التنبیه الثانی فی أقسام استصحاب الکلّی
المُتیقّن السابق إذا کان کلّیاً فی ضمن فرده وشکّ فی بقائه: فإمّا أن یکون الشکّ من جهة الشکّ فی بقاء ذلک الفرد، وإمّا أن یکون من جهة الشکّ فی تعیین الفرد وتردّده بین ما هو باقٍ جزماً وبین ما هو مرتفع کذلک، وإمّا من جهة الشکّ فی تحقّق فرد آخر مع الجزم بارتفاع الفرد المُتحقّق.
القسم الأوّل من استصحاب الکلیّ
أمّا الأوّل: فلا إشکال فی جریان استصحاب الکلّی والفرد فیه وترتیب آثار کلّ منهما علیه، کما أ نَّه لا إشکال فی أنَّ جریان استصحاب الکلّی لا یُغنی عن استصحاب الفرد؛ لأنَّ بقاء الکلّی یستلزم عقلاً کونه فی ضمن هذا الفرد؛ لانحصاره به فرضاً.
وهل یغنی استصحاب الفرد عن الکلّی أم لا أو یفصّل بین ما إذا کان الکلّی بنحو صرف الوجود، وبین ما إذا کان بنحو الوجود الساری؛ لأنَّ الکلّی اعتبر فی النحو الثانی مُتّحداً مع الأفراد، فجریانه فی الفرد یُغنی عنه؛ لأ نَّه مُتّحد معه، لا مستلزم إیّاه!!
والتحقیق: عدم إغنائه عنه مُطلقاً؛ لأنَّ حیثیّة الکلّی غیر حیثیّة الخصوصیّات الفردیّة فی عالم الاعتبار ومقام تعلّق الأحکام بالموضوعات، فاعتبار إیجاب إکرام کلّ إنسان غیر اعتبار إیجاب إکرام زید وعمرو؛ فإنَّ الحکم قد تعلّق فی الأوّل بحیثیّة إنسانیّة کلّ فرد، وهی غیر الخصوصیّات الفردیّة عرفاً، فإسراء الحکم من أحد المُتّحدین فی الوجود والمختلفین فی الحیثیّة بالاستصحاب لا یمکن إلاّ بالأصل المُثبت.
القسم الثانی من استصحاب الکلّی
وأمّا الثانی: فالأقویٰ جریان استصحاب الکلّی فیه أیضاً؛ لأنَّ المُعتبر فیه هو وحدة القضیّة المُتیقنة والمشکوک فیها عرفاً، وهو حاصل؛ لأ نَّه مع العلم بوجود فرد من
الحیوان یعلم بوجود الحیوان، ومع الشکّ فی کونه طویل العمر یشکّ فی بقاء عین الحیوان المُتیقّن، فما هو مشکوک البقاء عین ما هو مُتیقّن الحدوث.
لا یقال: إنَّ المُتیقّن السابق مردّد بین الحیوانین، والکلّی مُتکثّر الوجود فی الخارج، فالبقّ غیر الفیل وجوداً وحیثیّة، حتّیٰ إنَّ حیوانیّة البقّ أیضاً غیر حیوانیّة الفیل علیٰ ما هو التحقیق فی باب الکلّی الطبیعی وما هو مشکوک البقاء لیس هذا المُتیقّن المُردّد بینهما، فلا تتّحد القضیّتان.
فإنَّه یقال: إنَّما یرد ذلک ـ بعد تسلیم کون الطبیعیّ مع الأفراد کذلک عُرفاً ـ لو أردنا استصحاب الفرد المُردّد، دون ما إذا أردنا استصحاب الکلّی؛ فإنَّ المعلوم هو حیوان خارجیّ مُتشخّص یکون الکلّی موجوداً بوجوده، ویشک فی بقاء ذاک الحیوان بعینه، فلا إشکال فی جریان الأصل فیه.
لکنّ الإنصاف: أ نَّه لو اُغمض النظر عن وحدتهما عرفاً، فلا یُمکن التخلّص من الإشکال، سواء اُرید إجراء استصحاب الکلّی المُعرّیٰ واقعاً عن الخصوصیّة، أو استصحاب الکلّی المُتشخّص بإحدی الخصوصیّتین، أو الکلّی الخارجیّ مع قطع النظر عن الخصوصیّة؛ بدعویٰ أنَّ الموجود الخارجیّ له جهتان: جهة مُشترکة بینه وبین غیره من نوعه أو جنسه فی الخارج، وجهة ممیّزة، والعلم بوجود أحد الفردین موجب لعلم تفصیلیّ بجهة مُشترکة خارجیّة بینهما؛ وذلک لاختلال رکنی الاستصحاب أو أحدهما علیٰ جمیع التقادیر:
أمّا علی التقدیر الأوّل: فللعلم بعدم وجود الکلّی المُعرّیٰ واقعاً عن الخصوصیّة؛
لامتناع وجوده کذلک، فیختلّ رکناه.
وأمّا علی الثانی: فلأنَّ ذلک عین العلم الإجمالی بوجود أحدهما؛ لأنَّ الکلّی المُتشخّص بکلّ خصوصیّة یُغایر المُتشخّص بالخصوصیّة الاُخریٰ، فتکون القضیّة المُتیقّنة العلم الإجمالی بوجود أحدهما، وقضیّة اعتبار وحدتها مع المشکوک فیها أن یشکّ فی بقاء المعلوم بالإجمال، وفی المقام لا یکون الشکّ فی بقاء المعلوم بالإجمال، بل یعلم فی الزمان الثانی إجمالاً، إمّا ببقاء الطویل، أو ارتفاع القصیر، وإنَّما یکون الشکّ فی البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم، طویل العمر کان أو قصیره، فاختلّ الرکن الثانی منه.
وأمّا علی التقدیر الثالث: فلأنَّ الجهة المشترکة بما هی مُشترکة غیر موجودة فی الخارج إلاّ علیٰ رأی الرجل الهمدانیّ الذی یلزم منه مفاسد کما حُقّق فی محلّه، وعلی المسلک المنصور تکون الطبیعة فی الخارج طبیعتین، فکما لا علم تفصیلیّ بإحدیٰ الخصوصیّتین، لا علم تفصیلیّ بإحدی الطبیعتین؛ لامتناع حصول العلم التفصیلیّ إلاّ مع وحدة الطبیعة المعلومة، فحینئذٍ یأتی فیه الإشکال المُتقدّم. فالتخلّص عن الإشکال هو ما أشرنا إلیه من وحدة القضیّتین عرفاً، وهی المُعتبرة فی الاستصحاب، والدلیل علی عرفیّة القضیّة ما تریٰ من عدم قبول النفوس خلافها إلاّ بالبرهان، وحکم أهل العرف قاطبة ببقاء النوع الإنسانی وسائر الأنواع من بدو الخلقة إلی انقراضها، واشتهار القول بأنَّ المهملة توجد بوجود ما، وتنعدم بعدم جمیع الأفراد، وغیرها ممّا هی من لوازم قول الهمدانیّ.
لا یقال: یرد علیٰ هذا الاستصحاب ما یرد علی استصحاب بقاء النهار فی الشبهة المفهومیّة: من أنَّ النهار ینتهی إلی سقوط قرص الشمس، أو یبقی إلی زوال الحمرة؛ لأنَّ
الاستصحاب غیر جار فیه، لعدم الشکّ فی الخارج؛ لأنَّ سقوط القرص معلوم، وعدم زوال الحمرة معلوم أیضاً، فالأمر دائر بین المعلومین، وإنّما الشکّ فی انطباق مفهوم النهار علی احدی القطعتین، وکذا الحال فیما نحن فیه لدوران الأمر بین المقطوعین؛ لأنَّ الحیوان الخارجیّ إمّا باق قطعاً، أو مرتفع کذلک، فلا شکّ فی الخارج، وإنّما الشکّ فی انطباق عنوان الفیل أو البقّ علیه.
فإنَّه یقال: قیاس ما نحن فیه علی الشبهة المفهومیّة مع الفارق؛ لأنَّ الشکّ فی الشبهة المفهومیّة لیس إلاّ فی المعنی اللّغوی أو العرفیّ؛ أی یشکّ فی أنَّ لفظ «النهار» موضوع إلیٰ هذا الحدّ أو ذلک، وهو لیس مجری الاستصحاب، بخلاف ما نحن فیه؛ فإنَّ الشکّ إنّما هو فی بقاء الحیوان الخارجیّ، ومنشأ الشکّ إنّما هو الشکّ فی طول عمره وقصره، ومثل ذلک لا إشکال فی جریان الاستصحاب فیه إلاّ من جهة الشکّ فی المُقتضی، وقد فرغنا من جریانه فیه.
