التنبیه الثالث استصحاب المتصرِّمات
ربما یقال: إنَّ مقتضیٰ تعریف الاستصحاب وأخبار الباب ـ من اعتبار الشکّ فی البقاء فیه ـ عدم جریانه فی الزمان والزمانیّات المُتصرّمة المُتقضّیة؛ لعدم تصوّر البقاء
فیها فأنکر شیخنا العلاّمة رحمه الله اعتبار الشکّ فی البقاء قائلاً: إنَّ المیزان فیه هو مفاد الأخبار، والمُعتبر فیها هو صدق نقض الیقین بالشکّ وهو صادق فی التدریجیّات وغیرها؛ ضرورة أ نّها ما لم تنقطع وجود واحد حقیقیّ وإن کان مُتصرّماً، فلو شکّ فی تحقّق الحرکة أو الزمان بعد العلم بتحقّقهما فقد شکّ فی تحقّق عین ما کان مُتحقّقاً سابقاً، فلا یحتاج فی التمسّک بالأخبار إلی المُسامحة العرفیّة.
نعم: لو کان المُعتبر فی الاستصحاب الشکّ فی البقاء أمکن أن یقال: مثل الزمان والزمانیّات المُتصرّمة خارج عن العنوان المذکور؛ لعدم تصوّر البقاء لها إلاّ بالمسامحة العرفیّة، لکن لیس هذا العنوان فی الأدلّة، انتهی.
ویظهر ذلک من الشیخ الأنصاریّ أیضاً حیث تفصّیٰ عن الإشکال بأحد وجهین:
أوّلهما: أنَّ التعبیر بالبقاء فی تعریف الاستصحاب بلحاظ صدقه فی الزمانیّات وإن لم یصدق فی نفس الزمان.
وثانیهما: أنَّ البقاء أعمّ من الحقیقیّ کما فی الزمانیّات، والمُسامحیّ کما فی الزمان، وإلاّ فالعبرة بالشکّ فی وجوده العلمُ بتحقّقه قبل زمان الشکّ، وإن کان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشکّ.
تحقیق المقام
هذا والتحقیق: أنَّ الشکّ فی البقاء مُعتبر فی الاستصحاب ومُستفاد من الأدلّة، ومع ذلک لا إشکال فی جریانه فی الزمان والزمانیّات المُتصرّمة.
أمّا استفادة اعتباره منها؛ فلأنَّ مُقتضی الکبری المجعولة وهی قوله: (لا ینقض الیقین بالشکّ) أنَّ الیقین الفعلیّ لا ینقض بالشکّ الفعلیّ، ولازمه أن یکون هنا شکّ فعلیّ مُتعلّق بعین ما تعلّق به الیقین الفعلیّ، ولا یُتصوّر ذلک إلاّ بأن یکون الشکّ فی بقاء ما علم وجوده سابقاً، فقوله: (لأ نّک کنت علیٰ یقین من طهارتک فشککت، ولیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً) عبارة اُخریٰ عن الشکّ فی بقاء الطهارة، فکیف یقال لا یستفاد ذلک من الأخبار؟!
وأمّا مع اعتباره یکون الاستصحاب جاریاً فی الزمان والحرکة؛ فلبقاء هویّتهما الشخصیّة، ووجودهما الخارجی البسیط:
أمّا عند العقل فلما هو المُقرّر فی محلّه من وجود الحرکة القطعیّة؛ أی الوجود المُستمر المُتدرّج، وإن کان نحو وجودها مُتصرّماً مُتقضّیاً، فما دام المُتحرّک مُتحرّکاً تکون الحرکة مُتحقّقة باقیة بعین شخصیّته المُتدرّجة، ولکلّ موجود نحو وجود خاصّ به، یکون عدمه بعدم هذا الوجود، لا الوجود الغیر اللائق به فالحرکة والزمان یکون نحو وجودهما اللائق بهما هو الوجود المُتصرّم المُتجدّد، لا الوجود الثابت، فالنافی لوجود الحرکة القطعیّة والزمان إن نفیٰ عنهما الوجود الثابت فقد نفیٰ عنهما ما لا یکون وجوداً لهما، وإن نفی الوجود المُتصرّم المُتجدّد عنهما فقد التزم بما هو خلاف الضرورة، فالحرکة أمر مُمتدّ مُستمرّ باق بالامتداد التصّرمی والبقاء التجدّدی والاستمرار التغیّری.
ولیس لأحدٍ أن یقول: ما هو الموجود هو الحرکة التوسّطیة لا القطعیّة؛ لأنَّ
الحرکة التوسّطیة لو کانت موجودة ـ بمعنی انقطاع کلّ حدّ وآن عن سابقه ولاحقه، ووجود الحدّ الآخر والآن الآخر بعده مُنقطعاً عن الحدّ والآن الآخر ـ فلازمه إنکار الحرکة أوّلاً؛ فإنَّ تبادل الآنات لا یوجب وجود الحرکة، والجزء الذی لا یتجزّأ وتتالی الآنات ثانیاً؛ ولهذا تکون الحرکة بمعنی التوسط والآن السیال ممّا لا وجود لهما، بل ما هو الموجود هو الحرکة القطعیّة والزمان، لکن نحو وجودهما یکون بالامتداد التصرّمی والاستمرار التجدّدی.
