لا فی مقابل دقّة العُرف.
نعم: قد یکون بین المُتکلّم والمخاطب فی عُرف التخاطب وتعارف التکلّم بعض المُسامحات التی تکون مغفولاً عنها لدیهم حال التکلّم، ویحتاج التوجّه إلیها إلی زیادة نظر ودقّة، ومع الدقّة والنظرة الثانیة یتوجّه المُتکلّم والمُخاطب إلی التسامح، ففی مثل
ذلک یکون المعنی المتفاهم ابتداءً موضوعاً للحکم، فإذا قال المولیٰ: «إذا قمت إلیٰ الصلاة فولِّ وجهک شطر المسجد الحرام» لا یفهم المخاطب من هذا الکلام إلاّ استقبال المسجد بالنحو المُتعارف، وإن کانت الدقّة العرفیّة أیضاً تقتضی کونه أضیق ممّا هو المُتفاهم عرفاً، فالمناط فی أمثاله هو التفاهم العرفی، لا الدقّة العقلیّة إن قلنا: بأنَّ المیزان هو العُرف.
ثمّ إنَّه لا إشکال: فی أنَّ المیزان فی تشخیص جمیع المفاهیم ومصادیقها وکیفیّة صدقها علیها هو العُرف؛ لأنَّ الشارع کواحد من العُرف فی المخاطبات والمحاورات، ولیس له اصطلاح خاصّ، ولا طریقة خاصّة فی إلقاء الکلام إلی المُخاطب، فکما یفهم أهل المحاورات من قول بعضهم: «اجتنب عن الدم» أو «اغسل ثوبک من البول» یفهم من قول الشارع أیضاً، ولیس مخاطبة الشارع مع الناس إلاّ کمخاطبة بعضهم بعضاً، فإذا قال: «فاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأیدیکُمْ إلی المَرافِق» لا یکون المُراد منه إلاّ الغسل بالنحو المُتعارف، لا الغسل من الأعلیٰ فالأعلیٰ بنحو الدقّة العقلیّة، فکما أنَّ العُرف محکّم فی تشخیص المفاهیم محکّم فی صدقها علی المصادیق وتشخیص مصادیقها، فما لیس بمصداق عُرفاً لیس بمصداق للموضوع المحکوم بالحکم الشرعیّ.
فما أفاده المُحقّق الخراسانی: من أنَّ تشخیص المصادیق لیس موکولاً إلی العرف وتبعه غیره لیس علیٰ ما ینبغی، فالحقّ ما ذکرنا تبعاً لشیخنا العلاّمة أعلی الله مقامه.