وأمّا الإشکال من جهة أنَّ الشکَّ فی بقاء الکلّی مُسبّب عن الشکّ فی حدوث الفرد الطویل المنفیّ بالأصل فواضح الفساد.
الجواب عن الشبهة العبائیّة
ثمَّ إنَّه لا إشکال فی أ نَّه لا یترتّب علی استصحاب الکلّی أثر الفرد ولا أثر غیره من لوازمه وملزوماته؛ ضرورة أنَّ بقاء الکلّی مستلزم عقلاً لوجود الفرد الطویل، وهذا هو
الجواب عن الشبهة العبائیّة المعروفة؛ فإنَّه مع تطهیر أحد طرفی الثوب لا یجری استصحاب الفرد المُردّد، ولکن جریان استصحاب النجاسة وإن کان ممّا لا مانع منه؛ لأنَّ وجود النجاسة فی الثوب کان مُتیقّناً، ومع تطهیر أحد طرفیه یشکّ فی بقائه فیه، إلاّ أ نَّه لا یترتّب علیٰ مُلاقاة الثوب أثر مُلاقاة النجس؛ فإنَّ استصحاب بقاء الکلّی أو الشخص الواقعیّ، لا یثبت کون مُلاقاة الأطراف مُلاقاة النجس إلاّ بالأصل المُثبت، لأنَّ مُلاقاة الأطراف مُلاقاة للنجس عقلاً.
ولیس لأحدٍ أن یقول: إنَّه بعد استصحاب نجاسة الثوب تکون المُلاقاة معها وجدانیّة؛ لأنَّ ما هو وجدانیّ هو المُلاقاة مع الثوب لا مع النجس، واستصحاب بقاء النجاسة بالنحو الکلّی وکذا استصحاب النجس الذی کان فی الثوب؛ أی الشخص الواقعیّ لا یثبت أنَّ المُلاقاة مع الثوب بجمیع أطرافه ملاقاة للنجاسة إلاّ بالاستلزام العقلیّ، وفرق واضح بین استصحاب نجاسة طرف معیّن من الثوب، وبین استصحاب نجاسة فیه بنحو غیر معیّن؛ فإنَّ ملاقاة الطرف المُعیّن المُستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المُستصحب وجداناً، فإذا حکم الشارع بأنَّ هذا المُعیّن نجس ینسلک فی کُبریٰ شرعیّة هی: «أنَّ ملاقی النجس نجس» وأمّا کون ملاقاة جمیع الأطراف ملاقاةً للنجس الکلّی أو الواقعی فیکون بالاستلزام العقلیّ.
ألا تریٰ أ نَّه لو وجب علیه إکرام عالم، وکان فی البیت شخصان یعلم کون أحدهما عالماً، فخرج أحدهما من البیت، وبقی الآخر یجری استصحاب بقاء العالم فی البیت، ویترتّب علیه أثره لو کان له أثر، لکن لا یثبت کون الشخص الموجود عالماً لیکون إکرامه عملاً بالتکلیف، بخلاف ما لو کان زید عالماً وشکّ فی بقاء علمه؛ فإنَّ استصحاب کونه عالماً یکفی فی کون إکرامه مُسقطاً للتکلیف، کما أ نَّه لو شکّ فی زوال
النجاسة المعلومة بالإجمال؛ بأن یشکّ فی أنَّ الثوب الذی علم کون أحد طرفیه نجساً هل غسل أم لا؟ یجری استصحاب الکلّی، ولا یثبت کون ملاقی جمیع أطرافه نجساً؛ لما عرفت.
لکن هاهنا استصحاب آخر: هو استصحاب الفرد المُردّد، وأثره نجاسة ملاقی جمیع الأطراف؛ فإنَّ التعبّد بنجاسة هذا الطرف أو هذا الطرف بنحو الفرد المُردّد یکون أثره نجاسة ملاقی الطرفین من غیر شبهة المُثبتیّة، فهو کاستصحاب نجاسة الطرف المُعیّن من حیث إنَّ ملاقیه محکوم بالنجاسة، والفرق بینه وبین استصحاب الکلّی واضح؛ فإنَّ استصحاب أصل النجاسة فی الثوب لا یثبت أنَّ هذا الطرف أو هذا الطرف نجس، وکذا استصحاب الشخص الواقعیّ، وأمّا استصحاب الفرد المردّد فهو کالمُعیّن، فلا إشکال فی جریانه وترتیب أثر النجاسة علی ملاقیه.
وما یقال: من أنَّ الفرد المُردّد لا وجود له حتّیٰ یجری الاستصحاب فیه، لیس بشیء؛ ضرورة جواز التعبّد به وترتیب الأثر علیه کالواجب التخییریّ، لکنّه محل إشکال، والقیاس بالواجب التخییریّ مع الفارق؛ لأنَّ الواجب التخییریّ نحو وجوب علیٰ نعت التخییر، ولا یکون له واقع معیّن عند الله مجهول عندنا، بخلاف ما نحن فیه؛ فإنَّ النجس له واقع معیّن ومجهول عندنا، فالمعلوم هو النجس الواقعیّ المُعیّن، فیجری الاستصحاب فیه، لا فی الفرد المردّد، ولازمه عدم نجاسة ملاقی الأطراف، ولا بأس به.
الّلهمّ إلاّ أن یقال فی المثال: إنّی عالم بأنَّ الشارع حکم بنجاسة هذا الطرف المُعیّن أو ذاک، والمُلاقی لهما مُلاق لمُستصحب النجاسة وجداناً، وهذا هو الفارق بینه وبین
الشبهة العبائیّة المدفوعة بما تقدّم فتدبّر.
وأمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر رحمه الله فی مقام الجواب عن الشبهة العبائیّة: من منع جریان استصحاب الکلّی فیما إذا کان التردید فی محلّ المُتیقّن لا فی نفسه، کما لو علم بوجود حیوان فی الدار، وتردّد بین أن یکون فی الجانب الشرقیّ أو الغربیّ منها، ثمّ انهدم الجانب الغربیّ واحتمل تلف الحیوان، أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصّة، وتردّد محلّها بین الطرف الأسفل والأعلیٰ، ثمّ طهّر طرفها الأسفل، فلا یجری الاستصحاب، ولا یکون من الاستصحاب الکلّی؛ لأنَّ المُتیقّن أمر جزئیّ حقیقی لا تردید فیه، وإنّما التردید فی المحلّ، فهو أشبه باستصحاب الفرد المُردّد عند ارتفاع أحد فردی التردید، ولیس من الاستصحاب الکلّی، ومنه یظهر الجواب عن الشبهة العبائیّة المشهورة.
ففیه ما لایخفیٰ: فإنَّ استصحاب الفرد المُردّد عبارة عن استصحابه علیٰ ما هو علیه من التردید، وهو غیر جار فی المقام، ولیس المقام شبیهاً به، بل المُراد بالاستصحاب فی المقام هو استصحاب بقاء الحیوان فی الدار من غیر تعیین محلّه، وکذا استصحاب بقاء النجاسة فی الثوب من غیر تعیین کونها فی هذا الطرف أو ذاک، ومن غیر إرادة الجریان فی الفرد المُردّد؛ ضرورة أ نَّه مع تطهیر الطرف الأسفل من الثوب ینقطع التردید، ولا مجال لاستصحاب المُردّد، بل ما یراد استصحابه هو بقاء الحیوان فی الدار والنجاسة فی العباء، وهذا استصحاب الکلّی، وکون الحیوان الخاصّ فرداً جزئیّاً حقیقیّاً لا ینافی استصحاب الکلّی کما لا یخفی، کما أنَّ استصحاب الشخص الخاصّ والجزئیّ الحقیقیّ ـ کاستصحاب بقاء زید فی الدار، وبقاء النجاسة المُتحقّقة الخارجیّة الجزئیّة فی الثوب ـ
ممّا لا إشکال فیه؛ فإنَّه استصحاب الفرد المشکوک فیه، ولا شباهة له باستصحاب الفرد المُردّد، فسبیل الجواب عن مثل الشبهة العبائیّة هو ما عرفت.
