تمحیص الاستدلالات السابقة
أقول: إنّ الذی هو المحرّر منّا فی محلّه؛ أنّ معروض الوجوب الغیریّ لیس العنوان الذاتیّ، بل معروضه هو العنوان العرضیّ؛ وهو عنوان «الموقوف علیه» لأنّ وجوب المقدّمة الذی هو مورد الکلام؛ هو الوجوب العقلیّ المستکشف به الوجوب الشرعیّ، والأحکام العقلیّة لاتتعلّق إلاّ بالعناوین والحیثیّات التعلیلیّة، دون الشیء الآخر حتّیٰ تکون تلک الحیثیّات عللاً لعروضها، بل الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة عناوین موضوعاتها، فلاتکون صلاة الظهر مورد الوجوب الغیریّ، فالتمسّک المزبور بالمثال المذکور، فی غیر محلّه حسب الحقّ الذی لا مزید علیه. هذا فی المثال الثالث.
وأمّا الاستدلال، فلایتمّ إلاّ علیٰ تمامیّة الوجوب الغیریّ الشرعیّ، والامتناعیّ إمّا ینکر ذلک، أو یأوِّل کما یأوِّل فی الموارد الاُخر التی تکون النسبة عموماً من وجه.
وغیر خفیّ: أنّ تجویز اجتماع المثلین من سنخ واحد من الأحکام کما فی المثال المزبور، یلازم تجویز اجتماع الضدّین أیضاً.
وأمّا المثال الأوّل والثانی، فقد أفاد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فی المقام وفی غیره: «أنّ ماهو الواجب فی الإجارة وفی النذر هو عنوان آخر؛ وهو عنوان «الوفاء بالعقد والنذر» ولاتکون العبادة مورد الأمر التوصّلی الإیجابیّ رأساً، فلایلزم کون الشیء الواحد مورد الأمرین والحکمین: الإیجابیّ، والندبیّ، ولا الشیئین اللّذین بینهما العموم والخصوص المطلق، بل النسبة تکون من العموم من وجه، وحیث
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 250 یجوز الاجتماع فالأمر واضح».
أقول: قد عرفت أنّ الاستدلال المزبور یصحّ بناءً علیٰ هذا أیضاً؛ لأنّ مع کون النسبة عموماً من وجه إذا جاز اجتماع الحکمین: الإیجابیّ والندبیّ، فیجوز اجتماع التحریمیّ والإیجابیّ، والقائل بالامتناع یقع فی کلفة التأویل، وهو یستلزم المفاسد الاُخر کما لایخفیٰ.
والذی یتوجّه إلیه ـ مدّظلّه أوّلاً : أنّ الأمر الإجاریّ والنذریّ الباعث نحو الحجّ الندبیّ والصلاة المأمور بها بالأمر الاستحبابیّ، یکون هو المحرّک، وقد تقرّر منّا أنّ تحریک المکلّف نحو التحرّک من المحرّک الآخر غیر معقول؛ لأنّه لایمکن أن یتحرّک بالحرکتین وبالشخصین من الحرکة الواحدة فی الزمان الواحد، فعلیٰ هذا لایبقی الأمر الندبیّ باقیاً علیٰ باعثیّته نحو الطبیعة؛ وإن کان متعلّق الأمر الإجاریّ عنوان «الوفاء بالعقد» ومتعلّق الأمر النذریّ عنوان «الوفاء بالنذر».
وثانیاً: الالتزام بأنّ الوفاء هو الواجب ولاسیّما فی باب العقود، غیر تامّ إثباتاً؛ لأنّ قضیّة ذلک عدم کفایة استیلاء المتبایعین بعد البیع علیٰ ملکهما صدفةً فی جواز تصرّفهما فی المبیع والثمن، مع أنّه جائز بالضرورة عند العقلاء وحسب الأدلّة الشرعیّة.
