التنبیه الخامس استصحاب أحکام سائر الشرائع
هل یجری استصحاب الأحکام الثابتة فی الشرائع السابقة کما یجری فی أحکام شریعتنا إذا شککنا فی نسخها أم لا؟ وهذه المسألة وإن لم تکن لها ثمرة ظاهرة لکن نتعرّض لها اقتفاءً لأثر القوم.
فنقول: اختار الشیخ الأعظم ومن بعده الجریان قائلین إنَّ المُقتضی موجود، وهو
إطلاق أدلّة الاستصحاب، ولیس ما یصلح للمانعیّة إلاّ اُمور یمکن دفعها:
منها: أنَّ الحکم الثابت فی حقّ جماعة لا یمکن إثباته فی حقّ الآخرین لتغایر الموضوع.
وأجابوا عنه أوّلاً: بالنقض باستصحاب عدم النسخ فی أحکام شریعتنا.
وثانیاً: بالحلّ؛ فإنَّ الأحکام ثابتة للعناوین الکلّیة علیٰ نحو القضایا الحقیقیّة لا للأشخاص علیٰ نحو الخارجیّة، فإذا ثبت حکم للمُستطیع أو الغنیّ أو الفقیر فلا مانع من استصحاب بقائه عند الشکّ فی نسخه؛ فإنَّ موضوع القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها هو هذه العناوین بنحو القضیّة الحقیقیّة، فتتّحد القضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها.
وزاد الشیخ رحمه الله أمراً آخر ردّ علیه من بعده، والعمدة هو الجواب الحلّی الذی ارتضاه المُحقّقون، وهو أن یدفع الإشکال المُتقدّم.
لکن هاهنا شبهة اُخریٰ لا یدفعها هذا الجواب، وهی أ نَّه من الممکن أن یکون المأخوذ فی موضوع الحکم الثابت فی الشرائع السابقة عنوان علی نحو القضیّة الحقیقیّة، لا ینطبق ذلک العنوان علی الموجودین فی عصرنا، کما لو اُخذ عنوان الیهود والنصاریٰ؛ فإنَّ القضیّة وإن کانت حقیقیّة لکن لا ینطبق عنوان موضوعها علیٰ غیر مصادیقه.
ففی قوله تعالی: «علی الذین هادوا حرّمنا کلَّ ذیظفرٍ ومن البقرِ والغنمِ حرّمنا علیهمْ شحومَهما» إلیٰ آخره کانت القضیّة حقیقیّة، لکن إذا شکّ المُسلمون فی بقاء
حکمها لهم لا یجری الاستصحاب، کما لو ثبت حکم للفقراء وشکّ الأغنیاء فی ثبوته لهم لا یمکن إثباته لهم بالاستصحاب، وهذا واضح جدّاً.
إن قلت: فکیف یستصحب الحکم الثابت للعصیر العنبیّ إذا شکّ فی ثبوته للعصیر الزبیبیّ، وهل هذا إلاّ إسراء حکم من موضوع إلی موضوع آخر؟!
قلت: فرق واضح بین ما ذکرنا وبین مورد النقض؛ لأنَّ کلّ زبیب مسبوق بالعنبیّة بحسب وجوده الخارجیّ، فإذا وجد العنب فی الخارج، وثبت الحکم له، وصار یابساً یجری استصحاب حکمه؛ لأنَّ العنب الخارجیّ إذا یبس لا یری العرف إلاّ بقاءه مع تغییر حال، فالقضیّة المُتیقّنة والمشکوک فیها واحدة فیُستصحب الحکم، وأمّا المُسلمون فلم یکن کلّ واحدٍ منهم مسبوقاً بالتهوّد أو التنصّر خارجاً ثمّ صار مُسلماً، ولو کانوا کذلک لجریٰ فی حقّهم الاستصحاب، کاستصحاب حکم العنب للزبیب.
وممّا ذکرنا: ظهر الفرق بین استصحاب عدم النسخ فی أحکام هذه الشریعة وأحکام الشرائع السابقة.
ولایخفیٰ: أنَّ مُجرّد احتمال أخذ عنوان غیر منطبق علی المُسلمین کافٍ فی المنع؛ للزوم إحراز وحدة القضیّتین، ولا دافع للاحتمال فی حکم من الأحکام المشکوک فی نسخها؛ لأنَّ ظواهر الکتب المنسوخة الرائجة بینهم لیست قابلة للتمسّک بها، مع ورود الدس والتغییر علیها، وأصلها الغیر المُتغیّر لیس عندهم ولا عندنا حتّیٰ یعلم أنَّ الحکم ثابت للعنوان الکذائی، والقرآن المجید لم یحک العناوین المأخوذة فی موضوعات أحکامهم الکلّیة، کما یظهر بالتأمّل فیما جعلوه ثمرة للنزاع تبعاً للمحکیّ عن «تمهید القواعد».
فتحصّل ممّا ذکرنا: عدم جریان استصحاب أحکام الشرائع السابقة.
هذا مضافاً: إلیٰ أنَّ الشکّ فیها من قبیل الشکّ فی المُقتضی؛ لعدم الدلیل علی إحرازه، ونحن وإن ذهبنا إلیٰ جریانه فیه، ولکن یرد هذا الإشکال علی الشیخ رحمه الله ، ومن تبعه فی عدم الجریان مع الشکّ فی المُقتضی.