القسم الثالث من استصحاب الکلّی
وأمّا الثالث: وهو ما إذا کان الشکّ فی بقاء الکلّی لاحتمال قیام فرد آخر مقام الفرد المعلوم ارتفاعه فیتصوّر علیٰ وجهین:
أحدهما: ما إذا کان منشأ الشکّ احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم؛ بحیث احتمل اجتماعها فی الوجود.
وثانیهما: ما إذا کان منشؤه احتمال حدوث فرد مقارناً لزوال الفرد المعلوم، سواء کان الفرد الآخر من الجواهر أو الاعراض، فإذا احتمل مقارنة فرد من السواد فی جسم مع الفرد الآخر فی جسم آخر علم زواله، فهو من القسم الأوّل، وإذا احتمل حدوث فرد منه مقارناً لزوال ذلک الفرد، فهو من القسم الثانی، کما أ نَّه إذا احتمل تبدّل الفرد الزائل بفرد آخر مباین له فی الوجود، فهو من القسم الثانی أیضاً.
وأمّا احتمال تبدّل مرتبة من العَرَض ـ الذی فیه عَرْض عریض ونقص وکمال ـ بمرتبة اُخریٰ، فهو لیس من القسم الثالث رأساً؛ لأنَّ شخصیّة الفرد وهویّته باقیة فی جمیع المراتب عقلاً وعُرفاً، فالحُمرة الشدیدة إذا صارت ضعیفة لیس تبدّلها من الکمال إلی النقص تبدّلَ فرد بفرد آخر، أمّا عقلاً فواضح عند أهله.
وأمّا عُرفاً فلأنَّ المراتب عندهم فی أمثالها من قبیل الحالات والشؤون للشیء، فشدّة الحمرة وضعفها من حالات نفس الحمرة مع بقائها ذاتاً وتشخّصاً، فالاستصحاب فی مثلها من القسم الأوّل لا الثالث.
نعم: فیما إذا علم بوجوب شیء وقطع بزواله، واحتمل تبدّله بالاستحباب یکون من القسم الثالث؛ لأ نَّه من قبیل تبدّل فرد من الطلب بفرد آخر مُغایر له عرفاً وعقلاً.
وممّا ذکرنا یتّضح: أنَّ استثناء الشیخ الأنصاریّ من عدم جریان الاستصحاب فی القسم الثانی من القسم الثالث ما یکون من قبیل السواد الضعیف والشدید من الاستثناء المُنقطع، کما أنَّ التفصیل بین القسمین المُتقدّمین الذی اختاره ممّا لا وجه له؛ لأنَّ مقارنة الفرد لفرد آخر وعدمها لادخل لهما فی بقاء الکلّی وعدمه، کما لا یخفی.
ثمّ إنَّه قد یقال: بعدم جریان الاستصحاب فیه؛ لأنَّ العلم بوجود الفرد فی الخارج إنَّما یُلازم العلم بوجود حصّة من الکلّی فی ضمن الفرد الخاصّ، لا العلم بوجود الکلّی، والحصّة الموجودة فی ضمن الفرد الخاصّ تغایر الحصّة الاُخریٰ فی ضمن فرد آخر؛ ولذا قیل: نسبة الکلّی إلی الأفراد نسبة الآباء المُتعدّدین إلی الأبناء.
ولا یخفیٰ: أنَّ هذا ناش من عدم تعقّل الکلّی الطبیعیّ وکیفیّة وجوده، وعدم الوصول إلیٰ مغزیٰ مُراد القوم من أنَّ نسبة الکلّی إلی الأفراد نسبة الآباء؛ ضرورة أنَّ الکلّی الطبیعیّ لدی المُحقّقین موجود بتمام ذاته مع کلّ فرد من الأفراد، فکلّ فرد فی الخارج بتمام هویّته عین الکلّی، لا أ نَّه حصّة منه، ولا تعقل الحصص للکلّی، فزید إنسان، لا نصف إنسان، أو جزء إنسان، أو حصّة منه، فلا معنیٰ للحصّة أصلاً.
وبالجملة: هذا الإشکال بمکان من الضعف یغنی تصوّر الکلّی عن ردّه، والعجب أنَّ بعض أعاظم العصر ادّعی البداهة لما اختاره من الحصص للکلّی، مع کونه ضروریّ الفساد.
وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانیّ رحمه الله : من تعدّد الطبیعیّ بتعدّد الفرد، وأنَّ الکلّی فی ضمن فرد غیرُه فی ضمن فرد آخر، ولذا اختار عدم الجریان مُطلقاً، فهو حقّ فی باب الکلّی الطبیعیّ عقلاً کما حُقّق فی محلّه، لکنّ جریانه لا یتوقّف علی الوحدة العقلیّة، بل المیزان وحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها عرفاً، ولا إشکال فی اختلاف الکلّیات بالنسبة إلیٰ أفرادها لدیٰ العرف.
وتوضیحه: أنَّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلی النوع الذی هی تحته، کزید وعمرو بالنسبة إلی الإنسان، وقد تلاحظ بالنسبة إلی الجنس القریب، کزید وحمار بالنسبة إلیٰ الحیوان، وقد تلاحظ بالنسبة إلی الجنس المتوسّط أو البعید، وقد تلاحظ بالنسبة إلی الکلّی العرضیّ، کأفراد الکیفیّات والکمّیات التی هی مُشترکة فی العروض علی المحلّ.
ولا یخفیٰ: أنَّ الأفراد بالنسبة إلی الکلّیات مختلفة عرفاً، فإذا شکّ فی بقاء نوع الإنسان إلیٰ ألف سنة یکون الشکّ فی البقاء عرفاً مع تبدّل الأفراد، لکنّ العرف یریٰ بقاء النوع مع تبدّل أفراده، وقد یکون الجنس بالنسبة إلیٰ أفراد الأنواع کذلک، وقد لا یساعد [علیه نظر] العرف، کأفراد الإنسان والحمار بالنسبة إلی الحیوان؛ فإنَّ العرف لا یریٰ الإنسان من جنس الحیوان، وقد لا یساعد فی أفراد الأجناس البعیدة، وقد یساعد.
وبالجملة: المیزان وحدة القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها عرفاً، ولا ضابط لذلک.
ولا یبعد أن یقال: إنَّ الضابط فی حکم العرف بالبقاء فی بعض الموارد وعدم الحکم فی بعضها: أ نَّه قد یکون المصداق المعلوم أمراً معلوماً بالتفصیل أو بالإجمال، لکن بحیث یتوجّه ذهن العرف إلی الخصوصیّات الشخصیّة، ولو بنحو الإشارة، ففی مثله
لا یجری الاستصحاب؛ لعدم کون المُتیقّن الکلّی المشترک.
وقد یکون المعلوم علیٰ نحو یتوجّه العُرف إلی القدر الجامع، ولا یتوجّه إلیٰ الخُصوصیّات، کما إذا علم أنَّ فی البیت حیوانات مُختلفة، واحتمل وجود مصادیق اُخر من نوعها أو جنسها، ففی مثله یکون موضوع القضّیة هو الحیوان المُشترک، وبعد العلم بفقد المقدار المُتیقّن، واحتمال بقاء الحیوان بوجودات اُخر یصدق البقاء، ففی مثل الحیوان المُردّد بین الطویل والقصیر فی القسم الثانی لعلّه کذلک؛ لأجل توجّه النفس بواسطة التردّد إلیٰ نفس الطبیعة المُشترکة بزعمه، فیصدق البقاء.
وأمّا ما فی ظاهر کلام الشیخ الأعظم وصریح بعض الأعاظم: من أنَّ الفرق بین القسم الثانی والثالث أنَّ فی الثالث لا یحتمل بقاء عین ما کان، دون الثانی؛ لاحتمال بقاء عین ما کان موجوداً، فخلط بین احتمال بقاء ما هو المُتیقّن بما أ نَّه مُتیقّن الذی هو مُعتبر فی الاستصحاب، وبین احتمال بقاء الحیوان المُحتمل الحدوث، ففی الآن الثانی وإن احتمل بقاء ما هو حادث، لکن هو احتمال بقاء ما هو محتمل الحدوث لا معلومه.
