الثالث : فی تعلّقه بالآثار
وإن تعلّق بالآثار، کما إذا تعلّق بأکل الثمن والاُجرة، سواء کان بنحو النهی بالصیغة، أو بقوله: «ثمن الکلب سحت» أو بقوله: «إنّ الله إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه» فالظاهر أنّه بما أنّه تعلّق بالأثر لایورث الفساد؛ لعدم إمکان اتصاف المنهیّ بالصحّة والفساد، وعدم إمکان اتصاف ثمن الکلب بعدم الإجزاء، بخلاف الصلاة فی وبر ما لا یؤکل، وبیع الربا، والإجارة بالأکثر، وغیر ذلک.
وقد مرّ : أنّ النهی إذا کان قابلاً لإفادة الحکم الوضعیّ لأجل تعلّقه بحصّة من المعاملة فهو یکفی لتلک الإفادة تصدیقاً، وأمّا مع عدم الإمکان المزبور فلا، فما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 371 اشتهر بین أبناء العصر من استتباعه للفساد فی هذه الصورة، غیر موافق للتحقیق.
ومن الممکن تحریم الشرع ثمنه، مع التزامه بالإمضاء؛ نظراً إلیٰ حصول الملکیّة، وانتقال حقّ الاختصاص إلی المشتری، وأمّا البائع فهو ممنوع عن مطلق التصرّفات، فیکون الثمن من المحرّمات الشرعیّة الممنوع عنها الناس.
ولأحدٍ دعوی انصراف تحریم الثمن إلیٰ تحریم التصرّفات الخاصّة، وهذا لاینافی اعتبار بقاء ملکیّته للمالک البائع وربّما یؤیّد ما ذکرناه أنّ جعل الثمن مورد التحریم إیماء إلیٰ إمضاء البیع؛ لأنّه إقرار بأنّه ثمن، والعوض لایصیر ثمناً إلاّ بالبیع وبعد تحقّقه اعتباراً، کما لایخفیٰ.
وأیضاً : ربّما یکون نظر الشرع أخذ البائع بالأشقّ؛ حتّیٰ لایرجع إلیه حقّ الاختصاص الثابت له بالنسبة إلی المحرّمات الشرعیّة والأعیان النجسة، وقد فصّلنا الکلام حول المرام فی المکاسب المحظورة إن شاء الله تعالیٰ.
بل لو کان الثمن باقیاً علیٰ ملک المشتری، یلزم أن تکون الأدلّة تأکیدَ الحرمة الثابتة؛ وهی حرمة التصرّف فی مال الغیر، مع أنّ الظاهر منها أنّها تأسیس للتحریم الجدید بما تزداد حرمته علیٰ حرمة التصرّف فی مال الغیر.
فبالجملة : هذه النواهی المتعلّقة بالاُمور الخارجة عن حقیقة المعاملة والمحسوبة من آثارها، إمّا تکون إرشاداً إلی البطلان من غیر استتباع للحرمة التکلیفیّة، ویکون الاشتداد فی التعبیر لأجل زجر الناس عن التجارات المخصوصة، فهو فی حدّ ذاته غیر ممنوع، وتصیر النتیجة بطلانها.
إلاّ أنّ ظهورها فی التحریم التکلیفیّ أقویٰ، وإذا کانت مستتبعة للحرمة التکلیفیّـة، فإمکان إرجاعها إلیٰ أنّها فی مقام إفادة الأمرین ـ وهی مبغوضیّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 372 المثمن، وبطلان البیع ـ أیضاً غیر مسدود؛ لأنّه یمکن أن یقال: بأنّ تحریم الأثر بداعی الانتقال إلی أنّه فی الحقیقة لیس بأثر عندی، ویرجع بعد ذلک إلی اعتباریّته فی سببیّة البیع لحصول الملکیّة، وأنّ بیع الکلب فاقد ذلک السبب، فیکون ماهو السبب هو البیع المتعلّق بغیر الکلب.
ولکنّه بعید عن الأذهان، فلابدّ وأن نلتزم بأنّ هذه الأدلّة لیست إلاّ فی موقف تحریم المثمن تکلیفاً.