وأمّا عند العرف: فلأ نّهم یرون أنَّ الیوم إذا وجد یکون باقیاً إلی اللّیل، واللّیلَ باقیاً إلی الیوم، ولا ینافی ذلک اعتبار الساعات والحدود لهما، فلعلّ ارتکاز العرف یساعد العقل فی البقاء التصرّمی والاستمرار التجدّدی.
وکیف کان: لا إشکال فی صدق البقاء عُرفاً علی استمرار النهار واللّیل وکذا الحرکات، فإذا تحرّک شیء تکون حرکته موجودة باقیة عُرفاً إلی انقطاعها بالسکون، ولا تکون الحرکة مجموع دقائق وساعات، منضمّ بعضها إلیٰ بعض وهذا ممّا لا إشکال فیه، إنّما الإشکال فی مقامین:
احدهما: ما أفاده الشیخ الأنصاریّ وتبعه غیره، من أنَّ استصحاب بقاء النهار أو اللّیل، لا یثبت کون الجزء المشکوک فیه مُتّصفاً بکونه من النهار أو من اللّیل، حتّیٰ یصدق علی الفعل الواقع فیه أ نَّه واقع فی اللیل أو النهار، إلاّ علی القول بالأصل المُثبت مطلقاً أو علیٰ بعض الوجوه الآتیة.
ثانیهما: أ نَّه یُعتبر فی الموقّتات إحراز وقوعها فی الزمان الذی اُخذ ظرفاً لامتثالها، فیعتبر فی الصیام وقوعه فی الظرف المُعتبر وقوعه فیه وهو شهر رمضان، وکذا الصلاة الیومیّة لا بدّ من إحراز وقوعها فی اللّیل أو النهار، فاستصحاب بقاء النهار أو اللّیل
أو شهر رمضان ـ علیٰ فرض إثبات کون هذا الزمان من اللّیل أو النهار أو من شهر رمضان ـ لا یثبت وقوع الفعل فیه؛ فإنَّ کون الفعل مُتقیّداً بوقوعه فی هذا الزمان من اللّوازم العقلیّة لکون الزمان من اللّیل أو النهار.
هذا ولا یخفیٰ وهن الإشکال الثانی؛ فإنَّ وقـوع الفعل فی هذا الزمان وجدانیّ، فإذا حکم الشارع بالاستصحاب أنَّ هذا الزمان نهار لا یحتاج إلیٰ أمر آخر إلاّ إتیان الصلاة أو الصیام فیه، کما إذا شکّ فی عالمیّة زید، فیستصحب کونه عالماً لوجوب إکرامه؛ فإنَّه إذا ثبت بالاستصحاب أنَّ هذا الشخص الخارجیّ عالم لا یکون إثبات وجوب إکرامه أصلاً مُثبتاً.
هذا مُضافاً إلیٰ إمکان أن یقال: إنَّ قوله: «یجب صوم شهر رمضان» أو «الصلاة من دلوک الشمس إلیٰ غسق اللیل» لمّا کان من القضایا الحقیقیّة یصیر مفاده: أنَّ کلّ ما وجد فی الخارج وکان شهر رمضان یجب الصوم فیه، وکلّ ما وجد فی الخارج وکان نهاراً یجب الصلاة فیه، فإذا وجد زمان فی الخارج، وحکم بالاستصحاب أ نَّه شهر رمضان، یکون حکمه أنَّ الصوم فیه واجب، وکذا الصلاة، فوجوب الصوم فی شهر رمضان من أحکام کون هذا الزمان شهر رمضان المحرز بالاستصحاب، ووجوب الصلاة فیه من أحکام بقاء النهار أو اللّیل، کما أنَّ وجوب إکرام هذا الشخص الموجود من أحکام کونه عالماً، وطهارة ما غسل بالماء الخارجیّ من أحکام کونه کرّاً، ولا إشکال فی عدم کون أمثال ذلک من الأصل المُثبت، فالعمدة هو الجواب عن الإشکال الأوّل.
ویمکن أن یجاب عنه أوّلاً: بأنَّ الزمان عبارة عن الهویّة الخارجیّة المُستمرّة الباقیة بالبقاء التصرّمی کماعرفت، فإذا علم بوجودالنهار فقد علم أنَّ هذه الهویّة المُستمرّة
متّصفة بکونها نهاراً، وإذا شکّ فی بقاء النهار یکون الشکّ فی زوال تلک الصفة عنها، فالمعلوم فی الزمان السابق کون هذه الهویّة المُستمرّة نهاراً، والمشکوک فیه هو بقاؤها علیٰ صفة النهاریّة.
ولا تسمع لما قیل: من أنَّ الزمان الحاضر حدث إمّا من اللّیل أو من النهار، فلا یقین بکونه منهما حتّیٰ تستصحب حالته السابقة؛ لأنَّ ذلک مساوق لإنکار بقاء الزمان واللّیل والنهار، وقد عرفت أنَّ ما هو باق من الحرکة أو الزمان نفس ما کان مُتحقّقاً سابقاً؛ لأنَّ الزمان أو الحرکة لیسا مرکّبین من القطعات، والماضی والحال والاستقبال لیست اجزاءً للزمان بحسب الهویّة الخارجیّة لا عقلاً ولا عرفاً، بل التقطیع إنّما هو بالوهم، فتکون هویّة الزمان والحرکة أمراً بسیطاً باقیاً.