نعم: لو اُضیف الحدوث والبقاء إلیٰ نفس الطبیعة بلا إضافة إلی الخصوصیّات یکون الشکّ فی بقاء المُتیقّن فی کلا المقامین، إلاّ أن یتشبّث بحکم العرف بنحو ما ذکرنا آنفاً، والمسألة محتاجة إلیٰ مزید تأمّل؛ لعدم الخلوّ من الخدشة والإشکال والنقض.
وبما ذکرنا: یجمع بین ما قلناه مراراً من أن کثرة الإنسان بکثرة الأفراد عرفیّة کما هی عقلیّة، وبین ما قلناه من جریان الاستصحاب فی القسم الثانی وفی بعض موارد القسم الثالث، وعلیک بالتأمّل التامّ فی موارد الجریان وعدمه.
تذییلحول أصالة عدم التذکیة
إنّا وإن استقصینا البحث فی مبحث البراءة فی أصالة عدم التذکیة التی تمسّک بها الأعلام فی نجاسة الحیوان الذی شکّ فی تذکیته وحرمة لحمه، لکن لمّا بقی بعض الفوائد المهمّة التی لا بدّ من تحقیقها، فلا محیص عن التعرّض لها تبعاً للشیخ قدّس سرّه.
فنقول: قد ذکرنا سابقاً أنَّ الشبهة إمّا حکمیّة أو موضوعیّة، والحکمیّة: إمّا أن تکون لأجل الشکّ فی قابلیّة الحیوان للتذکیة لأجل الشبهة المفهومیّة، کما لو شکّ فی صدق مفهوم الکلب علیٰ حیوان، أو لأمر آخر، کالشکّ فی قابلیّة المتولّد من الحیوانین، وإمّا أن تکون للشکّ فی شرطیّة شیءٍ للتذکیة، أو ما نعیّة شیءٍ عنها، کالجلل أو غیر ذلک.
وللشبهة الموضوعیّة أقسام، کالشکّ فی کون حیوان کلباً أو غنماً لأجل الشبهة الخارجیّة، أو الشکّ فی تحقق التذکیة، أو کون لحم مأخوذاً ممّا هو معلوم التذکیة، أو معلوم عدمها، إلیٰ غیر ذلک.
وقلنا: إنَّ التذکیة بحسب التصوّر یمکن أن تکون أمراً بسیطاً متحصّلاً من الاُمور الخمسة أو منتزعاً منها، ویمکن أن تکون مُرکّباً خارجیّاً؛ بمعنیٰ کون نفس الاُمور الخمسة أو الستّة هی التذکیة، ویمکن أن تکون مرکّباً تقییدیّاً أو غیر ذلک.
فحینئذٍ: إذا شکّ فی التذکیة لأجل الشکّ فی قابلیّة الحیوان لها، فهل تجری أصالة عدم القابلیّة وتحرز الموضوع أم لا؟
قد یقال: بجریانها؛ لأنَّ القابلیّة من العوارض التی تعرض الحیوان فی الوجود الخارجیّ، ولیست من عوارض الماهیّة أو لوازمها قبل تحقّقها، فیمکن أن یشار إلی الحیوان الموجود بأنَّ هذا الحیوان قبل وجوده لم یکن قابلاً للتذکیة، وبعد تلبّسه بالوجود شکّ فی صیرورته قابلاً لها، فیستصحب عدمها، وکذا الحال فی المرأة التی یشکّ فی قرشیّتها، وکذا سائر الأعدام الأزلیّة ممّا یکون الحکم لموضوع مفروض الوجود. هذا مُحصّل ما أفاده شیخنا العلاّمة أعلی الله مقامه.
تحقیق القضایا السالبة
والتحقیق: عدم جریان الأصل المذکور، وتوضیحه یحتاج إلیٰ تحقیق القضایا السلبیّة من جهتین:
إحداهما: ما مرّ سالفاً فی الفرق بین القضایا الموجبة والسالبة والمعدولة، من أنَّ
القضیّة الموجبة المرکبة تکون حاکیة عن موضوع ومحمول ونسبة منتزعة من حصول المحمول للموضوع، ولها نحو تحقّق ولو بتبع الطرفین، وکذا المعدولة المحمول حاکیة عن موضوع محقّق، ومحمول له نحو تحقّق، کالأعدام والملکات، ولنسبته إلی الموضوع نحو تحقّق فی خصوص المرکّبات منها.
وفی حکم القضیّة المعدولة القضیة الموجبة السالبة المحمول کقولنا: «زید هو الذی لیس له القیام» ممّا لوحظ فیها اتصاف الموضوع بالمحمول، الذی هو قضیّة سالبة تحصیلیّة، وکذا السالبة المحصلة بسلب المحمول فقط، لا الأعمّ منه ومن سلب الموضوع، ولا بسلب الموضوع.
هذا کلّه فی القضایا الحملیّة المؤوّلة کقولنا: «زید علی السطح» أو «له القیام».
وأما الحملیّات الغیر المؤوّلة الحاکیات عن الهوهویّة فلا نسبة فیها، ولا کوناً رابطاً، لا واقعاً وفی نفس الأمر؛ لعدم إمکان النسبة والربط بین الشیء وما هو هو، ولا فی القضیّة المعقولة والملفوظة؛ لکونهما حاکیتین عن الواقع، مُنطبقتین علیه طابق النعل بالنعل، کما حقّقنا ذلک فی مباحث الألفاظ فراجع.
وأمّا القضیّة السالبة البسیطة المُحصّلة، سواءً کانت بنحو الهلیّة البسیطة کـ «زید لیس بموجود» أو المُرکّبة السالبة بسلب الموضوع کـ «العنقاء لیس بأبیض» فلیس لموضوعها ومحمولها ونسبتها تحقّق أصلاً؛ أی لا تحکی القضیّة عن موضوع ومحمول ونسبة، بل یدرک العقل بطلان الموضوع ولا شیئیّته بتبع صورة إدراکیّة موجودة فی الذهن، فیحکم ببطلانه أو ببطلان اتصافه بشیء بحسب الواقع، من غیر أن یکون کشف عن واقع مُحقّق، وسیأتی بیان مناط الصدق والکذب فی القضایا.
ثانیتهما: أنَّ النسبة السلبیّة لیست نسبة برأسها مقابلة للنسبة الإیجابیّة، کما علیه
المُتأخّرون من أهل النظر؛ لأنَّ حرف السلب آلة لسلب المحمول عن الموضوع، لا لنسبة إلیه، فمفاد السوالب لیس إلاّ سلب المحمول عن الموضوع، وحرف السلب لیس إلاّ آلة لسلبه عنه، فإذا لوحظ الواقع یریٰ أ نَّه لیس بین المحمول والموضوع نسبة؛ أی لا یکون المحمول حاصلاً للموضوع، فلا نسبة بینهما، فإنَّها مُنتزعة من حصوله له.
والقضیّة المعقولة أیضاً تتعقّل علی نعت الخارج؛ أی یکون مفادها سلب الربط بینهما، لا ربط السلب، ولا ربط هو السلب، وکذا مفاد القضیّة الملفوظة، فالقضیّة السلبیّة لا تشتمل علی النسبة رأساً، کما أ نَّه فی الواقع لیس بین الموضوع والمحمول ربط ونسبة، فالقضیّة السالبة مفادها سلب الربط، وإلاّ فإن کان مفادها ربط السلب تصیر معدولة، وإن کان مفادها الربط بینهما بالنسبة السلبیّة؛ أی یکون السلب هو الربط یخرج حرف السلب عمّا هو علیه من کونه آلة لسلب المحمول عن الموضوع، مع أنَّ لازم ذلک؛ أی الانتساب السلبیّ اتصاف الموضوع والمحمول بالسلب، فیکون مفاد القضیّة معنونیّة الموضوع بسلب المحمول عنه، ومعنونیّة المحمول بسلبه عنه، فتصیر القضیّة السالبة مُشتملة علیٰ نسبة إیجابیّة، مع أ نَّه خلاف الضرورة وخلاف الواقع الذی تکون القضیّة کاشفة عنه.
مع أنَّ القضیّة موجبة کانت أو سالبة لا بدّ وأن تکون حاکیة عن نفس الأمر، کاشفة عن الواقع، فإذا لم یکن فی الواقع ونفس الأمر ربط ونسبة بین الموضوع والمحمول فلا بدّ وأن تکون القضیّة حاکیة عن سلب الربط والنسبة، ولا معنیٰ لاشتمالها علیٰ ربط حتّی یقال: إنَّ النسبة السلبیّة نسبة أیضاً.