مثلاً: إذا باع کتابه بشیء، ثمّ من باب الاتفاق انتقل الکتاب إلی المشتری، وانتقل الثمن إلی البائع، فإنّه لایحقّ للبائع أن یمنع من تصرّف المشتری؛ لأنّ ما فی یده ملکه، ولم یبقَ له حقّ الحبس؛ لأنّ الثمن انتقل إلیه وهو تحت اختیاره.
فمنه یعلم: أنّ الواجب لیس أمراً قصدیّاً وهو عنوان «الوفاء بالعقد» بل هو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 251 معنی خارجیّ، وهکذا فی ناحیة النذر، فإنّ الأدلّة ولو اقتضت بحسب الظاهر أنّ الوفاء واجب، إلاّ أنّ عنوان «الوفاء» کأنّه مغفول عنه، فیکون المنذور متعلّق الأمر الإیجابیّ، وهکذا فی مثل الحجّ.
وعندئذٍ یشکل الأمر من ناحیتین:
الاُولیٰ : من أنّ الالتزام بکون الواجب هو العنوان الآخر العرضیّ غیر ممکن.
الثانیة : أنّ الالتزام بأنّ الواجب ومعروض الأمر الإیجابیّ هو ذات العبادة، غیر ممکن أیضاً إلاّ بالتداخل، ونتیجة التداخل أن لایحنث فی النذر بترک الصلاة الواجبة المنذورة؛ لأنّ الأمر النذریّ المندکّ لا أثر لمخالفته وهی الکفّارة، فإنّها فی الشرع علی الحنث فی النذر، والحنث فی النذر متقوّم بکون المنذور واجباً علیه بالوجوب الباقی علی حدّه، مع أنّه فی مثل المثال المزبور لا حدّ للوجوب الآتی من قبل الأمر النذریّ، فتدبّر.
وبالجملة : إنّ کلاًّ من المذهبین لایخلوان من المناقشات؛ لا القول بأنّ متعلّق الأمر الإیجابیّ نفس المنذور، ولا القول بأنّ المتعلّق عنوان آخر؛ وهو «الوفاء» وستجیء بعض الإشکالات الاُخر المتوجّهة إلیٰ مقالة المشهور.
أمّا التفصیل بین الحجّ المستأجر علیه، وبین الصلاة المنذورة؛ بأنّ الأمر الإجاریّ لایتعلّق بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابیّ، بخلاف الأمر النذریّ، فإنّه یتعلّق بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابیّ، فإنّ الأمر الاستحبابیّ تعلّق بذات العبادة، والأمر الإجاریّ تعلّق بالعبادة عن الغیر المأمور بها، والأمر النذریّ تعلّق أیضـاً بذات العبادة.
فهو أفحش فساداً؛ ضرورة أنّ الأمر الاستحبابیّ لایتعلّق بذات العبادة، بل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 252 متعلّقه الطبیعة المقیّدة بإتیانها بعنوان أمرها مثلاً؛ وذلک لما تحرّر فی محلّه ومضی الإیماء إلیه، هذا أوّلاً.
وثانیاً: إنّ الأمر النذریّ أیضاً تعلّق بالصلاة المأمور بها، فلایتمّ التفصیل المتراءیٰ من کلمات العلاّمة النائینیّ قدس سره.
والذی هو التحقیق فی المسألة بعد اللتیّا والتی: أنّ المحرّر عندنا فی محلّه بطلان الإجارة فی العبادات، وما یثبت فیها عندنا ـ حسب الأدلّة ـ هی النیابة عن الغیر وعقد الاستنابة، وقضیّة العقد الاستنابیّ لزوم قصدها فی الحجّ؛ بناءً علیٰ صحّة الاستنابة فیه، علیٰ إشکال تفصیله فی کتاب الحجّ إن شاء الله تعالیٰ فما أوجبه الشرع هو قصد الاستنابة، وإذا قصد الاستنابة فلایکون هناک عندئذٍ أمر استحبابیّ إلاّ أمر المنوب عنه والحجّ المنوب فیه. هذا فی مثل الحجّ والنیابة.