وثانیاً: أنَّ التعبّد ببقاء النهار فی الحال عبارة اُخریٰ عن کون هذا الحال نهاراً؛ فإنَّ الزمان لا یکون فی الزمان حتّی بنظر العرف، فإذا قیل: «تعبّد بکون النهار موجوداً فی الحال عند الشکّ فی بقائه» یفهم العرف منه أنَّ هذا الزمان الحاضر هو النهار، لا أنَّ النهار شیء، والزمان الحاضر شیء آخر، ولیس هذا من الأصل المُثبت، ولیس کاستصحاب الکلّی لإثبات الفرد؛ لأنَّ الکلّی لیس عبارة اُخریٰ عن الفرد فی نظر العرف، وأمّا کون النهار موجوداً فی هذا الزمان فهو عبارة اُخریٰ عن کون الزمان الحاضر نهاراً.
وثالثاً: یمکن إجراء الاستصحاب التعلیقیّ علی نحو التعلیق فی الموضوع؛ بأن یقال: لو صلّیت فی الزمان السابق المعلوم کونه نهاراً لکانت صلاتی فی النهار، فشککت فی بقاء هذا الأمر، فأستصحب أنَّ صلاتی لو وجدت تکون فی النهار، فإیجادها وجدانیّ،
وکونها واقعة فی النهار ـ علی فرض الوجود ـ إنّما هو بحکم الأصل. لکن جریان الأصل التعلیقیّ بنحو التعلیق فی الموضوع محلّ إشکال.
هذا حال استصحاب نفس الزمان أو ما هو مثله کالحرکة.
استصحاب الزمانیّات
وأمّا غیر الحرکة من الزمانیّات المُتصرّمة المُتقضیّة فهی علی أقسام:
منها: ما یکون تصرّمه وتقضّیه ممّا لا یراه العرف، بل یکون بنظرهم ثابتاً کسائر الثابتات، کشعلة السراج التی یراها العرف باقیة من أوّل اللیل إلی آخره من غیر تصرّم وتغیّر، مع أنَّ الواقع خلافه، وکشعاع الشمس الواقع علی الجدار الذی یرونه ثابتاً غیر مُتغیّر.
ومنها: ما یری العرف تصرّمه وتغیّره، لکن یکون نحو بقائه کبقاء نفس الزمان والحرکة ممّا یکون واحداً عقلاً وعرفاً، وإن کانت وحدته وبقاؤه بعین تصرّمه وتقضّیه، کصوت مُمتدّ مثل الرعد وأمثاله.
ومنها: ما تکون وحدته وبقاؤه بنحو من الاعتبار، مثل ما فرضه الشیخ الأنصاریّ رحمه الله بالنسبة إلی الزمان والزمانیّات مطلقاً، ولعلّ هذا الاعتبار مُحتاج إلیه فی هذا القسم، وهو مثل التکلّم وقرعات النبض والساعة.
ولا إشکال فی جریان الاستصحاب فی الأوّل منها، سواءً جریٰ فی الزمان
والحرکة أم لا.
والقسم الثانی حاله حال نفس الزمان والحرکة، وقد عرفت جریانه فیهما من غیر احتیاج إلی الاعتبار الذی اعتبره الشیخ الأعظم.
والقسم الثالث أسوأ حالاً من الزمان والحرکة، وإن کان الأقویٰ جریانه فیه أیضاً؛ لمساعدة العرف فی صدق البقاء، وأنَّ رفع الید عنه هو نقض الیقین بالشکّ، وهذا ممّا لا شبهة فیه، لکنّ الظاهر أ نَّه من قبیل القسم الثانی من القسم الثالث من الکلّی، لا القسم الأوّل أو الثالث من الثالث کما اختاره الشیخ الأعظم وتبعه بعض الأعاظم؛ ضرورة أنَّ العُرف یریٰ کلّ کلمة وکلام ـ فی خطابة واحدة، أو مجلس وعظ واحد، من التحمید والتهلیل والشعر والنثر وغیرها ـ موجوداً غیر ما یلحقه، والوحدة بینها اعتباریّة حتّیٰ فی نظر العرف، فمع الاشتغال بأوّله یریٰ وجود الموجود الاعتباریّ بوجه من المُسامحة، لا علیٰ سبیل الحقیقة، فلم یصدق نقض الیقین بالشکّ بالنسبة إلیٰ المجموع إلاّ بالمسامحة والتأوّل.
وقد ذکرنا فی محلّه: أنَّ موضوعات الأحکام تؤخذ من العرف، لکن لا علی وجه المُسامحة، بل علیٰ نحو الحقیقة والدقّة العُرفیّة، وإن لم تکن علیٰ نحو الدقّة العقلیّة، فصدق عدم نقض الیقین بالشکّ لیس إلاّ بالنسبة إلیٰ ماهیّة الکلام والخطابة، کصدق البقاء بالنسبة إلیٰ نوع الإنسان، وعدم نقض الیقین بالشکّ فیه.