فإن قلت: لازم ماذکرت عدم ورود الإیجاب والسلب علی شیء واحد؛ لأنَّ لازمه ورود السلب علی النسبة الإیجابیّة، فمفاد القضیّة الموجبة إثبات المحمول للموضوع،
ومفاد القضیّة السالبة قطع هذه النسبة، فالإثبات یرد علی المحمول، والسلب علیٰ النسبة، وهو کما تریٰ.
وأیضاً لازم ذلک خلوّ القضیّة عن النسبة، مع أ نّها متقوّمة بها، ولا تکون القضیّة قابلة للصدق والکذب إلاّ بالنسبة.
قلت: أمّا ما ذکرت من عدم ورود الإیجاب والسلب علیٰ شیءٍ واحد، وورود السلب علی النسبة الإیجابیّة، فممنوع جدّاً؛ لما عرفت من أنَّ مفاد القضیّة الموجبة المؤوّلة إثبات المحمول للموضوع أوّلاً وبالذات، ولازمه الإخبار بتحقّق النسبة بینهما.
وإن شئت قلت: إثبات المحمول للموضوع ملحوظ باللّحاظ الاسمیّ، وتحقّق النسبة بینهما ملحوظ باللّحاظ الحرفیّ. وکذا فی القضیّة السالبة یکون سلب المحمول عن الموضوع أوّلاً وبالذات، ولازمه قطع الربط، والإخبار عن سلب النسبة بینهما، لا إثبات النسبة التی هی العدم، ولا نسبة الشیء العدمیّ؛ فإنَّهما خلاف الضرورة والوجدان، مع أنَّ العدم لیس بشیءٍ حتّی یقع به الربط بین الشیئین ویخبر المُتکلّم به.
نعم: یمکن لحاظ العدم بتبع الوجود والإخبار عنه، لکن لیس مفاد القضیّة السالبة کون العدم ربطاً، أو الموضوع متّصفاً به، وهو عنوان له.
وبالجملة: لیس معنیٰ وقوع السلب علی الربط أنَّ مفاد القضیّة أوّلاً وبالذات هو سلب النسبة، حتّیٰ تکون النسبة ملحوظة بالمعنی الاسمیّ، بل المراد منه أنَّ حرف السلب یسلب المحمول عن الموضوع، ولازمه سلب الانتساب وقطع الربط، کلّ ذلک بحسب مقام الإخبار والإثبات، فلا یلزم أن یکون الربط مورداً للسلب حتّیٰ یکون الاعتبار فی القضیّة السالبة مُخالفاً للقضیّة الموجبة، بل مفاد القضیّة السالبة نفی المحمول عن الموضوع، کما أنَّ مفاد القضیّة الموجبة ثبوته له.
وممّا ذکرنا یتّضح: أ نَّه لایلزم فی القضیّة السالبة لحاظ ثبوت المحمول للموضوع، ثمّ سلبه عنه.
نعم: لا بدّ من لحاظ المحمول والموضوع فی سلبه عنه، کما فی إثباته له.
وأمّا لزوم خلوّ القضیّة عن النسبة، فلیس بتال فاسد، فإنَّ القضیّة علی التحقیق لا تتقوّم بالنسبة، وما یقال فی مقام الفرق بین الإخبار والإنشاء: من أنَّ الإخبار ما یکون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه فکلام مسامحیّ معلوم البطلان، حتّی فی کثیر من القضایا الموجبة فضلاً عن السوالب کالهلیّات البسیطة؛ فإنَّه فی قولنا: «زید موجود» أو «الوجود موجود» أو «زید زید» لا یمکن أن یکون للنسبة خارج؛ للزوم تحقّق الماهیّة فی قبال الوجود، ولزوم توسّط النسبة بین الشیء ونفسه، وکذا فی الحملیّات الغیر المؤوّلة التی یکون مفادها الهوهویّة، وفی القضایا السالبة مُطلقاً لا تکون نسبة، ولا للنسبة خارج بالضرورة؛ لما عرفت من أنَّ مفادها قطع النسبة وسلب الربط، فما اشتهر بینهم: من أنَّ القضیّة متقوّمة بالنسبة، ممّا لا أصل له، وإن وقع فی کلام أهل التحقیق والنظر لا بدّ وأن یحمل علیٰ قسم من الهلیّات المُرکّبة الموجبة، فالقضیّة قول مفاده إمّا الهوهویّة، أو ثبوت شیءٍ لشیءٍ، أو سلبه عنه، وذلک فی بعض الهلیّات المُرکّبة، أو ثبوت الشیء وسلبه، وهو فی البسائط، ومناط قابلیّتها للصدق والکذب هو هذا الإثبات والسلب، فنفس تصوّر الموضوع أو المحمول أو النسبة أو سلبها لا یوجب صیرورة القضیّة قضیّة، وأمّا التصدیق بأنَّ هذا هذا أو لیس بهذا [فهو] موجب لتحقّق القضیّة المعقولة، واللّفظ الحاکی عنه الدالّ علیه هو القضیّة اللفظیّة، وقد عرفت کیفیّة حکایتها عن الواقع.
بیان مناط الصدق والکذب فی القضایا
إن قلت: فما المناط فی صدق القضایا وکذبها إذا لم تکن للسالبة نسبة وواقعیّة؟ وهل الصدق إلاّ المطابقة للواقع، والکذب عدمها؟!
قلت: نعم الصدق هو المطابقة للواقع والکذب عدمها، لکن لا یلزم منه أن تکون للکواذب واقعیّة، وللأعلام حقائق، ولا لقطع النسبة الواقعیّة حکایة عن واقع محقّق فی الخارج.
وتوضیحه: أنَّ الواقع عبارة عن نظام الوجود ذهناً وخارجاً؛ بحیث لا تشذّ عنه حقیقة من الحقائق وموجود من الموجودات، فإذا أخبر بـ «أنَّ زیداً قائم» فإمّا أن یکون مطابقاً لصفحة الکون ونظام الوجود فهو صدق، وإلاّ فلا، وإذا قیل: «شریک البارئ لیس بموجود» یکون مطابقاً للواقع؛ لأنَّ صفحة الکون خالیة عنه، والإخبار مطابق له، وإذا قیل: «إنَّه موجود» یکون مخالفاً للواقع؛ لأنَّ صفحة الکون وصحیفة الوجود خالیتان عنه، وقد أخبر بوجوده، فلا بدّ لتشخیص الصدق والکذب من مقایسة الخبر لصفحة الوجود ونظام الکون، من مبدأ الوجود إلیٰ منتهاه، ذهناً وخارجاً، فکلّ إخبار یکون مطابقاً لصفحة الکون وصحیفة الوجود؛ بأن یکون الإخبار عن تحقّق شیء موجود فیها، أو عدم شیء معدوم فیها یکون صدقاً مطابقاً للواقع، وإلاّ فلا، حتّی أنَّ مثل قولنا: «الإنسان حیوان ناطق» الحاکی عن ذاتیّات الماهیّة یکون مناط صدقه مطابقته لنظام الوجود ذهناً أو خارجاً، فإنَّ الإنسان فی تقرّره الذهنیّ وتحقّقه الخارجیّ حیوان ناطق، وما لیس بموجود مُطلقاً لیس بشیءٍ حتّی یثبت له لازم أو جزء، ولا یمکن أن یخبر عنه مُطلقاً، وما اُخبر عنه یکون له نحو تحقّق ولو ذهناً.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أ نَّه لیس مناط الصدق فی القضایا السالبة مطابقتها للواقع؛
بمعنیٰ أن یکون فی الواقع شیء مطابق لها، بل المناط هو ما ذکرنا، وقد تکون القضیّة الموجبة فی حکم القضیّة السالبة لخصوصیّة فی محمولها، کقولنا: «زید معدوم» و«شریک البارئ مُمتنع» أو «باطل» فإنَّها ترجع إلی السوالب، ویکون حکمُها حکمَها، فقولنا: «شریک البارئ مُمتنع» فی قوّة «شریک البارئ لیس بموجود بالضرورة».