وأمّا فی الصلاة المنذورة ، فالذی اخترناه بعد التفصیل الکثیر فی کتاب الصوم: هو أنّ الشرع لایأمر أمراً إیجابیّاً بشیء، بل المنذورة بعد النذر باقیة علیٰ حالها ولونها؛ وجوبیّاً کان أو ندبیّاً، عبادیّاً کان أو توصّلیاً، ولکن العقل والعقلاء یقبّحون التخلّف عن المعاهدة التی أوقعها بینه وبین ربّه بقوله: «لله علیّ کذا وکذا» والتخلّف عن هذه المعاهدة یوجب الحنث المورث للکفّارة.
وبعبارة اُخریٰ: إنّ المتخلّف یستحقّ التقبیح العقلائیّ، والعقاب الشرعیّ؛ لأجل ذلک التقبیح، لأنّ الشرع أیضاً ساعدهم علی ذلک، بخلاف سائر المقبّحات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 253 العقلائیّة، وإذا کان الأمر کذلک فیجب بحکم العقل التحرّز من ذلک، کما فی موارد الأمر والنهی.
وإن شئت قلت: إنّ عبادیّة العبادة إن کانت منحصرة بإتیانها بقصدالأمرالمتعلّق بها، فلایمکن حلّ المشکلة؛ لا علیٰ مذهب المشهور فی باب النذر، ولا علیٰ مذهب السیّد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه لأنّ علی الأوّل یکون متعلّق النذر الصلاة اللیلیّة المأموربها بالأمرالندبیّ، ولایعقل الانبعاث عن هذا الأمر الندبیّ إلاّ بالانبعاث عن الأمر الإیجابیّ النذریّ، فإذا انبعث عنه فلایکون الانبعاث نحو الصلاة بأمرها.
وعلی الثانی یکون متعلّق الأمر النذریّ هو الوفاء،والانبعاث عن هذا الأمر أیضاً لایجتمع مع الانبعاث عن الأمر الندبیّ.
وأمّا إذا کانت عبادیّة العبادة غیر منحصرة بذلک، ویکون الأمر کاشفاً ـ لأجل القید المأخوذ فی متعلّقه ـ عن صحّة التعبّد بالمأمور به، فیصحّ کلّ من المذهبین والرأیین ثبوتاً، وتکون النتیجة حسب مقام الإثبات، هی الرأی الثانی ومبنی الوالد؛ لأنّه الأوفق بالظواهر فی المقام، والله ولی الأمر.
وإن شئت قلت: مسلک المشهور أیضاً لایخلو من بعض المناقشات السابقة، ومنها عدم تصوّر الحنث؛ لأنّ الأمر الآتی من قبل النذر، یکون مؤکّداً للأمر السابق المتعلّق بالمنذور من غیر أن یستتبع شیئاً؛ حتّیٰ یحنث فی النذر، ویحتاج إلی الکفّارة، بخلاف مسلکه ـ مدّظلّه .
وغیر خفیّ: أنّ تصحیح العبادة المنذورة، لایمکن بأمرها بعد النذر إذا کان
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 254 الأمر النذریّ باعثاً، وتصحیحها علی الوجه المشار إلیه، منوط بأن یکون القید المأخوذ فی متعلّق أمرها عنواناً کلیّاً، مثل أن یأمر المولیٰ بأن تؤتی الصلاة عبادة، کما یأمر بأن یؤتیٰ بها مع الستر والطهور، فإنّه عندئذٍ تکون ما به عبادیّة العبادة تحت اختیار العبد؛ من قصد أمرها، أو غیر ذلک، أو یکون القید المأخوذ ـ ولو کان عنواناً خاصاً ـ قابلاً لإلغاء الخصوصیّة عرفاً؛ حتّیٰ یتمکّن العبد الناذر من إتیان المنذور عبادة، من غیر أن تتوقّف العبادیّة علی قصد أمرها، فلیتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 255