ثمّ إنَّ اختلاف الدواعی لا یصیر موجباً لاختلاف شخصیّة الکلام غالباً؛ لأنَّ المُتکلّم المُتشاغل بالکلام ـ کالخطیب والواعظ ـ قد تُعرض له الدواعی المُختلفة فی کلامه، مع أ نَّه ما دام مُتشاغلاً به تکون وحدة کلامه محفوظة عرفاً، فوحدة
الکلام وعدمها لا تتقوّمان بوحدة الداعی وعدمها، لا طرداً ولا عکساً، کما یظهر بالتأمّل فی موارده.
فما أفاده بعض أعاظم العصر: من أ نَّه إذا شکّ فی بقاء الزمانیّ لأجل احتمال قیام مبدأ آخر یقتضی وجوده فالأقویٰ عدم الجریان؛ لرجوعه إلی الوجه الثانی من القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی، فإنَّ وحدة الکلام عرفاً إنّما تکون بوحدة الداعی، لیس علی إطلاقه بصحیح؛ لأنَّ المیزان فی وحدة الکلام هو نفس شخصیّته ووجوده، لا الدواعی الموجبة لإیجاده.
وأمّا القسم الثالث: وهو ما یکون الزمان قیداً لأمرٍ مُستقرّ فجریان الاستصحاب فیه کجریانه فی نفس الزمان إشکالاً وجواباً.
ولا یخفیٰ: أنَّ مناط الإشکال فی الأقسام الثلاثة واحد، وهو أنَّ التقضّی والتصرّم فی المستصحب هل یوجب عدم جریانه أم لا؟ فکما إذا شکّ فی بقاء النهار یکون استصحاب النهار مورداً للبحث، کذلک إذا قیّد الجلوس بالنهار یکون محلّ البحث ما إذا شک فی بقاء النهار، وأنَّ الجلوس المُتقیّد بأمر مُتصرّم هل یجری الاستصحاب فیه أم لا؟
وأمّا استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضیّ النهار فلیس مورداً للبحث ها هنا، ومناط الإشکال فیه لیس مناطه فی الزمان والزمانیّات حتّی یقال: إنَّ الزمان إذا اُخذ قیداً لا یجری الاستصحاب بعده، وإذا اُخذ ظرفاً یجری بعده؛ لأنَّ ذلک خروج عن محطّ البحث ومورد النقض والإبرام، وهذا خلط واقع من الشیخ الأعظم، وتبعه غیره.
شبهة النراقیّ
وممّا ذکرنا یعلم: أنَّ ذکر کلام الفاضل النراقیّ رحمه الله فی ذیل هذا المبحث غیر مُناسب؛ لأنَّ إشکاله إنّما هو معارضة استصحاب الوجودیّ بالعدمیّ فی الأحکام بعد مضیّ الزمان الذی اُخذ ظرفاً للواجب أو الوجوب، ولیست شبهة مرتبطة بالشبهة التی فی الزمان والزمانیّات.
وکیف کان فمُحصّل إشکاله: أنَّ استصحاب الوجود دائماً معارض باستصحاب العدم الأزلیّ فی الأحکام، تکلیفیّة کانت أو وضعیّة، فاستصحاب وجوب الجلوس بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المُتقیّد بکونه بعد الزوال؛ فإنَّ عنوان الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال من العناوین التی یمکن أن تکون مُستقلّة فی الحکم، فهو غیر محکوم بالوجوب فی الأزل، فیُستصحب عدم الوجوب الأزلیّ، ویُعارض باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.
وإشکال عدم اتصال زمان الشکّ بالیقین مدفوع: بأ نَّه قبل مجیء یوم الجمعة یکون الشکّ والیقین حاصلین، ومُتّصلاً أحدهما بالآخر، وهذا الجواب منه مُجمل أو مخدوش.
والتحقیق فی الجواب أن یقال: إنَّ زمان الشکّ مُتّصل بالیقین بالنسبة إلی هذا
الموضوع المُقیّد؛ فإنَّه قبل وجود الحکم من الشارع، أو قبل بلوغ المُکلّف معلوم عدم وجوبه، وبعد ورود الحکم وبلوغه صار مشکوکاً فیه، حتّیٰ قبل الزوال الذی هو ظرف وجوب نفس الجلوس.
وبعبارة اُخریٰ: المُتخلّل بین زمان الشکّ والیقین هو العلم بوجوب الجلوس، لا بوجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال، والمُضرّ هو الثانی دون الأوّل؛ فإنَّه غیر منافٍ للشکّ بوجوب الجلوس المُتقیّد.
وبعبارة ثالثة: أ نَّه قبل ورود أمر الشارع کان وجوب الجلوس قبل الزوال، ووجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال معلوم العدم، وبعد وروده صار وجوب الجلوس قبل الزوال معلوم التحقّق، ووجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال مشکوکاً فیه حتیٰ فی ظرف العلم بوجوب الجلوس قبل الزوال؛ لعدم التنافی بینهما، فیستصحب وجوب الجلوس، وعدم وجوب المُتقیّد، وهما متعارضان.