إذا عرفت ما ذکرنا: یتّضح لک عدم جریان استصحاب عدم قابلیّة الحیوان فیما إذا شکّ فی قابلیّته للتذکیة، واستصحاب عدم القرشیّة فیما إذا شکّ فیها؛ فإنَّ الموضوع لعدم ورود التذکیة علی الحیوان هو الحیوان الغیر القابل [لها] بنحو الإیجاب العدولیّ، أو الحیوان المسلوب عنه القابلیّة بنحو السالبة المحصّلة مع فرض وجود الموضوع، وکون السلب بسلب المحمول أو الموجبة السالبة المحمول.
وأمّا السلب التحصیلیّ الأعمّ من السلب بسلب الموضوع، فلیس موضوعاً للحکم؛ فإنَّ عدم کون الحیوان قابلاً [لها] صادق فی حال معدومیّته، لکنّه لیس موضوعاً لحکم بالضرورة، فموضوع الحکم لا یخلو من أحد الاعتبارات الثلاثة المُتقدّمة.
وکذا الحال فی المرأة التی شکّ فی قرشیّتها؛ فإنَّ من لیست بقرشیّة ـ بنحو السلب التحصیلیّ الأعمّ من سلب الموضوع ـ لیست موضوعة للحکم بالحیضیّة.
فحینئذٍ نقول: إنَّ الحیوان قبل تحقّقه لا یمکن أن یتّصف بشیء، سواء کان معنی عدمیّاً أو وجودیّاً؛ لما عرفت من أنَّ القضیّة السالبة لا تکشف عن حیثیّة واقعیّة، وهی سلب محض لا اتصاف بالسلب، ولا یمکن أن یکون السلب نعتاً للمعدوم؛ لأنَّ المعدوم لا شیئیّة له حتّیٰ یتّصف بشیء، فأصالة عدم القرشیّة والقابلیّة ـ کأصالة عدم کون المرأة الموجودة قرشیّة، والحیوان الموجود قابلاً للتذکیة ـ ممّا لا أصل لها؛ لأنَّ الشیء قبل وجوده لا یتّصف بشیءٍ وجودیّ أو عدمیّ، ولا یسلب منه بنحو السالبة المُحقّقة
الموضوع شیء، بل هذا الحیوان وهذه المراة قبل وجودهما لیسا بشیء ولیس ذاتهما ذاتَهما إلاّ فی عالم التخیّل ووعاء الوهم، فالقضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها لیست بواحدة، ومع فرض وحدتهما لا یکون الموضوع عدم الحیوان قابلاً بالسلب التحصیلیّ الأعمّ من سلب الموضوع کما عرفت.
وأصالة عدم الحیوان قابلاً بالسلب التحصیلیّ الأعم لا تثبت کون هذا الحیوان غیر قابل، ولا هو الذی لا یکون قابلاً بنحو الاتصاف بالسلب، وهذا واضح، بل ولا هذا الحیوان لیس بقابل بنحو السلب التحصیلیّ مع فرض وجود الموضوع؛ لإنَّ السلب التحصیلیّ أعمّ، والموضوع للحکم أخصّ منه، والأعمّ فی حال الوجود وإن کان منحصراً مصداقه بالأخصّ، لکنّ إثبات الأخصّ من استصحاب الأعمّ مُثبت.
لا یقال: یمکن أن یکون الموضوع مُرکّباً من وجود الحیوان وعدم قابلیّته بنحو العدم المحمولیّ لا الرابط، فیکون من الموضوعات المُرکّبة المحرزة بالوجدان والأصل، فیقال: هذا الحیوان موجود بالوجدان، وعدم قابلیّته ـ بنحو العدم المحمولیّ ـ محرزة بالاستصحاب.
فإنَّه یقال: ـ مضافاً إلیٰ أ نَّه مُجرَّد فرض لا واقعیّة له ـ إنَّ العدم بهذا المعنیٰ لا یعقل أن یکون جزءاً للموضوع؛ فإنَّه بطلان صرف ولاشیئیّة محضة، ولایمکن تعقّله إلاّ بالحمل الأوّلی، وما کان حاله کذلک لایمکن أن یجعل موضوعاً أو یؤخذ فیه، فموضوع رؤیة الدم إلیٰ خمسین سنة لایمکن أن یکون المراة الموجودة مع عدم محض یعبّر عنه بعدم القرشیّة عدماً محمولیاً، فلا بدّ وأن یکون السالبة المحصّلة المحقّقة الموضوع، لا نفس السلب بما أ نَّه سلب، ولا الأعمّ من سلب الموضوع؛ لأ نَّه یؤدّی إلی اعتبار المُتناقضین فی موضوع الحکم، فإنَّ اعتبار وجود المرأة وعدم قرشیّتها ـ الأعمّ من سلب الموضوع ـ
اعتبار النقیضین.
ثمّ إنَّ ما ذکرنا من عدم جریان أصالة عدم القابلیّة إنّما یصحّ فیما إذا قلنا: بأنَّ القابلیّة کالقرشیّة من الحیثیّات الواقعیّة التکوینیّة، وأمّا إذا قلنا بأ نّها من الأحکام الوضعیّة الجعلیّة، فیمکن إجراء أصالة عدم جعل القابلیّة للحیوان، فإذا شکّ فی قابلیّة الذئب للتذکیة تجری أصالة عدم جعل الشارع القابلیّة لهذا العنوان بنحو القضیّة الحقیقیّة، فیحرز عدم قابلیّته.
ثمَّ إنَّ أصل عدم القابلیّة علیٰ فرض جریانه یُغنی عن أصل عدم التذکیة، ویکون حاکماً علیه وإن قلنا بأنَّ التذکیة أمر بسیط محصَّل من الاُمور الستّة؛ لأ نَّه علیٰ هذا الفرض تکون محصّلیة الاُمور الستّة ومسبّبیتها لها شرعیّة، فیکون الترتّب شرعیّاً، ولا إشکال فی أنَّ الآثار الشرعیّة تترتّب علی المحصَّلات بالتعبّد بوجود محصِّلاتها، ویحکم بعدم الترتّب مع التعبّد بعدم المُحصّلات من غیر شائبة المُثبتیّة فتأمّل.
هذا کلّه حال أصالة عدم القابلیّة، ومع عدم جریانها لا بدّ من التمسّک فی حرمة لحم الحیوان ونجاسته بأصالة عدم التذکیة.
حال أصالة عدم التذکیة
فنقول: ما ذکرنا من الاعتبارات فی عدم القابلیّة تأتی فی عدم التذکیة مع شیء زائد، فإنَّ عنوان المذکّیٰ ـ المأخوذ فی موضوع الحلّیة والطهارة، أو الطهارة فقط ـ إنّما هو أمر وجودیّ، هو إزهاق الروح بکیفیّة خاصّة؛ أی فری الأوداج الأربعة، متوجّهاً إلیٰ القبلة، ذاکراً علیه اسم الله ، مع کون الذابح مُسلماً، وآلة الذبح حدیداً.
ومقابل هذا العنوان الذی هو موضوع الحرمة والنجاسة یمکن أن یکون عنواناً وجودیاً؛ هو زهوق الروح بکیفیّة أخریٰ غیر الکیفیّة المأخوذة فی التذکیة، أیّة کیفیّة کانت.
ویمکن أن یکون عنواناً إیجابیّاً بنحو الإیجاب العدولیّ، أو الموجبة السالبة المحمول، أو سلبیاً بنحو السالبة المُحصّلة الأعمّ من سلب الموضوع، أو السالبة بسلب المحمول.
ویمکن أن یکون مُرکّباً من زهوق الروح، وعدم تحقّق الکیفیّة الخاصّة بنحو العدم المحمولیّ.
هذا بحسب التصوّر، لکن بعض الفروض باطلة، ککون الموضوع عدم التذکیة، أو عدم الزهوق بنحو السالبة المُحصّلة ولو بسلب الموضوع؛ ضرورة أنَّ هذا الأمر السلبیّ لا یمکن أن یکون موضوعاً للحکم ولو فی حال وجود الحیوان، فالموضوع للحرمة والنجاسة هو الحیوان المُتحقّق الذی زهقت روحه بلا کیفیّة خاصّة، لا سلب زهوق الروح بکیفیّة خاصّة ولو بسلب تحقّق الحیوان، أو السلب الصادق علی الحیوان فی حال حیاته، فالمُذکّی ومقابله هو الحیوان الذی زهقت روحه إمّا بکیفیّة خاصّة، فیکون موضوعاً للحکم بالطهارة والحلّیة، أو بغیرها فیحکم بالنجاسة وعدم الحلّیة، فعدم تذکیة الحیوان أو عدم کون الحیوان مذکّیٰ ـ أی هذا العنوان السلبیّ بما أ نَّه عنوان سلبیّ ـ لیس موضوعاً لحکم، لا الحرمة والنجاسة، ولا عدم الحلّیة وعدم الطهارة.
