الأمر الثانی: الاستصحاب لیس من الأدلّة الأربعة
إنَّ الاستصحاب ـ بناءً علیٰ ما عرَّفناه ـ لیس من الأدلّة الأربعة إذا اُخذت حُجّیته من الأخبار؛ لأنَّ الأدلّة الأربعة؛ أی الکتاب والسُنّة والإجماع والعقل، هی الأدلّة التی اُقیمت منها علی الحُکم الفرعیّ، لا الأعمّ منها وممّا اُقیمت علی الحُکم الأصلیّ؛ أی المسألة الاُصولیة.
مثلاً: إذا قام خبر الثقة علیٰ حُرمة العصیر العنبیّ، ودلَّ ظاهر الکتاب علی اعتباره یکون الدلیل علیٰ حُرمة العصیر هو خبر الثقة، لا ظاهر الکتاب، وکذا لو دلّت الأخبار علی اعتبار خبر الثقة، وقام خبر الثقة علیٰ حُرمة العصیر، یکون الخبر القائم علیٰ حُرمته من الأدلَّة الأربعة، لا الأخبار الدالَّة علی اعتباره.
فالاستصحاب بناءً علیٰ ما ذکرنا:
من أ نَّه عبارة عن نفس الکون السابق الکاشف عن بقائه فی اللاّحق.
أو الیقین السابق الملحوق بالشکّ فی البقاء.
أو الشکّ المسبوق بالیقین.
هو الدلیل أو الحُجّة علی الحکم الفرعیّ الکُلّی، ولیس هو من الأدلّة الأربعة:
أمّا الإجماع والکتاب فظاهر.
وأمّا العقل فلأنَّ المفروض أ نَّه اُخذ من الأخبار.
وأمّا السُّنّة فلأنَّ قوله: (لا تنقض الیقین بالشکّ) دلیل اعتبار الاستصحاب، کدلالة آیة النبأ علی اعتبار خبر الثقة، فکما أنَّ الآیة دلیل علی الدلیل، ویکون الدلیل علی الفرع الفقهیّ هو خبر الثقة لا آیة النبأ، فکذلک الدلیل فی الفقه أو الحُجّة فی الفقه هو نفس الاستصحاب، و (لا تنقض الیقین بالشکّ) دلیل علی اعتباره، فلیس الاستصحاب ـ بناءً علیٰ أخذه من الأخبار ـ من الأدلَّة الأربعة، بل هو دلیل برأسه.
ولعلَّ السرَّ فی ذهاب القُدماء من اصحابنا إلی انحصار الأدلَّة فی الأربعة: أنَّ العامّة الذین هم الأصل فی تدوین الاُصول عدّوا الاستصحاب من الأدلّة العقلیّة کالقیاس والاستقراء، وقُدماء أصحابنا إلیٰ زمان والد شیخنا البهائیّ لم یُعهد تمسّکهم بالأدلّة النقلیّة فی حُجّیة الاستصحاب علی ما حُکی.
وأمّا المتأخّرون ممّن قارب عصرنا فقد أنکروا کون موضوع علم الاُصول هو الأدلّة بما هی أوذاتها، وزعموا أ نَّه لو جُعل الموضوع هو الأدلّة تصیر مسألة حُجّیة خبر الواحد والاستصحاب ونحوهما من المبادئ التصدیقیّة. وقد مرَّ فی مباحث الألفاظ تحقیق الحال فی موضوع الاُصول والمسائل الاُصولیّة فراجع.
وبما ذکرنا: تکون مسألة حُجّیة الاستصحاب وخبر الثقة من المسائل الاُصولیّة، وإلیٰ ما ذکرنا یرجع قول بعض السادة الفحول، حیث جعل الاستصحاب دلیلاً علیٰ
الحکم فی مورده، وجعل قوله: (لا تنقض الیقین بالشکّ) دلیلاً علی الدلیل، نظیر آیة النبأ بالنسبة إلیٰ خبر الثقة، علیٰ ما نقل عنه العلاّمة الأنصاریّ، واستشکل علیه بما هو غر وارد علیه بعد التأمّل فیما ذکرنا فراجع.
تنبیه فی ضابط المسألة الاُصولیة وأنَّ الاستصحاب منها
یظهر من العلاّمة الأنصاری ها هنا أنَّ المناط فی کون المسألة اُصولیّة أن یکون إجراؤها فی مواردها مختصاً بالمجتهد، وأن لا یکون للمقلِّد حظّ فیها، وبنی علیه کون الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة مسألة اُصولیّة.
ولا یخفیٰ ما فیه: فإنَّ کثیراً من المسائل الفقهیّة والقواعد الفرعیّة لا تکون کذلک، کقاعدة: «ما لا یُضمن بصحیحه لا یُضمن بفاسده» وعکسها؛ فإنَّ الاطلاع علیٰ حدود تلک القاعدة ومقدار سریانها لا یمکن إلاّ للمجتهد، ولا حظّ للمقلّد فیها، فالمُستفاد من قاعدة «ما لا یضمن» هو أنَّ کلَّ معاملة لا یُضمن بصحیحها لا یُضمن بفاسدها، وبعد تتمیم هذه القاعدة یحتاج فی تشخیص أنَّ أیّة معاملة لا یُضمن بصحیحها وأیّتها یُضمن إلی اجتهاد.
وبما ذکرنا من المناط فی اُصولیّة المسألة فی مباحث الألفاظ یظهر أنَّ الاستصحاب مسألة اُصولیة، سواءً اُخذ من الأخبار أم لا.