ثمّ قرّر الإشکال فی الأحکام الوضعیّة بنحو آخر مذکور فی رسائل الشیخ، وأجاب عنه الأعاظم بأجوبة غالبها مخدوش فیه.
جواب الشیخ عن الشبهة وما فیه
منها: ما افاده الشیخ الأعظم قدّس سُّره، ومحصّل إشکاله الأوّل علیه: انَّ الزمان إن اُخذ ظرفاً للجلوس فلا یجری استصحاب العدم؛ لأ نَّه إذا انقلب العدم إلی الوجود المردّد بین کونه فی قطعة خاصّة من الزمان، وکونه أزید، والمفروض تسلیم حکم الشارع بأنَّ المُتیقّن فی زمان لا بدّ من إبقائه، فلا وجه لاعتبار استصحاب العدم السابق.
والحاصل: أنَّ العدم انتقض بالوجود المُطلق، وقد حکم علیه بالاستمرار بمقتضیٰ أدلّة الاستصحاب، فلا یجری استصحاب العدم، وإن اُخذ قیداً للحکم أو المُتعلّق فلا یجری إلاّ استصحاب العدم؛ لأنَّ انتقاض عدم الوجود المُقیّد لا یستلزم انتقاض المُطلق، والأصل عدم الانتقاض.
والإنصاف عدم ورود هذا الإشکال علیه؛ لأ نَّ فرض قیدیّة الزمان للجلوس أو الحکم غیر مذکور فی کلامه، ولا یکون دخیلاً فی مدّعاه؛ لأنَّ دعواه تعارض استصحاب الوجود بالعدم دائماً، لا جریان استصحاب الوجود دائماً، حتّیٰ یرد علیه أ نَّه قد لایجری استصحاب الوجود، وذلک فیما إذا اُخذ الزمان قیداً، وهذا نظیر ادّعاء أنَّ استصحاب المُسبّبی محکوم لاستصحاب السببیّ دائماً؛ فإنَّ المُدّعی لیس جریان الاستصحابین دائماً، بل المُدّعیٰ أ نَّه علیٰ فرض الجریان یکون أحدهما محکوماً.
وبالجملة: منظوره عدم جواز التمسّک بالاستصحاب لإثبات الأحکام؛ لأ نَّه علیٰ فرض جریانه معارض باستصحاب العدم الأزلیّ الثابت لعنوان مقیّد بالزمان المُتأخّر عن ظرف الحکم، ففرض عدم جریان استصحاب الوجودیّ غیر مُنافٍ لدعواه.
وأمّا علیٰ فرض ظرفیّة الزمان، فجریان استصحاب العدم الأزلی للعنوان المُتقیّد ممّا لا مانع منه؛ لأنَّ الموضوع المُتقیّد غیر الموضوع الغیر المُتقیّد، فلا یکون ثبوت الوجوب للجلوس نقضاً لعدم وجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال؛ لإمکان أن یکون نفس الجلوس واجباً، والجلوس المُتقیّد غیر واجب.
وبالجملة: عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غیر الجلوس المُتقیّد بالزمان، فلا یکون الحکم المُتعلّق نقضاً للمُقیّد بما أ نَّه مُقیّد.
وأمّا قوله: إنَّ المفروض تسلیم حکم الشارع بأ نَّ المُتیقّن فی زمان لا بدّ من إبقائه، وجَعَلَ هذا الحکم دافعاً لاستصحاب العدم الأزلیّ فهو غریب؛ لإنَّ هذا بیان الاستصحاب الوجودی المُعارض باستصحاب العدم الأزلیّ، فالتسلیم بجریان استصحاب الوجودیّ لا یوجب الحکم بتقدّمه علی استصحاب العدم الأزلی.
اللهمّ إلاّ أن یکون منظوره حکومة الاستصحاب الوجودی علی العدمیّ، لکنّه خلاف ظاهر کلامه؛ لأنَّ الحکومة إنّما هی بعد فرض جریان المحکوم فی نفسه، وهو یدّعی عدم اتصال زمان الشکّ بالیقین فی استصحاب العدم الأزلیّ.
وهذا مع أ نَّه علیٰ فرض انتقاض العدم لا یجری الاستصحاب ولو مع عدم تسلیم حکم الشارع بأنَّ المُتیقّن فی زمان لا بدّ من إبقائه، فکلامه لا یخلو من خلل، بل تناقض.
جواب المُحقّق الخراسانیّ وردّه
ومنها: ما ذکره المُحقّق الخراسانیّ رحمه الله ، وحاصله بتوضیح منّا: أنَّ أدلّة الاستصحاب لا یمکن أن تعمّ هذین الاستصحابین؛ لأنَّ الجمع بین لحاظ الزمان قیداً وظرفاً ممّا لا یمکن؛ لکمال التنافی بینهما، فلا یکون هناک إلاّ استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت فیما إذا اخذ الزمان ظرفاً، واستصحاب العدم فیما إذا اُخذ قیداً.