نعم: لیست له الحلّیة والطهارة بنحو اللّیس الأزلیّ والقضیّة السالبة الموضوع، ومعلوم أنَّ هذا لیس بحکم، بل عدم حکم وتشریع، وقد عرفت حال العدم المحمولیّ بنحو جزء الموضوع فی احتمالات أصالة عدم القابلیّة، فلا محیص إلاّ أن یکون الموضوع للحرمة والنجاسة هو الحیوان الذی زهقت روحه.
فحینئذٍ: إمّا أن یعتبر عدم الکیفیّة الخاصّة بنحو الإیجاب العدولیّ؛ أی زهوق بغیر الکیفیّة الخاصّة، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول؛ أی زهوق مُتّصف بأ نَّه لم یکن بالکیفیّة الخاصّة، أو السالبة المُحصّلة بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع، وهذه الاحتمالات مع کونها معقولة مُعتبرة عند العقلاء ـ علیٰ إشکال فی الأخیر تعرّضنا له فی العامّ والخاصّ ـ یمکن تنزیل الآیات والأخبار علیٰ واحدٍ منها.
فحینئذٍ نقول: إنَّ أصالة عدم التذکیة غیر جاریة مُطلقاً.
أمّا إذا کان الموضوع زُهوق الروح بکیفیّة وجودیّة اُخریٰ، أو بنحو الإیجاب العدولیّ، أو الموجبة السالبة المحمول فواضح؛ ضرورة أنَّ أصالة عدم زهوق الروح بالکیفیّة الخاصّة لا تثبت العنوان الثبوتیّ، ولا الاتصاف بأمر سلبیّ، أو بسلب المحمول عنه؛ فإنَّ کلّ ذلک عناوین یکون إثباتها للموضوع من اللّوازم العقلیّة لأصالة عدم التذکیة.
وأمّا إذا کان عدم التذکیة زُهوق الروح مسلوباً عنه الکیفیّة الخاصة بنحو السالبة المحصّلة بسلب المحمول؛ فلأنَّ نفس هذا العنوان ـ أی الزهوق مع سلب الکیفیّة الخاصّة بسلب المحمول، مع فرض وجود الموضوع ـ لم یکن له حالة سابقة، وعدم الزهوق بکیفیّة خاصّة بنحو السلب التحصیلیّ الأعمّ من سلب الموضوع، أو عنوان السلب المحمولیّ لیس موضوعاً للحکم، بل الموضوع هو الزُهوق المفروض الوجود بلا کیفیّة خاصّة، واستصحاب عدم الزهوق بالکیفیّة الخاصّة لا یثبت أنَّ الزُهوق المُتحقّق لیس بالکیفیّة الخاصّة.
وبالجملة: أنَّ الحیوان فی حال حیاته لیس مذکّی، وکذا ما یقابله؛ أی الموضوع الذی تعلّقت به النجاسة والحُرمة، وإن صدق علیه أ نَّه لیس بمذکّیٰ ولو بسلب
الموضوع الذی هو زُهوق الروح، ولکنّ هذا الأمر السلبیّ لیس موضوعاً للحکم، لا فی حال حیاته، ولا بعد زهوق روحه، بل الموضوع هو زُهوق روحه بلا کیفیّة خاصّة بنحو سلب المحمول، وعدم زهوق الروح بالکیفیّة الخاصّة وإن کان صادقاً علیه حال الحیاة وبعد الموت، لکن لا یثبت به زُهوق الروح بلا کیفیّة خاصّة بنحو السلب عن الموضوع المفروض الوجود إلاّ بالأصل المُثبت.
وممّا ذکرنا: یتّضح النظر فی کلمات کثیر من الأعاظم، منهم الشیخ الأعظم قدّس سُّره؛ حیث یظهر منه التفصیل بین ما إذا رتّبت الأحکام علیٰ مجرّد عدم التذکیة بنحو السالبة المُحصَّلة، وبین کونها بنحو الموجبة السالبة المحمول.
ومنهم: المُحقّق الخراسانیّ رحمه الله ؛ حیث یظهر منه فی «تعلیقته» الفرق بین کون المذکّیٰ ومقابله من قبیل الضدّین، أو من قبیل العدم والملکة، فذهب إلیٰ أنَّ أصالة عدم التذکیة جاریة حینئذٍ، وموجبة للحکم بأنَّ الحیوان غیر مذکّیٰ، فیکون من قبیل الموضوعات المُرکّبة أو المُقیّدة المشکوک فی جزئها أو قیدها، فیحرز بالأصل.
کلام المولی الهمدانیّ وجوابه
ومنهم: المولی الهمدانیّ فی «مصباحه» و «تعلیقته» حیث فصّل بین الآثار التی رتّبت علیٰ عدم کون اللحم مذکّیٰ، کعدم الحلّیة، وعدم جواز الصلاة فیه، وعدم طهارته من الأحکام العدمیّة المُنتزعة من الوجودیّات، التی تکون التذکیة شرطاً فی ثبوتها فیقال: الأصل عدم تعلّق التذکیة بهذا اللّحم الذی زهقت روحه، فلا یحلّ أکله، ولا الصلاة فیه، ولا استعماله فیما یشترط بالطهارة، وبین الآثار المُترتّبة علیٰ کونه غیر
مُذکیٰ؛ کالأحکام الوجودیّة المُلازمة لهذه العدمیّات؛ کحرمة أکله ونجاسته وتنجیس ملاقیه وغیرها من الأحکام المُعلّقة علیٰ عنوان المیتة أو غیر المُذکّیٰ.
وقال فی خلال کلامه فی تقریب مدّعاه: إنَّ ما یظهر من الشیخ أیضاً هو أنَّ الحلّیة وسائر الأحکام الوجودیّة ـ ممّا تکون مُترتّبة علیٰ سبب حادث ـ تصیر مُنتفیة بانتفاء سببها، فالموت المقرون بالشرائط أمر مُرکّب سبب للأحکام، وهو أمر حادث مسبوق بالعدم، فأصالة عدمه ممّا یترتّب علیها عدم الحلّیة والطهارة، فعدم حلّیة اللحم من الذی زهقت روحه من آثار عدم حدوث ما یؤثر فی حلّیته بعد الموت، لا من آثار کون الموت فاقداً للشرائط، حتّیٰ لا یمکن إحرازه بالأصل، انتهیٰ بتوضیح وتلخیص منّا.
وفیه مُغالطة خفیّة؛ لأنَّ سلب الموت المقرون بالشرائط، الأعمّ من سلب الحیوان وسلب الموت وسلب الاقتران بالشرائط، لازمه سلب حلّیة اللّحم وطهارته، الأعمّ من سلب اللحم ـ کما فی حال عدم الحیوان، بل فی حال حیاته؛ لأنَّ اللّحم غیر الحیوان ـ ومن سلب الحلّیة والطهارة عنه، وهذا سلب بنحو السلب المحمولیّ، ولازمه العقلیّ سلب الرابط فی حال تحقّق اللّحم؛ أی بعد زهوق روح الحیوان، فأصالة عدم سبب حلّیة اللّحم لا تثبت أنَّ اللّحم لیس بحلال إلاّ بالأصل المُثبت؛ لأنَّ لازم أصالة عدم سبب الحلّیة؛ أی عدم الموت المقرون بالشرائط انتفاء حلّیة لحم الحیوان، الأعمّ من انتفاء الحیوان واللّحم، وإذا استمرّ هذا العدم الأزلیّ إلی زمان وجود اللّحم یکون لازمه صدق السالبة المُحصّلة بسلب المحمول، وهو لازم عقلیّ.
هذا مضافاً إلیٰ إمکان منع کون الطهارة والحلّیة وجواز الصلاة فی شیء من الأحکام المجعولة المُسبّبة عن زهوق الروح بالکیفیّة الخاصّة، بل المجعول المُحتاج إلیٰ السبب هو النجاسة والحرمة ومانعیّة المیتة من الصلاة فی أجزائها، علی إشکال فی حلّیة
الأکل.
