الأمر الثانی بعض موارد الخلط بین التکوین والتشریع
إنَّه کثیراً ما یقع الخلط بین الاُمور التکوینیّة والتشریعیّة، فیُسری الغافل الحکم من التکوین إلی التشریع، فمن ذلک: أ نَّه لمّا قرع بعض الأسماع أنَّ الاُمور الانتزاعیّة یکون جعلها ورفعها بمناشئ انتزاعها، فلا یمکن جعل الفوقیّة والتحتیّة للجسمین إلاّ بجعلهما بوضع خاصّ، یکون أحدهما أقرب إلی المرکز والآخر إلی المُحیط، فبعد ذلک تنتزع الفوقیّة والتحتیّة منهما قهراً، ولا یمکن جعلهما ورفعهما استقلالاً، فجعل هذا الحکم التکوینیّ مقیاساً للاُمور التشریعیّة، فقایس الاُمور التشریعیّة بالاُمور التکوینیّة، فذهب إلی امتناع جعل الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة للمأمور به ورفعها عنه استقلالاً، وزعم أنَّ جعلها بجعل منشأ انتزاعها کالاُمور التکوینیّة، مع أنَّ القیاس مع الفارق.
وتوضیح ذلک: أنَّ الاُمور الاعتباریّة تابعة لکیفیّة اعتبارها وجعلها، فقد یتعلّق الأمر القانونیّ بطبیعة أوّلاً علی نحو الإطلاق لاقتضاء فی ذلک، ثمّ تحدث مصلحة فی أن یجعل لها شرط، أو یُجعل لها قاطع ومانع بلا رفع الأمر القانونیّ الأوّل، فلو قال المولی: «أقیموا الصلاة» ثمَّ قال: «إذا قُمتم إلی الصلاة فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم إلیٰ المرافق» أو قال: «یشترط فی الصلاة الوضوء أو القبلة» أو قال: «لا تصلِّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» أو «لا تصلّ فی الثوب النجس» ینتزع منها الشرطیّة والمانعیّة، فهل تریٰ أ نَّه یلزم أن یرفع الأمر الأوّل وینسخه، ثمّ یأمر بالصلاة مع التقیّد بالشرط أو عدم المانع؟! وأیّ مانع من جعل الوجوب للطبیعة المُطلقة بحسب الجعل الأوّلی، ثمّ یجعلها
مشروطة بشیء بجعل مُستقلّ، أو یجعل شیئاً مانعاً لها بنحو الاستقلال لاقتضاء حادث، کما غیّر الله قبلة المُسلمین إلی المسجد الحرام؟! فهل کان قوله: «قد نریٰ تقلّب وجهک فی السماء» إلی قوله: «فولّ وجهک شطر المسجد الحرام» من قبیل نسخ حکم الصلاة رأساً وإبداء حکم آخر، أو کان الجعل مُتعلّقاً بالقبلة فقط؟! ومجرّد کون المُنتزعات التکوینیّة تابعة لمناشی ء انتزاعها لا یوجب أن تکون الشرائط والموانع التشریعیّة کذلک، وکذا الکلام فی إسقاط شرط أو مانع.
وبالجملة: تلک الاُمور الاعتباریّة والجعلیّة کما یمکن جعلها بتبع منشأ انتزاعها، یُمکن جعلها مُستقلاً بلا إشکال وریب، کما یُمکن إسقاطها کذلک.
نعم: إنَّ الإرادة الواقعیّة إذا تعلّقت بطبیعة لا یُمکن أن تنقلب عمّا هی علیه من زیادة جُزء أو شرط أو مانع، أو إسقاطها مع بقائها علیٰ ما هی علیه؛ لأنَّ تشخّصها بتشخّص المُراد، فلا یمکن بقاء الإرادة مع تغیّر المُراد، بخلاف الاُمور القانونیّة فإنَّها تابعة لکیفیّة تعلّق الجعل بها هذا حال الشروط والموانع.
وکذا حال إسقاط الجزئیة، فلو قال المولیٰ: «أسقطت جزئیّة الحمد للصلاة» تصیر ساقطة مع بقاء الأمر القانونیّ.
وأمّا حال جعل الجُزئیّة فتوضیحه: أنَّ الأوامر المُتعلّقة بالطبائع المُرکّبة إنّما تتعلّق بها فی حال لحاظ الوحدة، ولا یکون الأمر بها مُتعلّقاً بالأجزاء، بحیث ینحلّ الأمر إلی الأوامر، ولا الأمر الذی هو بسیط مبسوطاً علی الأجزاء، بل لا یکون فی البین إلاّ أمر واحد مُتعلّق بنفس الطبیعة فی حال الوحدة، وهذا لا ینافی کون الطبیعة هی نفس الأجزاء فی لحاظ التفصیل، فإذا أمر المولی بالصلاة لا یلاحظ إلاّ نفس طبیعتها، وتکون الأجزاء مغفولاً عنها.
فحینئذٍ نقول: إنَّ الأمر بالطبیعة یدعو إلیٰ نفس الطبیعة بالذات، وإلی الأجزاء بعین دعوته إلی الطبیعة، فإذا جعل المولیٰ جزءاً للطبیعة فقال: (لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب) أو «إقرأ فی الصلاة» أو «جعلت الفاتحة جزءاً لها» یدعو الأمر المُتعلّق بالطبیعة إلیها بنفس دعوته إلی الطبیعة، کما إذا أسقط جزءاً منها تکون دعوة الأمر إلی الطبیعة دعوة إلیٰ بقیّة الأجزاء.