وفیه: إنَّ إطلاق دلیل الاستصحاب یشملهما من غیر لزوم الجمع بین اللّحاظین؛ لإنَّ معنی الإطلاق لیس لحاظ الحالات الطارئة والحیثیّات العارضة، والحکم علیها، وإلاّ یرجع إلی العموم، بل معناه جعل الماهیّة تمام الموضوع للحکم من غیر تقییده
بشیء، فینطبق قهراً علی الکثرات من غیر لحاظها بوجه، فقوله: «أحلّ الله ُ البیعَ» مُطلق؛ معناه أنَّ البیع تمام الموضوع للحلّیة والنفوذ، ولا تکون حیثیّة اُخریٰ وقید آخر دخیلین فی حلّیته، فإذا کان البیع تمام الموضوع، فکلّما تحقّق مع أیّة حیثیّة أو قید یکون موضوعاً للحلّ بما أ نَّه بیع، ومن غیر دخالة قید ولا لحاظه.
فقوله: (لا تنقض الیقین بالشکّ) یکون مُطلقاً بهذا المعنیٰ؛ أی یکون الیقین والشکّ تمام الموضوع للحکم بعدم الانتقاض، من غیر لحاظ خصوصیّة معهما، فهو بوحدته یشمل جمیع الاستصحابات بما أ نّها عدم نقض الیقین بالشکّ، وکذا إطلاق المادّة عبارة عن کون النقض ـ بما أ نَّه نقض ـ ملحوظاً من غیر لحاظ أمرٍ آخر معه.
هذا مضافاً إلیٰ أ نَّه لو فرض لزوم الجمع بین اللّحاظین فی دلیل الاستصحاب لا بدّ وأن لا یشمل إلاّ واحداً منهما دائماً، لا أ نَّه علیٰ فرض النظر فیه یشمل أحدهما، وعلیٰ فرض القیدیّة یشمل الآخر، إلاّ أن یکون مُراده ذلک بتأویل فی ظاهر کلامه؛ بإرجاع القیدیّة أو الظرفیّة إلیٰ أدلّة الاستصحاب، وهو کما تریٰ، والحقّ عدم ورود هذا الإشکال علیه رأساً.
جواب المحقّق النائینیّ والإشکال علیه
ومنها: ما فی تقریرات بعض أعاظم العصر رحمه الله ، من عدم جریان استصحاب العدم الأزلیّ مُطلقاً، ولو لم یجر استصحاب الوجود؛ لأنَّ العدم الأزلیّ هو العدم المُطلق، وانتقاضه إنّما یکون بحدوث الحادث، وإذا ارتفع بعد الحدوث لم یکن العدم الثانی هو العدم الأزلیّ، والعدم المُقیّد بقید خاصّ من الزمان أو الزمانیّ
مُتقومّ بوجود القید، ولا یعقل تقدّمه علیٰ قیده.
فإذا وجب الجلوس إلی الزوال فالعدم الأزلیّ انتقض إلی الوجود قطعاً، فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذه قیداً، فعدم الوجوب بعد الزوال لا یکون [من ]العدم الأزلیّ؛ لکونه مُقیّداً بما بعد الزوال، والعدم المُقیّد غیر العدم المُطلق المُعبّر عنه بـ «العدم الأزلیّ» فالمُستصحب بعد الزوال لیس هو العدم المُطلق، بل هو العدم المُقیّد بما بعد الزوال، وهو مُتقوّم بما بعد الزوال، فلا یمکن استصحابه إلاّ إذا آن بعد الزوال، ولم یثبت الوجود، ففی الآن الثانی یستصحب العدم.
والمفروض غیر ذلک؛ لأنَّ آن بعد الزوال یکون العدم مشکوکاً فیه، فالعدم الأزلی المطلق قد انتقض بالوجوب قبل الزوال، والعدم المُقیّد لم یکن قبل الزوال مُتحقّقاً إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.
نعم: لا مانع من استصحاب عدم جعل الوجوب للموضوع المُقیّد؛ لأنَّ الجعل واللاّجعل أزلیّان، فإذا جعل الزمان قیداً یختصّ کل من الجلوس قبل الزوال وبعده بجعل خاصّ، فیُستصحب عدم جعل الوجوب للجلوس بعد الزوال، لکن عدم الجعل لیس له أثر إلاّ بلحاظ المجعول، وإثبات عدم المجعول بعدم الجعل مُثبت.
هذا مضافاً إلیٰ أنَّ استصحاب البراءة الأصلیّة المُعبّر عنه بـ «استصحاب حال العقل» لا یجری مُطلقاً؛ لأنَّ العدم الأصلیّ عبارة عن اللاّحکمیة واللاّحرجیة، وهذا المعنیٰ بعد وجود المُکلّف واجتماع الشروط فیه قد انتقض قطعاً ولو إلی الإباحة؛ لأنَّ اللاّحرجیة فی الإباحة بعد اجتماع شرائط التکلیف غیر اللاّحرجیة قبل وجود المُکلّف، إذ الأوّل مستند إلی الشارع دون الثانی، انتهی مُلخّصاً.