ألا تریٰ أنَّ الحیوان القابل للتذکیة حین حیاته یکون طاهراً بلا إشکال، وتجوز الصلاة معه لو فرض حمله بل لبسه، ولا دلیل علیٰ عدم حلّیة أکله من جهة کونه غیر مُذکّیٰ، بل الحرمة لو کانت فهی من جهة کونه ممّا لا یؤکل ومن الخبائث، مع أنَّ الموت المقرون بالشرائط مسلوب منه.
ومن هنا قد یقویٰ فی النظر أنَّ التذکیة لیست سبباً للطهارة وحلّیة الأکل وجواز الصلاة فیه، بل إنّما هی دافعة لما هو سبب للنجاسة والحرمة وعدم جواز الصلاة فیه، کما تشهد له الأدلّة المُتفرّقة فی أبواب النجاسات وموانع الصلاة.
وبالجملة: لیست التذکیة سبباً للطهارة والحلّیة وجواز الصلاة، بل عدم التذکیة المساوق لکون الحیوان میتة ـ أی زهوق الروح بخصوصیّة مغایرة للخصوصیّات المعهودة ـ سبب لمقابلاتها، فأصالة عدم سبب الطهارة والحلّیة وجواز الصلاة ممّا لا أصل لها.
بل لنا أن نقول: إنَّه علیٰ فرض کون تلک الأحکام مجعولة مُسبّبة عن سبب، یمکن إجراء أصالة بقاء جامع السبب المُؤثّر فی الطهارة وحلّیة الأکل وجواز الصلاة فیه تأمل.
ومنهم: بعض أعاظم العصر رحمه الله، وقد مرّ فی مباحث البراءة کلامه وما یرد علیه.
هذا حال الشبهات الحکمیّة من جهة الشکّ فی القابلیّة، ولا یهمّنا التعرّض لسائر الشبهات الحکمیّة؛ لوضوح حکمها غالباً.
حکم الشبهات الموضوعیّة
وأمّا الشبهات الموضوعیّة فلها صورة کثیرة، یرد علیٰ جمیعها الشبهة السیّالة التی مرّ ذکرها، واختصّ بعضها بشبهة زائدة.
فمنها: الشکّ فی تذکیة حیوان من جهة الشکّ فی حصول ما هو المُعتبر فی التذکیة، کفری الأوداج وغیره، وهذه هی الصورة التی جرت فیها أصالة عدم التذکیة، ولا شبهة فیها إلاّ الشبهة المُتقدّمة السیّالة.
ومنها: أن یکون الشکّ فی جزء من الحیوان بأ نَّه من معلوم التذکیة، أو معلوم عدمها، فجریان أصالة الحلّ والطهارة فی الجزء ممّا لا مانع منه ـ بناءً علی کون التذکیة وعدمها من صفات الحیوان، لا من صفات الأجزاء ـ وتکون طهارة الأجزاء وحلّیتها من آثار تذکیة الحیوان لا الجزء؛ لأنَّ السبب إنّما یرد علی الحیوان، وکذا السبب المقابل، فتذکیة الحیوان موجبة لطهارة الأجزاء وحلّیتها بناءً علیٰ سببیّتها لهما، والموت بغیر تذکیة سبب لحُرمتها ونجاستها، وإن کانت التذکیة واردة علی الحیوان وکذا عدمها.
فحینئذٍ: یکون الأصل بالنسبة إلی الحیوانین ممّا لا مجریٰ له؛ لمعلومیّة حالهما، وجریان أصالة عدم التذکیة بالنسبة إلی الجزء لا معنیٰ لها لما ذکرنا، ولا أصل یحرز کون الجزء من أیّ الحیوانین، وأصالة عدم تذکیة ما اُخذ منه الجزء لا معنیٰ لها؛ لأنَّ هذا العنوان الانتزاعیّ لیس موضوعاً لحکم، والحیوان الخارجیّ غیر مشکوک فیه، فلا إشکال فی جریان أصالتی الحلّ والطهارة.
هذا من غیر فرق بین کون الحیوانین أو أحدهما فی محلّ الابتلاء، أو لا کما فی الأجزاء التی علم أ نّها إمَّا مأخوذة من الحیوان المعلوم التذکیة فی بلاد الإسلام، أو من الحیوان المحکوم بعدمها فی بلاد الکفر، فبناءً علیه لا تجری أصالة عدم التذکیة فی الجلود المصنوعة التی نقلت إلینا من بلاد الکفر، وتکون مشتبهة بین الجلود التی نقلت من بلاد المُسلمین إلیهم وصنعوا بها ما صنعوا وردّت بضاعتهم إلیهم، وبین غیرها من جلود ذبائح الکفّار، لأنَّ الأمر دائر بین أخذها من معلوم التذکیة، ومعلوم عدمها، فلا مجریٰ للأصل بالنسبة إلی الحیوانین؛ لکونهما معلومین، وإنّما الشکّ فی أخذها من أیّهما، ولا محرز لأخذها من غیر المُذکّیٰ، وقد عرفت عدم إجراء الأصل بالنسبة إلی الأجزاء بناءً علیٰ کون التذکیة واللاّتذکیة من صفات الحیوان کما لا یبعد.
نعم: لو بنینا علیٰ جریان الأصل بالنسبة إلیٰ کلّ جزء فلا إشکال فیه من هذه الجهة.
ومنها: ما لو علم أخذ الجزء من أحد الحیوانین الذین علم إجمالاً بتذکیة أحدهما وعدم تذکیة الآخر، وکان الحیوانان فی محلّ الابتلاء، فحینئذٍ: إن قلنا بجریان الأصل فی کلا الطرفین ـ حیث لم یلزم منه المخالفة العملیّة ـ فأصالة عدم التذکیة فیهما تحرز حرمة الجزء، ونجاسته وعدم حلّیة الصلاة فیه. وإن منعنا جریانهما مطلقاً، أو قلنا بتعارضهما، فهل یکون حال الجزء کحال ملاقی بعض أطراف العلم الإجمالیّ، فیجری فیه أصلا الحلّ والطهارة أو لا فیکون الجزء والمأخوذ منه طرفاً للعلم، وأصلهما یکون معارضاً للأصل الآخر، فیکون حاله نظیر إناءین مشتبهین قسّم أحدهما قسمین؟
الظاهر هو الثانی؛ لأنَّ التذکیة وإن کانت واردة علی الحیوان، لکن أثرها حلّیة الحیوان وطهارته بجمیع أجزائه فی عرْض واحد، وکذا الحال فی عدم التذکیة، فلا یکون الشکّ فی حلّیة الجزء وطهارته مُسبّباً عن الشکّ فی حلّیة الکلّ وطهارته، بل یکون
شکّهما مُسبّباً عن التذکیة وعدمها، فیکون العلم الإجمالیّ بحرمة الجزء وکلّه أو الطرف الآخر منجّزاً.
ولو کان الحیوانان خارجین عن محلّ الابتلاء، وقلنا بتأثیر الخروج عن محلّ الابتلاء فی عدم منجّزیة العلم، وأغمضنا عن الإشکال الذی مرّ فی باب الاشتغال، فأصالة عدم التذکیة فی الحیوان المأخوذ منه الجُزء لا معارض لها؛ لأنَّ الطرف لخروجه عن محلّ الابتلاء لا یجری فیه الأصل، وأمّا الحیوان المأخوذ منه الجزء فیجری فیه الأصل بلحاظ الجزء الذی هو محلّ الابتلاء، کما مرّ فی باب الملاقی.
ولو کان أحدهما محلّ الابتلاء دون الآخر: فإن کان الحیوان المأخوذ منه محلّ الابتلاء، فأصالة عدم التذکیة فیه تحرز حرمة الجزء ونجاسته، ولا معارض لها.
وإن کان الآخر فالأصلان متعارضان؛ لجریانه فی الخارج عن محلّ الابتلاء بلحاظ جزئه الذی هو محلّ الابتلاء. ولکنّ العلم الإجمالی بحرمة هذا الجزء ونجاسته، أو حرمة الحیوان ونجاسته منجّز.
وممّا ذکرنا: یتّضح حال الفروض الاُخری المتصوّرة. هذا مُقتضی الاُصول من حیث الجریان وعدمه، فیؤخذ بها إلاّ أن یدلّ دلیل علیٰ خلافها.