نعم، تبقیٰ معضلة: وهی أنّ لازم کون المثمن محرّماً تکلیفاً هی حرمته علیٰ کلّ أحد حتّیٰ علی المشتری، ویکون بمثابة الخمر ولو انفسخ البیع.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّه بالانفساخ یخرج عن کونه المثمن. ولکنّه غیر تامّ؛ لعدم إمکان الانفساخ بعد خروجه عن الملکیّة، کما فی بیع الأبوین بعد الانعتاق.
وإن شئت قلت : کما أنّ دلیل نفی السبیل لو اقتضیٰ شیئاً، فلایزداد علیٰ أنّ ملکیّة المسلم للکافر ممنوعة إذا کانت دائمیّة، فلایلزم منه فساد المعاملة؛ لأنّ السبب أثّر فی عمله، والشرع قطع ماهو الخارج عن حدّ المعاملة، کذلک الأمر هنا، فإنّ البیع أثّر فی عمله، إلاّ أنّ الشرع تدخّل فیما ینبغی له التدخّل فیه؛ بمنع المشتری عن مطلق التصرّفات، ومقتضی الممنوعیّة المطلقة عدم اعتبار الملک له بعد ذلک، فلاوجه لبطلان البیع.
إن قلت : المقبوض بالعقد الفاسد لیس ممنوع التصرّف؛ لإمکان کشف الرضا من الرضا المعاملیّ، کما حرّرناه فی محلّه، خلافاً للإجماع المدّعیٰ علیٰ أنّه یجری مجری الغصب عند المحصّلین، فعلیٰ هذا یکون جائز التصرّف؛ لأجل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 373 حصول الرضا، وممنوعاً شرعاً، فیمکن أن لاتکون تلک الأدلّة مؤکّدة للحرمة الآتیة من قبل النهی عن التصرّف فی مال الغیر، فلایتمّ الاستشهاد المزبور.
قلت أوّلاً : ما کان الاستشهاد منحصراً بهذا؛ حتّیٰ یلزم صرف هذه الأدلّة عمّا هو مقتضیٰ ظاهرها.
وثانیاً : قد تقرّر منّا أنّ دلیل استکشاف الرضا الخاصّ من الطیب المعاملیّ، مخصوص ببعض الموارد ، ولایجری فی مثل اُجرة الزانیة والمغنّیة، مع أنّها منهیّة، وعدّت سحتاً أیضاً، فیعلم من الکلّ أنّ هذه النواهی غیر وافیة بما فهمه الجمهور؛ وهو البطلان.
نعم، النهی بالصیغة عن التصرّف فیما استملکه ببیع الکلب والخنزیر، یکون إرشاداً من غیر إفادة التحریم. ولو فرض أنّه نهی تحریمیّ فیأتی فیه بعض ما أوردناه فی تلک الأدلّة علی اختلاف ألسنتها.
وبالجملة : للتفصیل بین أنحاء إفادة الحرمة التکلیفیّة والمبغوضیّة الذاتیّة وجه، إلاّ أنّ فی وجاهته نظراً، فتدبّر.
أو یقال : إنّ من الممکن أن یفصّل بین النهی المتعلّق بالأمر بالأثر، وهو التصرّف؛ بمعنیٰ أنّ الناهی یرید نفی الأثر الحاصل من الملکیّة الحاصلة من الإنشاء، وبین النهی؛ بمعنیٰ أنّ الناهی یرید تحریم التصرّف فی الثمن، ویرید جعل الحرمة تأسیساً علیٰ ماهو ثمنه فی البیع، ویرید جعل منع التصرّف علی المثمن، فإن کان من قبیل الأوّل فهو یستتبع البطلان والفساد؛ لرجوعه إلیٰ تقیید السبب المجعول
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 374 بعدم المنهی، وأمّا إذا کان من قبیل الثانی فلا.
ولاشبهة فی أنّ الظاهر هو الثانی فی مثل «ثمن العذرة سحت» وفی مثل «إنّ الله إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه»، نعم فی النهی بالصیغة وجهان، فلاحظ واغتنم.
وغیر خفیّ : أنّ نفی الأثر الخاصّ وهو جواز التصرّف الآتی من قبل الملکیّة الآتیة من قبل الإنشاء وإن کان یلازم المبغوضیّة أحیاناً، إلاّ أنّ إفادة مبغوضیّة التصرّف فی المثمن تجتمع مع جواز التصرّف المعلول للملکیّة آناً ما.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 375