ولا یخفیٰ ما فیه:
أمّا أوّلاً: فلأنَّ العدم الأزلی وإن کان هو العدم المُطلق الغیر المسبوق بالوجود، لکنّه یلاحظ بالنسبة إلیٰ کلّ عنوان مُستقلاًّ، فوجوب الجلوس المُطلق عدمه الأزلیّ هو عدم وجوب الجلوس المُطلق، ووجوب الجلوس المُقیّد بما بعد الزوال عدمه الأزلیّ هو عدم وجوب هذا المُقیّد، کما أنَّ العدم الأزلی للإنسان، هو عدم الإنسان من غیر تقیّد بکونه فی زمان کذا أو مکان کذا، والعدم الأزلیّ للإنسان العالم هو عدم هذا العنوان من غیر تقیید بالقیود المذکورة.
فوجوب الجلوس بعد الزوال عدمه الأزلیّ بعدم هذا الوجوب المُتعلّق بالموضوع المُقیّد بما بعد الزوال، وهذا العدم عدم مطلق للوجوب المُقیّد إذا کان بعد الزوال قیداً للهیئة، وللوجوب المُتعلّق بالموضوع المُقیّد إذا کان قیداً للمادّة، ولا یکون هذا العدم مُنتقضاً؛ ضرورة انَّ انتقاضه إنّما یکون بوجوب الجلوس بعد الزوال، لا بوجوب الجلوس المُطلق؛ بحیث یکون الجلوس تمام الموضوع للوجوب من غیر تقیّده بقید، ولا بوجوب الجلوس قبل الزوال، ومعلوم أنَّ عدم وجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال ـ سواء کان القید للوجوب أو الجلوس ـ غیر معلوم الانتقاض، فلا مانع من جریان استصحابه.
وأمّا ما کرّره: من انَّ العدم المُتقیّد بقید کونه بعد الزوال لیس له تحقّق قبل الزوال، فغیر مرتبط بکلام الفاضل النراقیّ؛ ضرورة أنَّ العدم لیس مُتقیّداً بکونه بعد الزوال، بل العدم مُطلق، والوجوب أو الجلوس مُقیّد، والفرق بینهما أظهر من أن یخفیٰ، والظاهر أنَّ منشأ اشتباهه هو هذا الخلط، وبعد ذلک نسج علیٰ منواله ما نسج.
وأمّا ثانیاً: فلأنَّ ما ذکره ـ من أنَّ الجعل المُتعلّق بوجوب الجلوس قبل الزوال غیر الجعل المُتعلّق بالوجوب بعد الزوال؛ لأ نَّه بناءً علی القیدیّة یحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلیٰ جعل آخر مُغایر لجعل الوجوب قبل الزوال، وحیث إنَّه یشکّ فی جعله بعده
فالأصل عدمه ـ دلیل علی استقلال المجعول أیضاً؛ لأ نَّه تابع للجعل فی الوحدة والکثرة والاستقلال وعدمه، فحینئذٍ کما یُستصحب عدم جعل الوجوب بعد الزوال، یُستصحب عدم وجوب الجلوس بعده، فلا وجه للتفکیک بین الجعل والمجعول.
وأمّا ثالثاً: فلأنَّ إنکاره استصحاب عدم الوجوب الأزلیّ قائلاً: بأنَّ البراءة الأصلیّة عبارة عن اللاّحکمیة واللاّحرجیة، وهذا المعنیٰ قد انتقض قطعاً ولو إلی الإباحة، لیس بشیء؛ لأ نَّه ـ مُضافاً إلیٰ جواز استصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ، ومضافاً إلیٰ عدم العلم بانتقاض اللاّوجوب الأزلیّ إلی الوجوب، ولو سلّم انتقاض عدم الحکم إلی الحکم؛ لعدم المُنافاة بین انتقاض عدم الحکم بالحکم، وبین عدم انتقاض اللاّوجوب إلی الوجوب ـ لنا أن نمنع انتقاض اللاّحرجیّة واللاّحکمیة إلی الحکم فی کلّ موضوع من الموضوعات؛ لإنَّ بعض الموضوعات التی لا اقتضاء فیها لشیءٍ من الأحکام لابدّ وأن یبقیٰ علی اللاّحرجیة واللاّحکمیة.
ولا یلزم أن یکون لکلّ موضوع اقتضاء ولو للإباحة، وعدم الاقتضاء للأحکام الأربعة لا یستلزم اقتضاء الإباحة، فیمکن أن یکون موضوع خالیاً من مُطلق الاقتضاء، فیبقیٰ علی اللاّحکمیة الأزلیّة.
فدعوی القطع بانتقاض اللاّحکمیة واللاّحرجیة إلی الحکم والحرج فی غیر محلّها، بل دعوی القطع بخلافها لیست ببعیدة.
جواب شیخنا العلاّمة وما فیه
ومنها: ما أفاده شیخنا العلاّمة أعلی الله مقامه فی مجلس بحثه، من أنَّ الاستصحاب الوُجودیّ حاکم علی استصحاب العدم الأزلیّ؛ لأنَّ الشکّ فی المُقیّد ناش
عن بقاء الوجوب السابق، وأصالة بقائه ترفع شکّه، وأمّا أصالة عدم الوجوب للموضوع المقیّد فمضادّة لحکم الأصل الوجودیّ ورافعیّته له؛ للتضادّ الواقع بینهما، لا لرافعیّته لشکّه.
