أوّلها : فی مفهومهما اللغویّ
فقد نسب إلی الشهرة أنّ «الصحّة» هی التمامیّة، و «الفساد» هو النقصان.
وأورد علیه: بأنّ المتفاهم العرفیّ من الإطلاقات خلافه؛ لصحّة أن یقال: «ید ناقصة، وبیت ناقص» وعدم صحّة توصیفهما بالفساد.
فالأولیٰ أن یقال: إنّ التمامیّة تستعمل بالنسبة إلی الاختلال فی الشیء من ناحیة کمّیته والمقدار، و «الفساد» یطلق علیه عند الاختلال فی الکیفیّة والمزاج، فیقال: «البطیخ فاسد»، ولا یقال: «ناقص».
وبعدما ابتلی بالمخترعات الشرعیّة؛ وأنّ الصلاة الناقصة برکعة توصف ب«الفساد» مع أنّه من الاختلال بحسب الکمّیة، احتمل الوضع الآخر. وبعدما رأیٰ أنّ الاحتمال المزبور بعید غایته التزم بالمجازیّة؛ وأنّ من کثرة الاستعمال بلغ إلیٰ حدّ الحقیقة مثلاً فی الاستعمالات الشرعیّة.
أقول : وفیه ما لایخفیٰ، أوّلاً: أنّ البیت إذا کان مختلفاً من ناحیة العوارض یقال: «هو ناقص» کما أنّ الید إذا کانت عوجاء توصف بالنقصان.
وثانیاً : أنّ الالتزام بالمجازیّة یورث الخروج عن محطّ النزاع حسبما تصوّروه فی میزان الاندراج فی محطّ البحث.
والذی هو الأقرب : أنّ مفهوم الصحّة فی جمیع الموارد واحد؛ سواء کان مقابلها مفهوم المعیب، أو کان مقابلها مفهوم البطلان، أو الفساد، وهکذا مفهوم الفاسد واحد؛ سواء کان مقابله السالم، أو کان مقابله الصحیح، وإنّما الاختلاف فی المصادیق؛ وأنّها ذات عَرْض عریض.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 314 وإجمال الکلام : أنّ کلّ شیء سواء کان من الاُمور الطبیعیّة، أو کان من الاُمور الاختراعیّة والاعتباریّة، ذو نشأتین: نشأة تقدیر وتدبیر، ونشأة التکوین والتشخّص والخارج.
فإذا لوحظ الشیء فی النشأة الاُولیٰ، فیقدّر له الأجزاء والشرائط والأفعال والآثار والخواصّ والحدود والکیفیّات، وتکون تلک الخصوصیّات داخلة فی طبیعته النوعیّة، لا بما أنّها أجزاء ذاتیّة، بل بما أنّها حدودها اللاّزمة فی الطبیعة الکاملة النوعیّة، فإنّ جمیع المقولات والضمائم ممّا تقدّر فی تلک النشأة وهی النشأة العلمیّة، کما یقدّر المهندس فی النشأة الذهنیّة جمیع خصوصیّات البیت وتبعاته من الاُمور الدخیلة فی کماله.
ثمّ بعد التقدیر المزبور حسب الطبیعة النوعیّة، یشرع فی أن تصیر هذه الطبیعة موجودة بالوجود الخارجیّ، وتصیر خارجیّة وفی الأعیان، فإذا کان ما فی الخارج من الأعیان، عین ما فی العلم والذهن من التقادیر، یکون الخارج کاملاً وجامعاً وتامّاً وصحیحاً وسالماً، وإلاّ فیتوجّه إلیه تارة وصف «النقصان» أو وصف «الفساد» أو «البطلان» أو «المعیب» وکلّ ذلک مفهوم غیر مفهوم الآخر، وهکذا فی مقابلاتها، إلاّ أنّ مناشئ هذه التوصیفات المختلفة ربّما تکون متفاوتة وغیر واحدة.