وبالجملة: لا أریٰ وجهاً لامتناع تعلّق الجعل الاستقلالیّ ـ علی ما ذکر ـ إلاّ توهّم کون التشریع کالتکوین، وإلاّ فلو لم یرد من المولیٰ إلاّ الأمر بطبیعة، ثمّ صدر منه أمر آخر یدلّ علی اشتراطها بشیء، أو جعل شیء جزءاً منها، فهل یجوز للعبد ترک الشرط أو الجزء قائلاً: بأ نَّه لا بدّ من صدور أمر آخر مُتعلّق بالطبیعة المُتقیّدة أو المُرکبة من هذا الجزء، ولم یصدر منه علی القطع إلاّ الأمر بالطبیعة والدلیل الدالّ علی الاشتراط أو الجزئیة، وذلک لا یکفی فی الدعوة والبعث، وهل هذا إلاّ کلام شعریّ مُخالف للحُجّة القطعیّة؟!
توهّم عدم قبول السببیّة للجعل ودفعه
ومن موارد الخلط بین التکوین والتشریع ما یقال: إنَّ السببیّة ممّا لا تقبل الجعل لا تکویناً ولا تشریعاً، لا أصالة ولا تبعاً، بل الذی یقبله هو ذات السبب ووجوده العینیّ، وأمّا السببیّة فهی من لوازم ذاته کزوجیّة الأربعة؛ فإنَّ السببیّة عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التی تقتضی وجود المُسبّب، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات، لا یمکن أن تنالها ید الجعل التکوینیّ، فضلاً عن التشریعیّ، بل هی کسائر
لوازم الماهیّة تکوینها إنّما یکون بتکوین الماهیّة، فَعِلِّیة العلّة وسببیّة السبب کوجوب الواجب وإمکان المُمکن إنّما تکون من خارج المحمول، تُنتزع عن مقام الذات، لیس لها ما بحذاء، لا فی وعاء العین، ولا فی وعاء الاعتبار، فالعلّیة لا تقبل الإیجاد التکوینی فضلاً عن الإنشاء التشریعیّ، هذا ما ذکره بعض أعاظم العصر رحمه الله فی وجه عدم إمکان جعل السببیة.
وفیه: مُضافاً إلیٰ خلطه بین لوازم الماهیّة ولوازم الوجود، وخلطه بین المحمول بالضمیمة وخارج المحمول، وخلطه بین السببیّة؛ أی الخصوصیّة التی یصیر المبدأ بها مبدأً فعلیّاً للمُسبّب، وبین الرشح والإفاضة أی المُسبّب بما أنَّه مُسبّب أنَّه خلط بین الأسباب التکوینیّة والأسباب التشریعیّة، وقاس التشریع بالتکوین بلا وجه؛ فإنَّ نحو السببیّة التکوینیّة سواءً کانت بمعنیٰ مبدئیّة الإفاضة، أو نفس الرشح والإفاضة لا یکون فی التشریعیّات مُطلقاً، فلا یکون العقد مُترشّحاً منه الملکیّة أو الزوجیة، والتحریر مُترشّحاً منه الحرّیة، کما لا تکون فی العقود والإیقاعات خصوصیّات بها تصیر منشأ لحقائق المُسبّبات:
أمّا عدم المنشئیة لأمر حقیقیّ تکوینیّ فواضح.
وأمّا عدم صیرورتها منشأً حقیقیّاً للاعتبار؛ فلأنَّ الاعتبارات القائمة بنفس المنشئ أو العقلاء أو الشارع، لها مناشئ تکوینیّة، لا تکون العقود والإیقاعات أسباباً لتکوّنها فیها، فالسببیّة للاُمور التشریعیّة والاعتبارات العقلائیّة إنّما هی بمعنی آخر غیر السببیّة التکوینیّة، بل هی عبارة عن جعل شیء موضوعاً للاعتبار.
فالمُقنّن المشرّع إذا جعل قول الزوج: «هیطالق» ـ مع الشرائط المُقرّرة فی قانونه ـ سبباً لرفع عُلقة الزوجیّة یرجع جعله وتشریعه إلیٰ صیرورة هذا الکلام مع الشرائط
موضوعاً لاعتبار فسخ العقد ورفع عُلْقة الزوجیّة، ولأجل نفوذه فی الاُمّة یصیر نافذاً، فقبل جعل قول الزوج سبباً لحل العقد لا یکون قوله: «أنتِ طالق» سبباً له وموضوعاً لإنفاذ الشارع المُقنّن، وبعد جعل السببیّة له یصیر سبباً وموضوعاً لاعتباره القانونیّ المُتبع فی اُمّته وقومه، من غیر تحقّق رشح وإفاضة وخصوصیّة، فالسببیّة من المجعولات التشریعیّة
نعم: للشارع والمُقنّن أن یجعل المسبّبات عقیب الأسباب، وأن یجعل نفس سببیة الأسباب للمُسبّبات، والثانی أقرب إلی الاعتبار فی المجعولات القانونیّة فتدبّر.