وفیه إشکال:
أمّا أوّلاً: فلأنَّ الشکّ فی وجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال لیس منشؤه الشکّ فی بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله، بل منشؤه إمّا الشکّ فی أن الوجوب المجعول هل هو ثابت لمُطلق الجلوس، أو للجلوس قبل الزوال، فلیس شکّه ناشئاً عن البقاء، بل عن کیفیّة الجعل.
وإمّا الشکّ فی جعل وجوب مُستقلّ للموضوع المُتقیّد بما بعد الزوال، فلا یکون استصحاب وجوب الجلوس رافعاً لشکّه تأمّل.
وأمّا ثانیاً: فلأنَّ شرط حکومة الأصل السببیّ علی المُسبّبی، أن یکون جریان الأصل الحاکم موجباً لرفع الشکّ عن المُسبّب تعبّداً؛ بمعنیٰ أن یکون المُستصحب فی الأصل المُسبّبی من الآثار الشرعیّة المُترتّبة علی المُستصحب فی الأصل السببیّ، کاستصحاب کرّیة الماء الحاکم علی استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، وأمّا لو کان الشکّ مُسبّباً ولم یکن کذلک، فلا یکون الأصل حاکماً.
ألا تریٰ: أنَّ الشکّ فی نبات لحیة زید مُسبّب عن الشکّ فی حیاته، ولکنّ استصحاب الحیاة لیس حاکماً علی استصحاب عدم نباتها، وما نحن فیه من هذا القبیل، فاستصحاب وجوب الجلوس إلیٰ بعد الزوال لا یثبت کون الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال واجباً إلاّ بالأصل المُثبت، بل حاله أسوأ من الأصل المُثبت کما یظهر بالتأمّل.
الجواب عن الشبهة
هذا والتحقیق فی الجواب عن الإشکال أن یقال: إنَّ من فرض معارضة الاستصحاب الوجودیّ والعدمیّ یلزمه عدم المعارضة بینهما؛ لأنَّ المعارضة بین الأصلین إنّما تتحقّق إذا کان موضوع حکمهما واحداً، ویکون أحد الأصلین یقتضی حکماً مُنافیاً للآخر.
نعم: قد تکون المعارضة بالعرض کما فی أطراف العلم الإجمالیّ، لکنّ منظورنا فی المقام هو المعارضة بالذات، ولا بدّ فیها من وحدة الموضوع، بل سائر الوحدات التی تتوقّف علیها المعارضة.
فحینئذٍ نقول: إنَّ الاستصحاب الوجودیّ والعدمیّ إمّا أن یکون موضوعهما واحداً أو لا.
فعلی الأوّل: تقع المعارضة بینهما لو فرض جریانهما، لکنّ فرض وحدة الموضوع مُوجب لسقوط أحدهما؛ لأنَّ الموضوع إمّا نفس الجلوس، فلا یجری الاستصحاب العدمی؛ لأنَّ عدم وجوب الجُلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال، فلا یکون بین الشکّ والیقین اتّصال، وإمّا الجلوس المُتقیّد ببعد الزوال فلا یجری الاستصحاب الوجودیّ؛ لعدم الیقین بوجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال.
وعلی الثانی: بأن یکون مفاد أحد الأصلین ثبوت الوجوب لنفس الجلوس، ومفاد الآخر عدم وجوب الجلوس المُتقیّد بما بعد الزوال، فلا منافاة بینهما؛ لإمکان حصول القطع بأنَّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أ نَّه جلوس، أی یکون نفس الجُلوس تمام الموضوع للوجوب، والجُلوس المُتقیّد بما بعد الزوال غیر واجب؛ بحیث یکون الجلوس بعض الموضوع، وبعضه الآخر تقیّده بکونه بعد الزوال.
کما أنَّ الإنسان بما أ نَّه إنسان ناطق، لا بما أ نَّه ماش مُستقیم القامة، فیصحّ أن یُقال: إنَّ الإنسان لیس بناطق من حیث کونه ماشیاً مُستقیم القامة، بل بما أ نَّه إنسان، وفیما نحن فیه یصحّ أن یقال: إنَّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أ نَّه جلوس، ولیس بواجب بما أ نَّه مُتقیّد بما بعد الزوال، ویرجع ذلک إلیٰ أنَّ الجُلوس تمام الموضوع لا بعضه.
لا یقال: إنَّ المُطلق إذا کان واجباً یقتضی إطلاقه وجوب الجلوس فی جمیع الحالات، ومنها الجُلوس بعد الزوال، فیصیر معارضاً لعدم وجوب الجُلوس بعد الزوال.
فإنَّه یقال: لیس معنیٰ إطلاقه أنَّ الجلوس بعد الزوال بما أ نَّه جُلوس بعد الزوال واجب، بل معناه أنَّ الجُلوس بعد الزوال واجب بما أ نَّه جُلوس، فلا منافاة بین وجوب الجُلوس بعد الزوال بما أ نَّه جُلوس، وعدم وجوبه بما أ نَّه مُتقیّد کما هو واضح، ولقد أشار إلیٰ بعض ما ذکرنا شیخنا العلاّمة فی «درره» فلیکن ما ذکرنا تقریراً وتوضیحاً لما أفاده.