مثلاً : إذا قلنا : «إنّ عقل زید ناقص» فهو باعتبار الأثر المرغوب منه والمقدّر له فی الطبیعة النوعیّة وفی النشأة العلمیّة، وإذا قلنا: «إنّ البدن ناقص» فهو بلحاظ الکمّیة والکیفیّة، وإذا قلنا: «معیب» فهو بلحاظ النقصان أو الزیادة علی المقدّر النوعیّ فی تلک النشأة، وإذا قلنا: «فاسد» فهو بلحاظ الأخلاق والاعتقاد والمقدّر له علی الحساب المزبور، وإذا قلنا: «إنّه باطل عاطل» فهو بلحاظ الأثر المرغوب منه من العمل المفید والفعّالیّة الاجتماعیّة.
وأمّا إذا کان کامل العیار، وإنساناً کاملاً من جمیع الجهات المقدّرة له فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 315 جمیع مراحل وجوده حسب طبیعته النوعیّة، فیسلب عنه جمیع هذه العناوین، ویوصف بمقابلاتها من الصحّة ؛ فیقال: «هو صحیح المزاج والخلقة، وسالم العقل، وصحیح العمل والقول والأخلاق» وغیر ذلک.
ومن هنا یظهر : أنّ المخترعات الشرعیّة والاعتباریّات العقلائیّة، کالمرکّبات الحقیقیّة فی هذه الجهة، فإذا کانت الصلاة کاملة الأجزاء والشرائط والآثار والخواصّ، فتوصف بتلک الأوصاف، وإذا اختلّت من ناحیة من النواحی المقدّرة لها فی نشأة الذهن والعلم، توصف بوصف من الأوصاف المزبورة، فإن کانت بلا رکوع وسجود، وبلا کیفیّة وهیئة معتبرة فیها، وبلا أثر وخاصّیة مرغوبة منها ـ ککونها «معراج المؤمن» وهکذا ـ توصف بالأوصاف الاُخر المذکورة.
إلاّ أنّ اتصافها بتلک الأوصاف تختلف مناشئه، فإذا قیل: «هی صلاة ناقصة» فهو لأجل الإخلال بها من ناحیة الآثار المرغوبة منها، وإذا قیل: «إنّها فاسدة» فهو لأجل الإخلال بکیفیّتها أو کمّیتها المتقدّرة لها بحسب الطبیعة، وإذا قیل: «إنّها باطلة وعاطلة» فلایبعد کونها بلحاظ مطلق الأثر المرغوب منها.
وأمّا تفسیر الصحّة والفساد، وجعل منشأ الاتصاف بهما عدم وجوب القضاء والإعادة ووجوبهما، کما نسب إلی الفقیه، وهکذا تفسیرهما بحصول الامتثال وعدمه، کما عن المتکلّم، فهو غیر صحیح؛ لأنّهما من الاُمور المنتزعة عن تطابق المأتیّ به والمأمور به، وعدم التطابق، من غیر دخالة سقوط الأمر وعدمه فی ذلک؛ وإن کان یسقط فی صورة الصحّة، ولایسقط فی صورة الفساد، إلاّ أنّهما کالحجر جنب الإنسان، أو هما لیسا من الانتزاعیّین من التطابق وعدمه، بل الهیئة المتقدّرة المفروضة المذکور تفصیلها إذا وجدت بجمیع ما قدّر لها فی النشأة العلمیّة توصف
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 316 بالصحّة، وإذا لم تکن کذلک توصف بالفساد، من غیر لحاظ التطابق حتّیٰ یقال: بأنّه فی المعاملات لایکون أمر حتّیٰ یطابق، أو یقال: بأنّ الصلاة المأمور بها هی طبیعیّ الصلاة، والطبیعة توجد بتبعها فی الخارج.
فبالجملة : لاداعی إلی اعتبار التطابق فی الاتصاف المزبور، بل الطبیعة الکذائیّة إذا صارت خارجیّة ینتزع منها الصحّة، وإذا کانت خارجیّة، ولکنّها کانت مختلّة من ناحیة من النواحی المزبورة تکون فاسدة. وسیظهر فی طیّ الاُمور الآتیة ما یترتّب علیٰ هذه المقالة من الآثار بعدما عرفت سقوط تعریف الفقهاء والمتکلّمین أیضاً، والأمر سهل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 317